في جامعة ليولا، في نيوأورلينز، جرى سجال قبل سنوات بيني وبين أحد الكتّاب اليهود الأميركيين. وكما هي العادة دار جزء من السجال حول موضوع الهولوكست. المهم، يبدو أن ما دار من كلام، آنذاك، وجد نوعا من الاستحسان لدى بعض الحاضرين، وكان أغلب الجمهور، يومها، من اليهود والعرب الأميركيين.
وقد أبدى أحد الحاضرين من الفلسطينيين رغبة قوية في مواصلة الكلام حول هذا الموضوع، ثم سرد على مسامعي في مطعم للوجبات السريعة في اليوم التالي سلسلة طويلة من الأحداث والنوادر، التي عاشها نتيجة اهتمامه بتفنيد الدعاية والمزاعم الصهيونية والإسرائيلية.
ومن بين النوادر التي سردها ما أصابه عندما استمع إلى موعظة لأحد رجال الدين في كنيسة، وكيف قاطع كلام القس أكثر من مرّة، معترضا على انحيازه لإسرائيل، ومطالبا بالكلام عمّا تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، لأن ذلك لا يقل سوءا وبشاعة عن الهولوكوست. وكانت النتيجة أن أمر القس بطرده من الكنسية.
قلت للفلسطيني، المصدوم مما سمعه، إن القس تصرّف كما يجب لأن الخلط بين الهولوكوست، وبين ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين غير مفيد في هذه الحالة.
على الجانب الآخر للتل، كما يُقال، أذكر حادثة رواها أبراهام بورغ، الرئيس السابق للمنظمة الصهيونية العالمية، والرئيس السابق للكنيست، وابن يوسف بورغ، وزير الداخلية السابق، وأحد مؤسسي وقادة حزب المفدال في إسرائيل. والواقع أن ذكر هذه الألقاب جميعها مفيد في تفسير الحادثة التي أوردها بورغ الابن في كتاب صدر في الآونة الأخيرة بعنوان “الهولوكوست انتهى، فلننهض من تحت الرماد”.
يروي بورغ في كتابه كيف التقى بصديق عاد من رحلة خارج إسرائيل، وكيف تكلّم الأخير عمّا أصابه من ضيق واكتئاب بعد زيارة أوشفيتز، في بولندا، لأن الذكريات ـ والكلام للصديق ـ عادت كلها دفعة واحدة.
يعلّق بورغ على الحادثة بالقول إن المذكور يهودي عراقي، مواطن إسرائيلي ورجل أعمال، لم يعش لا هو ولا أسرته تجربة الهولوكوست، وبالتالي: ما هي ومن أين جاءت الذكريات؟
وقد استخدم بورغ حادثة ذكريات الصديق، إلى جانب أحداث أخرى، للتحذير من مخاطر السجن الأخلاقي والثقافي والإنساني، والسياسي في نهاية الأمر، الذي يُحكم الإسرائيليون بناء أسواره حول أنفسهم كمجتمع وأفراد، نتيجة توظيف الهولوكوست بطريقة خاطئة عن طريق التعليم والإعلام والسياسة، وكل ما يرد إلى الذهن من تقنيات صناعة الرأي العام، وتوليف الديانة المدنية، وهندسة الهوية الجمعية.
يمكن إيراد المزيد من الأمثلة، بطبيعة الحال، والتذكير بكتاب نورمان فنكلنشتاين عن صناعة الهولوكوست، والذي يصلح في جانب منه كوسيلة إيضاح لكتاب بورغ. كما يمكن التذكير بكتاب غارودي عن الأساطير المؤسسة للدولة الإسرائيلية، الذي يصلح أيضا كبضاعة أيديولوجية في جعبة صاحبنا الذي طرده القس من الكنسية.
ومع ذلك، فإن المزيد من الأمثلة لن يضيف إلى المراد من الكلام عن المثلين الأساسيين، أي عن صاحبنا المطرود من الكنيسة، وبورغ الحائر في ماهية ومصدر الذكريات، والسجن الذي يسجن فيه الإسرائيليون أنفسهم.
والمُراد، هنا، أن الاعتراف بالهولوكوست كمأساة وقعت في مكان وزمان محددين لا يتنافى مع حق الفلسطينيين في مقاومة الكولونيالية الإسرائيلية هذا أولا، وثانيا أن التقليل من أهمية أو حجم الهولوكوست لزيادة الاهتمام بأهمية وحجم ما أصاب الفلسطينيين يؤدي إلى نتيجة عكسية. وثالثا أن المقارنة بين الأمرين غير مجدية، وغير صحيحة، فالكولونيالية شيء والهولوكوست شيء آخر. هذا لا يعني أن الكولونيالية لا تمارس التطهير العرقي، ولا ترتكب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. ولكن بقدر ما يتعلّق الأمر بالقانون الدولي، فإن الخلط بين هذه الأشياء، والفشل في تمييزها عن ظاهرة الهولوكوست، التي تعني القضاء المادي على جنس بأكمله من بني البشر، لا يسهم في بناء أو رفع قضية ناجحة.
ذلك ما أدركه إدوارد سعيد عندما انتقد كتاب غارودي سالف الذكر، فالمشكلة ليست في الأرقام هل هي صحيحة أم لا، والمشكلة، ثانيا، أن الضحية لا تملك حقا أخلاقيا يبرر انتهاك حقوق الآخرين، والمشكلة، ثالثا، أن اختزال تاريخ اليهود في تاريخ الدولة الإسرائيلية يخدم الفكرة الصهيونية نفسها.
غالبا ما تتداخل هذه الإشكاليات في خطاب أعداد لا بأس بها من الفلسطينيين والعرب، فتكون النتيجة أننا لا نجد لغة مشتركة مع الآخرين، خاصة في الغرب، وكثيرا ما يُفسّر غياب اللغة المشتركة استنادا إلى اتهام الآخرين بازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين، وهذه في الواقع عملة رائجة.
من ناحية أخرى في أسئلة أبراهام بورغ، وهو من هو، ما يدل على ضيق وتذمّر من طريقة النخب الإسرائيلية الحاكمة والمهيمنة في توظيف الهولوكوست بطريقة تحوّل الدولة الإسرائيلية نفسها إلى غيتو من طراز جديد، وتمكّن المصابين بالعُصاب من استغلال الكوابيس التاريخية لأغراض سياسية.
وقد سبق توم سيغيف ـ الذي أرّخ لعلاقة الإسرائيليين بالهولوكوست منذ ما قبل قيام الدولة وحتى التسعينيات في كتاب بعنوان المليون السابع ـ أبراهام بورغ في الإشارة إلى ضرورة استخلاص العبر الأخلاقية للهولوكوست، وتعميمها لا كملكية حصرية لليهود، بل كملكية لبني البشر في كل مكان، للحيلولة دون تكرار تجربة كهذه لا بحق اليهود وحسب ولكن بحق بني البشر في كل مكان من العالم.
سيمر وقت طويل، ربما، قبل استخلاص العبر الصحيحة، ومع ذلك ثمة خارطة للطريق بالمعنى الأخلاقي للكلمة، وهي ليست لهم وحسب، بل ولنا أيضا.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
عن جريدة الأيام
ليست لهم بل ولنا أيضا..!!
الحالة النفسية الاجرامية “اسرائيل” اسقطت (الهولوكوست) كمحور اساس ل”وجودها” و”استمرارها” بتحولها الى استثمار اكثر “معاصرة” اثر احداث (11 سبتمبر 2001) : (يهودية الدولة) .. تاركة ما تبقى منه في المستودع للنجاد والاسلام السياسي لخدمة “المشروع الجديد”
http://www.youtube.com/watch?v=r63lgnV24-Y