في مشهد نادر، أقر رئيس الحكومة الليبية علي زيدان مؤخرا أمام “المؤتمر الوطني العام”، بأن وزارة الداخلية كوّنت 19 ألف عُـنصر من قوات الأمن، إلا أن رجال الشرطة الذين يُكلفون بحراسة الوزارات والمؤسسات الرسمية، سرعان ما يختفون، سواء أكانوا من الضباط أم من المرؤوسين. صمت زيدان وكأنه متردد، ثم أضاف “حتى الذين يحرسون رئاسة الوزراء، بل حتى الذين يحرسون مقر المؤتمر الوطني، لا نجد لهم أثرا أحيانا”. وطالما أن المؤسسة الأمنية على هذه الدرجة من التفكك وقلة الإنضباط، لا يعود مستغربا أن تتسارع وتيرة الإغتيالات السياسية في ليبيا خلال الفترة الأخيرة.
من جهة أخرى، لوحظ أن موجة الإغتيالات التي حصدت قيادات رفيعة المستوى في الجيش وأجهزة الأمن، امتدت إلى حقوقيين ونشطاء سياسيين، آخرهم الإعلامي عبد السلام المسماري، الذي قُـتِل لدى خروجه من المسجد في بنغازي عقِب صلاة الجمعة. وهاجم متظاهرون بعد تشييعه، مقرّات تابعة لـ “العدالة والبناء”، فيما تمكّن 1200 معتقل من الفِرار من سجن “الكويفية” في بنغازي. كما اغتال مسلحون مجهولون في بنغازي أيضا وفي اليوم نفسه، القاضي مفتاح الخفيفي بعد أدائه صلاة الفجر.
ونتيجة لتدهْوُر الأوضاع الأمنية في البلد، فضّل عدد من السفراء الأجانب، من بينهم السفيرة الأمريكية ديبورا كي جونز، مغادرة ليبيا، في خطوة تدلّ على أن عواصمهم تتوقّع ظهور مزيد من المخاطِر الأمنية في هذا البلد.
وكثيرا ما تقف جماعات مسلّحة خارجة عن القانون وراء الإغتيالات. وتعتقد مريم وحيد المُعيدة بقسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن ليبيا تُمثِّل نموذجا للبلدان التي انتشر فيها عُنف الجماعات بعد الثورة، بسبب ضعف المؤسسة العسكرية وعجْز الحكومة عن بناء مؤسسات قوية، إذ لم يستطع “المجلس الوطني الإنتقالي” (2011 – 2012) ومن بعدِه “المؤتمر الوطني العام”، نزع سلاح هذه الميليشيات أو دمج مقاتليها في ألوية الجيش الرسمية أو تسريح الراغبين في العودة إلى الحياة المدنية.
وقالت وحيد لـ swissinfo.ch، إن العنف عبْر الإقليمي، هو عنف يخترق الحدود و”تتشابك فيه الجماعات المسلّحة، لاسيما التي لديها مُغذيات من السلاح والتمويل”، وضربت مثلا على ذلك، بالتشابكات بين الجماعات الليبية المسلّحة ومثيلاتها في سيناء وتونس، أقلّه في مستوى التسليح.
بناءً على هذه القراءة للمشهد الليبي، استنتجت مريم وحيد وجود “علاقة ارتباطية طردية بين غياب شرعية الحاكم وارتفاع حدّة العنف”. وينسجم هذا القول مع نظريات كِبار علماء الإجتماع، من أمثال ماكس فيبر، الذين ربطوا مشروعية العُنف باحتكار السلطة الشرعية صاحبة السيادة له وفق القواعد القانونية، وتوظيفه في فرض الأمن والنظام والإستقرار في المجتمع، ومن ثَم استئثار السلطة بأدوات القهْر الإجتماعي في نِطاق الإرادة الجمعية المُنبثقة من العقد الإجتماعي القائم.
في المقابل، لا يستند العنف غيْر المشروع على أسُس المشروعية القانونية أو الشرعية السياسية، إذ أنه يتحوّل إلى أداة لتحقيق مصالح ذاتية، سواء التشبّث بالسلطة أو تفكيك بنية المجتمع وإعادة توزيع عوائد التنمية، ناهيك عن العصابات الإجرامية الهادِفة للثراء غير المشروع.
وفي هذا السياق، يُحذر خبراء ممّا سمّـته الكاتبة ليلى بن هدنة بـ “فائض السلاح” في ليبيا اليوم، إذ أن المخازن فتحت بعد الإطاحة بمعمر القذافي، “ليحصل منها الشعب على ما يشاء من مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والأسلحة الثقيلة”. وأضافت أنه “بحسب استخبارات غربية، يُقدّر عدد الصواريخ التي اختفت من مستودعات السلاح الليبية، بنحو ثلاثة آلاف صاروخ في يونيو الماضي فقط. عِـلماً بأن هذه الصواريخ بالغة الخطورة، وهو ما يُـثير المخاوف من خضوع السلاح لعناصر «القاعدة»، وقيامها بعمليات تفجيرية،” على حدّ قولها.
استقالة وانسحاب
على هذه الخلفية، يمكن القول أن المشهد السياسي زاد تعقيدا باستقالة وزير الداخلية محمد خليفة الشيخ، مُطلِقا اتهامات ضدّ رئيس الحكومة الإنتقالية علي زيدان بعرْقلة عمله وحجْب “الدعم المادي والمعنوي عنه”. وقَبِل زيدان الإستقالة فورا وكلّف نائب الوزير الصديق عبد الكريم بتسيير الوزارة، واتهم بدوره الوزير المستقيل بكثرة الغياب عن اجتماعات مجلس الوزراء. لكن استقالة الشيخ حملت دلالات سياسية، باعتباره محسوبا على جماعة الإخوان المسلمين، كما أنها الإستقالة الثانية من هذا المنصب، بعد العميد عاشور شوايل، الذي فُرضت عليه الإستقالة قبل أشهُر بموجب قانون العزل.
وبشكل عام، يتسبّب تغيير وزراء الداخلية في إرباك تنفيذ الخطط الأمنية. فقد وضع شوايل مع رئيس هيئة الأركان السابق اللواء يوسف المنقوش، خطّة مُشتركة بين الشرطة والجيش، لفرض الأمن في ليبيا، وبخاصة مدينتيْ بنغازي وطرابلس، لكنها لم تُنفَّذ بعد إعفائهما من منصبيهما. كما اشتكى وزير الداخلية المستقيل أخيرا محمد خليفة الشيخ من كونه لم يحصل على الدّعم المالي والمعنوي اللازميْن، من أجل تطبيق برنامج الإصلاحات الذي وضعه على ما قال.
مع ذلك، فرض تصاعد وتيرة الإغتيالات وسطوة الجماعات المسلحة، اتّخاذ بعض الإجراءات العاجلة، التي اكتست طابعا فنيا لمحاولة تطويق العُنف المسلّح، ومنها انضمام عناصر اللّجنة الأمنية العليا المؤقتة بالعاصمة طرابلس إلى مديرية الأمن الوطني، تفعيلا لقرار حكومي صدر مؤخّرا في هذا الصدد.
الخُطوة جاءت في إطار استِكمال عملية دمْج اللجان الأمنية، ضمن إدارات وزارة الداخلية وأجهزة الشرطة، إلا أن الجماعات المسلحة الرئيسية في البلاد، ما زالت خارج سيْطرة وزارتيْ الداخلية والدفاع، بل إن أعضاء في “المؤتمر الوطني العام” أكدوا لـ swissinfo.ch أن الحكومة تصْرِف قُرابة مليار دينار ليبي على تلك التشكيلات، بأمر من رئيس الوزراء، لمحاولة ترضيتها وتفادي لجوء عناصر الميليشيات إلى إثارة المزيد من القلاقل.
في هذا السياق، رأت الدكتورة مريم وحيد أن ليبيا لم تعرف تراجُعا للعُنف إبّان الثورة ولا في المرحلة الإنتقالية، “بسبب تشرْذُم مؤسسة الجيش وعدم قدرة حكومات ما بعد الثورة على إعادة بنائها ونزع سلاح الميليشيات”.
لا مفر من التذكير هنا بأن رئيس الحكومة حذّر فعلا وفي أكثر من مناسبة من أن انتشار السلاح خارج إطار الجيش والشرطة، أي خارج إطار القوات النظامية، بحجّة الثورة أو بحجّة الحفاظ عليها، “سيكون فتّاكا وسيفتك بمَن يعتقد أن السلاح سيحميه”، مؤكّدا في الوقت نفسه، أن مصدر هذا السلاح، هو مخازن نظام القذافي، ونافيا أن تكون الدولة مقصِّرة في حِفظ الأمن.
أزمة حكومية
في الأثناء، دفعت حالة عدم الإستقرار في البلاد، الدكتور علي زيدان للتلويح باستقالة حكومته، كما لوّح التحالف الذي يدعمُه في البرلمان (تحالف القِوى الوطنية) بالإنسحاب من الحكومة، قبل أن يُنفذ تهديده مطلع شهر أغسطس 2013.
وجاء في بيان أصدره التحالُف أنه “استجابة للمؤتمرات التي عُقِدت في شرق البلاد وغربها وللمظاهرات الكثيرة ومطالِبها، فإنه يُعلن تجميد مشاركته في العملية السياسية، ممثلة في المؤتمر (الوطني العام) والحكومة، إلى حين إقرار الدستور الذي ينظم الحياة السياسية، بحيث يكون لأعضاء التحالف، سواء في المؤتمر أو الحكومة، حرية الاختيار كأفراد بين الإستمرار من عدمه”.
وتتألف حكومة زيدان، التي تشكَّلت في شهر نوفمبر 2012 من 29 وزيرا، من بينهم أربعة على الأقل من التحالف الذي يقوده محمود جبريل، وهو من أكبر الخصوم السياسيين لـ”حزب العدالة والبناء” الإسلامي، الذي ينتمي له وزير الداخلية المستقيل محمد خليفة الشيخ. لكن، على رغم موجة الإستقالات، فالظاهر أن حكومة زيدان ستستمِر، لأنه ليس هناك بديل منها اليوم، ما يعني أن البلد سيغرق في أزمة سياسية تزيد من تعقيد الأوضاع.
وكان تحالُف القِوى الوطنية، اعتبر في بيانه الذي حمل عنوان “إلى 933 ألف ناخب ليبي”، في إشارة إلى عدد الأصوات التي حصدها مرشّحوه، أن “الأحداث المؤسِفة في الأيام الأخيرة في كل من بنغازي وطرابلس وغيرها، وخاصة اغتيال الشهيد عبد السلام المسماري، إنما هي أحداث تمّ تخطيطها وتنفيذها، لإثبات أن الجيش والشرطة الضعيفين لن يستطيعا حماية أمْن الوطن والمواطِن، وهو ما أعطى مبرِّرا لرئيس المؤتمر (الوطني) ليُصدر قرارا منفرِدا بتفويض الدّروع والكتائب المسلحة للقيام بحماية الشرعية”، في إشارة إلى القوات غير النظامية التي تفرض سيْطرتها على معظم مناطق ليبيا.
وتقول قيادات من تحالف القوى الوطنية، إن تلك الكتائب هي ذاتها التي اقتحمت مقرّ المؤتمر الوطني “وضربت أعضاءه وأهانت رئيسه وحاصَرت وزاراته وفرضت قانون العزل السياسي بقوة السلاح”. كما تعتبر تلك القيادات أن إحالة مشروع قانون تشكيل الحرس الوطني على المؤتمر العام للتصديق عليه “يشكّل استكمالا لحلقات اغتيال فرصة بناء الجيش الوطني”. وعزت تعليق عضوية ممثلي التحالف في المؤتمر الوطني، إلى رفض “المشاركة في إصدار تلك القرارات والقوانين”.
عموما، يعتقد خبراء السياسة أن إصابة قبضة الدولة بالوهن في مراحل ما بعد الثورات “شكّل تربة خَصْبة لبعض الجماعات السياسية، للعودة إلى الإنتماءات الأضيق وتكريس العزلة وتبلور الإستقطاب، ومن ثَم تحفيز العُنف، ما جعل ليبيا تواجه خرائط جديدة، قبلية ومناطقية وأحيانا إثنية (الأمازيغ)”، كما تقول الدكتورة مي مجيب، مُدرِّسة العلوم السياسية في جامعة القاهرة.
وترى مجيب أن تلك الإنتماءات القبلية والمناطقية تقوى، كلّما ضعفت هيبة الدولة وتراجعت قُدرتها على تطبيق القانون، ومن ثَم يبرز الإنتماء الأولي على حساب الإنتماء للدولة، الأمر الذي يضرب أسُس المواطنة ويوجد فرصا أكبر للعنف.
وقالت الدكتورة مجيب لـ swissinfo.ch إن تبايُن سياسات النظم الانتقالية إزاء الجماعات، تكون ناتجة عن أنها نُظم جديدة مُحمّلة بأعباء الماضي وطموحات المستقبل، وتواجه تحدّي الإنتماءات الضيِّقة التي تمّ تكريسها في السابق على حساب المواطنة، والتي تحكمها الروابط الخاصة والأهداف الذاتية، وإن تعارضت مع الأهداف العامة للدولة.
على هذا الأساس، رأت مجيب أن “الفشل المؤسّسي الذي تُعانيه الدول في المراحل الإنتقالية، ينتج عنه تضارُب في سياستها، مما قد يُعمّق الخلافات بين الجماعات وبينها وبين الدولة، باعتبار أن هذه الأخيرة هي القوة المركزية التنظيمية والإنتاجية التي تُعنى بتعبِئة الموارد وتوزيعها”.
صراع الغريمين
غير أن الأزمة السياسية الرّاهنة في ليبيا، لم تعد تقتصر على الصراع بين الدولة والجماعات المسلحة، بل انتقلت أخيرا إلى أزمة حادّة بين الفُرقاء السياسيين. واندلعت هذه الأزمة الجديدة مع تسمِية عُضو بارز في حزب العدالة والبناء رئيسا لديوان المحاسبة، إذ اعتبر تحالُف القوى الوطنية أن مَن تُسند لهم المناصِب السيادية، لا ينبغي أن ينتموا إلى أي كِيان سياسي، وانتقد بشدّة رئيس المؤتمر الوطني وأعضاءه الذين صادَقوا على ذلك التعيين، متسائلا: “هل نحن الآن أمام إجراءات استباقية سريعة تنفّذ للسيْطرة على مفاصل الدولة، مخافة من أن يتكرّر في ليبيا ما حدث في مصر؟”.
غير أن بشير الكبتي، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، نفى تلك الإتهامات وانتقد “إطلاق بعض الشخصيات السياسية تصريحات إعلامية عند حدوث الأزمات أو عمليات الإغتيال تزج فيها بجماعة الإخوان الليبية وتتهمها بشكل مباشر، نتيجة خلافاتها معهم”، في إشارة واضحة إلى غريمه “تحالف القوى الوطنية”. وطمأن الكبتي الجميع إلى “أن جماعة الإخوان المسلمين الليبية، ليس من منهجها القتل والإغتيال، وهي تستنكِر وتندِّد بمثل هذه الحوادث، وتحُثّ على اللجوء إلى القضاء، ليكون فيصلا وحَكَما بين الأفراد ومحاسبة المقصّرين والمتآمرين على الدولة وأجهزتها”.
إلا أن الخطر الذي يتهدّد التجربة الإنتقالية في ليبيا، يبقى متمثلا بالدرجة الأولى في الجماعات المتطرّفة المدجّجة بالأسلحة من كل الأحجام. وحذر الدكتور عبد الفتاح ماضي، أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية، من أنها تشكِّل تحديا خطرا قد يُجهض مسار التحوّل بأكمله. وقال في تصريحات لـ swissinfo.ch: “إن تجارب الانتقال الديمقراطي تؤكّد أنه ما من مجتمع استطاع بناء دولة المؤسسات الحديثة، بينما هناك قوى تحاوِل هدْم الدولة من أساسها، وتحمل أجندات مناقِضة تماما لغالبية القوى الأخرى، ولهذا، فالتراخي مع الدّعوات المُنادية بتشكيل جيوش “جهادية” ومع مَن يرفع السلاح في وجه المخالفين له في الرأي، لن يُؤدِّ في حالة السيولة القائمة، إلا إلى عرقلة مسار بناء الدولة الوطنية الحديثة واستنزاف القدرات الأمنية والعسكرية”.
وأضاف ماضي، أن “أفعال تلك الجماعات ستؤدّي على الأرجُح إلى التأثير بالسّلب في الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، إذ سينظر البعض إلى الحركات “الجهادية” على أنها الأذرع الخفية للإسلاميين المُعتدلين، بينما سيراها البعض الآخر على أنها النّتاج الطبيعي لفشل الإسلاميين وإقحام الدّين في السياسة. وفي الحالتين، سيتحمّل الإسلاميون بجميع أطيافهم، نتائج تلك الأفعال، ومن الخطأ تصور أن وجود تلك الحركات أو الإبقاء عليها بأساليبها العنيفة، سيدفع الناس إلى القوى الإسلامية المُعتدلة كبديل”.