في حين ترسم أروقة الأمم المتحدة “خرائط طريق” منمقة بمصطلحات دبلوماسية ناعمة، تدور على الأرض في ليبيا معركة وجودية شرسة تتجاوز نصوص البيانات لتلامس أصابع النار. إن قراءة متأنية لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة الأخير(أنظر أدناه)، ومطابقته مع بيان « حكومة الوحدة الوطنية » الصادر للتو، تكشف عن مشهد سوريالي: سلطة تنفيذية وُلدت من رَحَم “مبادرة جنيف” لتكون جسراً مؤقتاً، تحولت إلى حصن يقاتل للبقاء، مستخدمةً كل أدوات المناورة السياسية، والتحصين العسكري الأجنبي، للقفز فوق استحقاقات الرحيل.
موت السياسة في غرفة “الحوار المهيكل“
لقد جاء تقرير الأمين العام واضحاً في تشخيصه للحلّ عبرَ ركائز ثلاث، أخطرها على السلطة الحالية هي الركيزة الثانية: “توحيد المؤسسات بما يشمل تشكيل حكومة موحدة“.
هذا النص الأممي الصريح هو ما استشعرته حكومة الوحدة الوطنية في بيانها الأخير، فردّت عليه بترحيب“ملغوم” بمسار “الحوار المهيكل“، لكنها سرعان ما نسفت جوهره حين اعتبرت أن “جوهر المرحلة لا يرتبط بتعدد المسارات“، وأعلنت عن نيتها إجراء“تعديلات وزارية” لملء الشواغر.
هذا التناقض ليس زّلّة لسان، بل هو تكتيك “الهروب إلى الأمام“. فبينما تتفق حظيرتا « الكلبتوقراطية” المتمثلة في “مجلس النواب” و“المجلس الأعلى للدولة » على تغيير المناصب السيادية وإعادة تشكيل مجلس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، تحاول الحكومة في طرابلس قطعَ الطريق على أي جسم تنفيذي جديد عبر إعادة تدوير نفسها، وتقديم “التعديل الوزاري” كبديلٍ عن“التغيير الحكومي“. إنها محاولة لفرض أمرٍ واقع يقول للعالم: “أنا المشكلة وأنا الحل ».
لعبة الوقت: الدستور كَمِتراس في معركة الديوك
تتجلى “السياسوية” المفرطة في حديث الحكومة عن أولوية “الاستفتاء على الدستور“. ظاهرياً، يبدو المطلب ديمقراطياً، لكنه في التوقيت السياسي الراهن يُقرأ ككلمة حق أُريد بها تمديد. فالدخول في مسار استفتائي جدلي الآن يعني عملياً تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لسنوات أخرى، وهو ما يضمن بقاء الوضع الراهن. هذا التوجه يتعارض جذرياً مع المسار الذي تقوده البعثة الأممية والذي يهدف لإنهاء الفترة الانتقالية عبر انتخابات شاملة، وليس إدخال البلاد في جدلٍ دستوري لا ينتهي.
الخارج كطوق نجاة: بين أنقرة وواشنطن
لا يمكن فصلُ تَعنُّت الحكومة في الداخل عن شعورها بالأمان المستمد من الخارج. فبينما يشير التقرير الأممي إلى دور تركي “هام” في الوساطات الأمنية بطرابلس، يأتي طلبُ البرلمان التركي بتمديد بقاء القوات في القواعد الاستراتيجية (الوطية، طرابلس، مصراتة، الخمس) ليمنح الحكومة في طرابلس “بوليصة تأمين” عسكرية. لقد تحولت الحكومة، التي انحرفت عن معايير جنيف، من سلطة توافقية إلى طرف في صراع محمي بالمليشيات والجيوش الأجنبية.
لكن هذا الأمان قد يكون وهمياً في ظل المتغيرات الدولية. فمع اقتراب المهلة الأمريكية المحتملة لإصدار عقوبات ضد تنظيمات الإسلام السياسي (الإخوان)، تجد الحكومة وحواضنها السياسية نفسها في سباق مع الزمن. إن التلويح بالعصا الأمريكية قد يدفع هذه الأطراف إلى مزيد من التشدد والتمترس، خوفاً من أن يؤدي أي تنازل سياسي إلى انكشاف كامل أمام الخصوم المحليين والدوليين.
الهدوء الذي يسبق العاصفة
يخطئ من يظن أن الهدوء النسبي في طرابلس هو سلام دائم. فالتقرير الأممي يوثّق هشاشة الوضع: ميليشيات تتصارع، اتفاقات أمنية شفهية لم تُكتب بعد، وتحشيدات عسكرية ثقيلة تحركت سابقاً من مصراتة إلى طرابلس. وفوق هذا، يعيش المواطن تحت وطأة أزمات مفتعلة، من طوابير الوقود التي سببها التهريب والسيولة وغلاء المعيشة، إلى الإنفاق الموازي والعملة المزورة.
حتمية الصدام
إننا أمام مشهد “انسدادٍ كامل“:
● أجسام تشريعية (النواب والدولة) تسعى لإسقاط الحكومة وتغيير المفوضية.
● حكومة أمر واقع ترفض الرحيل وتناور بـ“تعديلات شكلية” وتستقوي بالحليف الخارجي.
- بعثة أممية تحاول تدوير الزوايا بـ“حوار مُهِيكَل” قد لا يجد من ينفذه.
إن استنفاد أدوات المناورة السياسية، وتزامنها مع ضغوط دولية (عقوبات أمريكية) وتحشيدٍ إقليمي (تمديد تركي)، يجعل من الخيارات السلمية ترفاً يتآكل يوماً بعد يوم.
عندما تفشل “السياسة” في توزيع السلطة، تتدخل“البندقية” لفرضها. وما نشهده اليوم من بيانات وتصريحات ليس إلا ضجيجاً يملأ الفراغ قبل أن تدوي المدافع، في صراع قد يكون الأشرس، لأنه صراع الفرصة الأخيرة للبقاء
*
تقرير الأمين العام للأمم المتحدة عن ليبيا
S_2025_792-AR

تشخيص صحيح لواقع ..ومع هولاء السفلة لا مناص من تحرك الشارع رغم مايعانيه بل ربما بفضل تلك المعاناة