https://www.thegeopoliticaldesk.com/
️️
في كل مرة يطل فيها العالم على ليبيا عبر تقارير المراكز البحثية أو أوراق “الخبراء”، يتكرر المشهد نفسه: لغة دبلوماسية أنيقة تخفي عجزًا مزمنًا عن فهم الواقع. الورقة الأخيرة الصادرة عن Geopolitical Desk بعنوان “Restoring Leverage: How UNSMIL Can Relaunch a Credible Process in Libya” ليست استثناءً، فهي تعيد إنتاج الصورة النمطية التي ترى ليبيا مجرد ملف تفاوضي يمكن إصلاحه بالحوارات والمؤتمرات، بينما تغيب عن المشهد القوى الفعلية التي تتحكم في الأرض والمال والسلاح.
الورقة تتحدث عن “استعادة النفوذ الأممي” وكأن فقدانه أزمة شكلية يمكن ترميمها بخطاب جديد. لكنها تتجاهل أن المصداقية لا تُستعاد بالكلمات، بل بالفعل، وأن قرارات مجلس الأمن نفسها كانت أحد أسباب تآكل الثقة، لأنها بقيت حبراً على ورق، تُصدر العقوبات ولا تُنفذها، وتفرض الحظر بينما تُغض الطرف عن تهريب السلاح والنفط. هكذا تحولت البعثة الأممية إلى مراقب عاجز أكثر منها فاعلاً سياسياً.
المال هو المحرك الخفي
ما أغفلته الورقة بوضوح هو أن جوهر الأزمة الليبية ليس سياسياً فحسب، بل اقتصادياً في المقام الأول. فالميليشيات لم تُخلق من فراغ، بل من اقتصاد موازٍ قائم على النهب والتهريب والجبايات والصفقات غير المشروعة. المال العام تحوّل إلى شريان يغذي الفوضى، فيما أُسست شبكات مافيوية تدير الدولة من الداخل.
أي مشروع للسلام يتجاهل هذه الحقيقة محكوم عليه بالفشل، لأن من يسيطر على المال يسيطر على القرار.
إغفال حرية الرأي والإعلام
تتحدث الورقة عن “الحوار بين الأطراف الليبية”، لكنها تتغافل عن البيئة السامة التي تُصنع فيها الكراهية. الإعلام الموجّه الذي يمول بخيوط خارجية، وخطاب التحريض الذي يُعيد إنتاج الحرب كل يوم، هي عناصر غائبة تماماً عن تحليل Geopolitical Desk.
لا يمكن لأي مصالحة أن تنجح في فضاء يُقمع فيه الرأي الحر وتُصادر فيه الكلمة قبل الرصاصة. فالكلمة الحرة ليست رفاهية ديمقراطية، بل ضرورة أمنية؛ لأنها تخلق المساحة التي يُمكن أن يتنفس فيها السلام.
واقع يتجاوز النفوذ الأممي
الورقة تفترض أن بإمكان البعثة الأممية “استعادة نفوذها”، لكنها لا تشرح كيف يمكن لذلك أن يحدث في ظل غياب الأدوات الفعلية على الأرض. الأمم المتحدة اليوم محاصَرة بين قوى محلية لا تعبأ بقراراتها، ودول إقليمية تشتبك في الملف الليبي عبر وكلاء وسماسرة نفوذ.
النفوذ لا يُستعاد ببيانات، بل بإعادة صياغة علاقة البعثة بالمجتمع الليبي، من وسيط خارجي إلى شريكٍ في بناء المؤسسات ومكافحة الفساد.
الطريق الواقعي نحو السلام
المخرج الحقيقي يبدأ من تجفيف منابع المال الذي يغذي العنف. يجب فرض رقابة صارمة على موارد الدولة، وعلى رأسها النفط، وتجميد الأصول التي تمول المليشيات، وملاحقة شبكات التهريب العابرة للحدود.
بعد ذلك، ينبغي بناء فضاء إعلامي مستقل يحمي حرية التعبير، فبدون حرية الكلمة لن يولد أي مشروع سلام.
ثم تأتي العدالة الانتقالية بوصفها أساس الثقة بين المواطن والدولة، تضع حداً للإفلات من العقاب، وتفتح الطريق أمام مصالحة حقيقية لا تقوم على المجاملة بل على الحقيقة.
استعادة البوصلة لا النفوذ
ورقة Geopolitical Desk تعيدنا إلى المربع الأول، لأنها تنظر إلى ليبيا من مسافة دبلوماسية بعيدة عن نبض الشارع وحرارة الواقع.
البلاد لا تحتاج إلى “استعادة النفوذ”، بل إلى استعادة البوصلة الأخلاقية والسياسية. فحين يُوقف المال الفاسد عن تمويل الحرب، وتُحمى الكلمة من الرصاص، وتُعاد الشرعية إلى العدالة لا القوة، عندها فقط يمكن أن يُقال إن ليبيا بدأت طريقها نحو الاستقرار.
السلام ليس اتفاقاً يُوقّع، بل ثقافة تُبنى. وما لم يُفهم ذلك، ستظل القرارات الدولية حبراً يكتب التاريخ من بعيد بينما يحترق الواقع بالقرب.
