|
إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(الصورة: مأساة “درنة” نموذج لعواقب حكم اللصوص)
*
تعيش ليبيا في دوامة من الانهيار المؤسسي العميق، متجاوزة تصنيف “الدولة الفاشلة” إلى ما يمكن وصفه بحالة“تحت الفاشل“. هذا الواقع ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج تضافر نفوذ “كليبتوقراطية” (تُترجم بالعربية، عادةً، بتعبير “حكم اللصوص”.. الشفاف) محلية ومافيات مفترسة للسلطة، تعمل على تفكيك الدولة بشكل منهجي لضمان استمرار مصالحها. المفارقة تكمن في أن الجهة الدولية التي كان من المفترض أن تكون طوق النجاة – الأمم المتحدة وبعثتها (UNSMIL) – تجد نفسها محل انتقاد حاد لتحوّلها عن دورها الجوهري، لتصبح طرفاً يضفي شرعية على الفوضى.
قرار مجلس الأمن 2009 لسنة 2011
الفساد المُمَنهج وتدمير مقومات البناء
السمة الأبرز للواقع الليبي هي الانهيار وانعدام فاعلية جميع المؤسسات، من العدالة إلى الخدمات العامة. لقد تحوّل الفساد من ظاهرة إلى هيكل ممنهج تُستخدم فيه الموارد الوطنية لتمويل الصراع وتدمير القطاعات الحيوية:
▪︎ تجريف الخدمات والحقوق: انخفض مستوى الصحة والبيئة إلى ما دون الحد الأدنى للمعايير الإنسانية. هذا التدهور لا يقتصر على البنى التحتية؛ بل يمتد إلى انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الأساسية، مما يخالف صراحة ميثاق حقوق الإنسان الذي التزمت به ليبيا.
▪︎ خنق الإبداع والابتكار: تشهد البلاد تقاعساً عن حماية حقوق الملكية الفكرية، مما يعد خرقاً بالتزامات دولية كـ”إعلان بيرن”. هذا التقاعس يقتل أي دافع للتنمية والابتكار، ويؤدي إلى هجرة الكفاءات، مبقياً الاقتصاد الليبي محصوراً في حلقة الصراع على الثروات النفطية.
▪︎ إفساد التعليم وقمع الفكر: يتعرض قطاع التعليم لتدهور متسارع وتسييس للمناهج، مصحوباً بـقمع لحرية التعبير والتفكير وتهميش متعمد للمثقفين والمفكرين. هذا التجفيف للعقل المنتج والفكر المستنير يفتح الفضاء واسعاً لخطاب التطرف والكراهية.
البروباغاندا: الأداة “الأكثر نجاحاً” للمافيا
في ظل تآكل مؤسسات الدولة، تبرز قوة وحيدة تحظى بتمويل ودعم هائلين: إعلام البروباغاندا. هذه الأجهزة الإعلامية، التي تمولها المافيات المستفيدة، لا تعمل على الإخبار بل على التضليل المنهجي، وتشويه الحقائق، وبث خطاب الكراهية لتعميق الانقسام المجتمعي. إن نجاح هذه الآلة الدعائية في السيطرة على الوعي العام وتوجيه الرأي هو مؤشر على أن تشتيت الشعب هو أولوية لهذه القوى، تفوق بكثير أولوية توفير الخدمات أو التعليم.
الأمم المتحدة: الانزلاق من المنهج إلى المظهر
كان التدخل الدولي، وعلى رأسه بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL)، الأمل الأخير لوقف الانهيار. لكنبدلاً من ممارسة تفويضها القوي المستمد من قرارات مجلس الأمن، وُجِهت للبعثة انتقادات واسعة تشير إلىانحراف في دورها وفعاليتها.
ويرى كثيرون أن البعثة تحوّلت إلى ما يشبه شركة علاقات عامة دولية؛ تكتفي مهمتها بـالتجول والتقاط الصور وإصدار تصريحات إعلامية مضللة لا تحاكي الواقع ولا تجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها. لم تستخدم البعثة نفوذها بفاعلية لحث المؤسسات على الالتزام بالحد الأدنى من المعايير الدولية أو محاسبة المسؤولين عن انتهاك المواثيق الدولية، بما في ذلك حماية حقوق الملكية الفكرية وحرية الفكر.
هذا الدور “السلبي” أو “المشبوه” لا يضر فقط بمستقبل ليبيا، بل يُعد مخالفة لأدبيات وتعهدات ومنهج الأمم المتحدة ذاتها. لقد ساهم هذا الموقف في إطالة أمد الأزمة، ومنح غطاءً دبلوماسياً لـ“الكلبتوكراسيين” للاستمرارفي نهب الموارد تحت مظلة “المفاوضات” و“التسوية السياسية“.
سيكون من الضروري تغيير البوصلة للخروج من هذه الهاوية، لا بد من تغيير جذري في الاستراتيجيتين الداخلية والدولية:
▪︎ المحاسبة والشفافية الداخلية: يجب تفعيل آليات الرقابة والقضاء لمكافحة الفساد وتفكيك شبكات الكلبتوقراطية، مع التركيز على استعادة سيادة القانون كركيزة لأي تقدم.
▪︎ استعادة الأولويات الوطنية: يجب وقف تمويل البروباغاندا وتوجيه الموارد نحو إعادة تأهيل قطاعات التعليم والصحة، وضمان حماية الملكية الفكرية كأداة لبناء اقتصاد معرفي متنوع.
▪︎ تصحيح الدور الأممي: يتعين على الأمم المتحدة إعادة تقييم شاملة لدور بعثتها في ليبيا، والانتقال من دور المراقب السلبي إلى دور أكثر إلزاماً وحزماً. يجب أن تركز البعثة على الضغط الفعلي لفرض الالتزام بالمعايير الدولية، ومكافحة الفساد، وضمان احترام الحقوق الأساسية وحريات الفكر كشرط أساسي لشرعية أي عملية سياسية مقبلة.
هل يلتزم المجتمع الدولي بمراجعة نهجه، والانتقال من إدارة الأزمة إلى مساعدة حقيقية في بناء دولة مؤسسات فاعلة، أم سيستمر في إطالة أمد انهيار ليبيا؟
