شفرة اليمن: لودر
تتآكل مكونات الدولة وتنحسر كافة أشكال الحضور الرسمي الفعلي والرمزي لمؤسسات وأجهزة السلطة، وتتضارب وتتهتك أدوات القبضة العسكرية –الأمنية، وتهرول دولة “العقد الأمني” إلى قعر الهاوية بسرعة قصوى لم يعد ينفع معها الحديث عن ابتلاء البلاد بجيش منقسم وأمن غير ملتحم لأن المعلم الأبرز لما يسمى بـ”المؤسسة العسكرية والأمنية” هو التفكك والتشرذم. وليس ثمة من يلحق أو من يحمل بارقة ضوء في آخر النفق تبعث الأمل في إمكانية تدارك واحتواء جمرات اللهب المتطايرة في الأرجاء وكبح اندفاع عجلة الانهيار الشامل.
وحتى عندما يستجيب الناس لنداء غريزة البقاء والدفاع عن حقهم في الوجود، ويخوضون معترك تقرير مصيرهم بأنفسهم، فإنهم لا يتوفرون على غطاء حمائي ولا على مدد تضامني وإنساني ولا على سند إقليمي وأممي؛ لأن الدولة الضاربة في أفولها أفسحت موقع الصدارة للانكشاف ومنحت التشظّي، في صحراء انعدام السياسة، تأشيرةَ الإقامة المستدامة.
بالمناسبة، كان بالإمكان الاخذ بتجربة مدينة ومديرية “لودر” بمحافظة أبين وتعميمه على معظم أرجاء اليمن التي انخرطت في ماراثون الخروج السريع عن كافة أشكال التحكم والسيطرة وآخرها الشكل العسكري الامني العصابي البدائي. ولكن الشواهد تقول بأن نموذج لودر لم يحظ بحقه من الالتفات ولم يحفز فضول العقول على قراءة ما حدث هناك وصار يتكرر بكارثية في معظم الارجاء.
لقد صار منطق الشواهد والوقائع يدعو الى تشفير حالة اليمن كلها بلودر التي كانت مكبلة ببراثن الانهيار الشامل بعد أن استباحتها الجماعات المسلحة من “القاعدة” و”انصار الشريعة” ودمرها التراشق بنيران الاسلحة الثقيلة والخفيفة والمتوسطة بين هذه الجماعات والعسكر التابعين لمراكز القوى في صنعاء، ما اسفر عن تهجير وتنكيل جماعي بآلاف السكان، وتدمير لمعظم المنازل والمدارس، وتفجير لخزانات المياه، وسطو على اسلاك الكهرباء والاتصالات، واستيلاء على مقار الامن السياسي والبحث الجنائي والشرطة وتجريف للمدينة من كافة المؤسسات والخدمات ومن أركان السكينة والأمان
والاستقرار والتعايش ومن الامن والعسكر، وتفخيخ ونسف للاسواق والمرافق الصحية والمستشفى العام والحافلات العامة، وترويع للأهالي بانفجارات لا تنقطع لعلعتها، وحرائق تأكل الاخضر واليابس، وانفلات عقال العصابات المسلحة والسراق وشذاذ الآفاق والمتطرفين القتلة الذين تقاطروا على لودر من شتى الاصقاع وحاصروها وأمطروها بالنيران وعملوا على زجها في أتون اللعبة المنهجية والجهنمية بين جماعات “انصار الشريعة” وعسكر الحكومة إذ كانت عناصر الجماعة تتحرش بمعسكر الجيش أو تعترض مركباته وأطقمه وكان هؤلاء وأولئك يحولون المدينة الى ساحة للاشتباك والتراشق
بالنيران والاحتراب والانتهاب والاستباحة!
والى مسرح لعواء وعربدة الاشباح وأبناء آوى.
ما يجب أن يحكى ويعتبر
يقول الزميل الكاتب جهاد عبدالله حفيظ الذي استضافه منتدى الجاوي الثقافي بصنعاء السبت الماضي وهو مؤلف كتاب “اللجان الشعبية –إرادة شعب”: إن تجربة ملتقى شباب لودر “اللجان الشعبية” فريدة وينبغي أن تعمم وتحتذى في اليمن كلها لأن ما حصل هناك يتكرر بكارثية ومأسوية في أكثر من منطقة ومحافظة.
ومن موقعه في قلب الحدث كرئيس للجنة الاعلامية لـ”اللجان الشعبية” وكناشط ومقاوم لقوى التطرف والعدوان يشير الى ان الحاجة لقيام “اللجان الشعبية” نشأت على خلفية غياب الدولة وانعدام مؤسسات السلطة في مدينة لودر الاستراتيجية التي تربط بين ست محافظات من الشرق والغرب والجنوب والشمال، مشيرا الى ان من يسيطر على لودر يمكنه التحكم بكل تلك المحافظات.
ويضيف انه بالنظر الى انتشار الفوضى والانفلات الامني الشامل وانتشار الجماعات المسلحة (انصار الشريعة) والاضطراب العارم الذي شهدته لودر وما جاورها في عام 2010، وما نجم عن ذلك من تشريد للأسر ودمار للمنازل وانهيار لشتى الخدمات؛ تنادى بعض الفاعلين للالتقاء من غير اعلان أو صخب، وكان الشباب في الصدارة، ثم التحق بهم الكبار من الرجال والوجاهات والشيوخ من كافة الاطياف وكان ذلك بمثابة استجابة لنداء استعادة أواصر العيش المشترك بمنأى عن الانتماءات الحزبية وعلى قاعدة من الادراك العميق بأن المنطقة تحتاج لإعادة بناء وإلى الشراكة بين كافة ابنائها وأطيافها وإلى
إدراك بأن الارتهان لطيف ما أو لطرف واحد صار عديم الجدوى ومجلبة للمصائب والمحن.
وبفعل هذه المبادرة الطوعية؛ تمكن اهالي لودر من قطع الطريق على اولئك الذين أرادوا تحويلها الى “امارة اسلامية” على غرار ما حدث في جعار وزنجبار والكثير من مناطق محافظة أبين المنكوبة.
كان على “اللجان الشعبية” أن تنهض بواجب تنظيم شؤون الحياة في المنطقة، وإعادة الامن والاستقرار واستعادة الممتلكات العامة والحفاظ على ما تبقى منها، وترميم ما تهدم من أواصر وقيم واعادة الاعتبار للودر -درة الجنوب، واستعادة لحمة النسيج السكاني لمدينة انصهرت فيها الكثير من الجماعات من مناطق يمنية شتى.
كان النزوح الجماعي من لودر قد بلغ ذروته في النصف الأول من عام 2010 حيث انهارت السلطة المحلية على نحو مباغت وصاعق، وسيطرت الجماعات المسلحة على معظم أرجاء لودر وانزوت قوات الجيش في معسكرها وصارت تتحاشى مواجهة جماعة “انصار الشريعة” إلا في الحالات التي تتحرش بها الجماعة وتقصف معسكرها أو تقطع الطريق على مركباتها وتقتل جنودها وضباطها؛ حيث تندلع المعارك بين الطرفين ويدفع الثمن سكان المدينة وأهاليها، وهو ثمن باهظ تمثل بعشرات القتلى ومئات الجرحى علاوة على نزوح الآلاف.
في 11 ابريل 2011 –حسب جهاد عبدالله حفيظ- انعقد اول اجتماع موسع وبالاحرى اجتماع الملتقى التأسيسي الذي عمل بصمت على تنظيم اللجان الشعبية في مختلف التخصصات الخدماتية والأمنية والاعلامية؛ وبعد ذلك توسعت اتصالات الملتقى بالمناطق المجاورة وتفاعل الاهالي من مختلف القطاعات فقد كانوا في انتظار من يقرع الجرس ويبادر الى مثل هذا العمل.
التف المواطنون حول الملتقى “اللجان الشعبية”، وبعد ان كان الاجتماع التأسيسي انحصر بتكوين قيادي من عشرين عضوا توسع الى خمسين، ودخل في حوار مع الجماعات المسلحة، كما شرع في العمل على اعادة الامن والاستقرار واستعادة الممتلكات المنهوبة وأركان السكينة التي تهدمت.
وعلى نحو متدرج تمكنت اللجان من استعادة الامن، وفي تاريخ 11/4/2011 جرى الإشهار الرسمي عن الملتقى “اللجان الشعبية” التي صارت هي الامل الوحيد لأبناء مدينة لودر التي نالها النصيب الاكبر من التدمير والتشريد جراء المواجهات العسكرية بين انصار الشريعة والقوات المسلحة.
بداية اعتمد المجلس التأسيسي لـ”اللجان الشعبية” على نفسه في توفير الحد الادنى من الامكانيات المتواضعة؛ واستجاب الناس لدفع الاشتراكات الشهرية التي حددت بـ 300 ريال وتفاعلوا مع ذلك الى اقصى الحدود، خاصة وأن القيادات التي تصدرت للعملية كانت تتسم بنكران الذات والجدارة والقدوة وفي مقدمتها الشهيد المؤسس توفيق على منصور الجنيدي (حوس) فهو كان شخصية اجتماعية قوية وفذة وقادرة على حشد الطاقات، وتشكيل المجموعات وترسيخ مبدأ الاعتماد على الذات، والاستجابة لمشاعر واحتياجات الناس لاستعادة الامن والاستقرار للمدينة.
وفي البدء اعتمدت قيادة اللجان مبدأ الحوار مع الجماعات المسلحة “انصار الشريعة” وعقدت معها جلسات مطولة ونقاشات متشعبة؛ وفي كل مرة كانت تصل معها الى اتفاق على وقف مناوشاته لقوات الجيش والدخول معها في مواجهات تلحق أضرارا بالغة بالسكان كان “انصار الشريعة” يخرقون تلك الاتفاقات حتى برهنوا بأنهم عبارة عن قطاع طرق وجماعة هدامة بعد احتلالهم لمقر الامن السياسي وقيامهم بالكثير من التصرفات الاستفزازية والعدوانية ضد السكان، وإصرارهم على اقامة إمارتهم في لودر، ما عزز الشعور لدى شباب لودر بأهمية تحمل مسؤوليتهم في استعادة الامن واستعادة زمام أمرهم.
في الخامس من ديسمبر 2011 استشهد الشيخ توفيق الجنيدي (حوس) وكان الرد على ذلك هو المزيد من المواجهة مع “انصار الشريعة” والانطلاق في حملة واسعة لتطهير لودر منهم، وتمكنت اللجان الشعبية من احراز انتصارات كبيرة على “انصار الشريعة” رغم عدم التكافؤ في العتاد العسكري إذ كان هؤلاء يمتلكون مختلف أنواع الاسلحة الثقيلة والخفيفة والمتوسطة، ولم يكن بالإمكان اعادة النبض الى دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والحد من نزوح السكان لولا الحاضن الاجتماعي والالتفاف الواسع من قبل السكان من مختلف ألوان الطيف بما في ذلك المشائخ وأهل السنة.
وتشارك الشباب مع الشيوخ في حراسة المنشآت العامة والمنافذ والطرق والمواقع السكنية واعتماد العمل الطوعي الى ان تمكنوا من ايقاف عمليات السطو على اسلاك الكهرباء والهاتف والمحلات التجارية وصولا الى تطهير لودر من أنصار الشريعة ودحرهم في 27/7/2011 واعتقال بعضهم في مقر الامن السياسي الذي كانوا يتمركزون فيه ويعتقلون الابرياء داخله.
ويقول الباحث جهاد عبدالله حفيظ ان لودر كانت نقطة بداية تراجع “القاعدة” التي كانت تملك كافة أنواع الاسلحة بما في ذلك المدرعات والدفاعات الجوية وقذائف الهاون المطورة والقناصة المحترفون، كما كانت قد استدعت المدد من المقاتلين (الجهاديين) من كافة مناطق اليمنية ومن الجنسيات السورية والسعودية والصومالية والجزائرية ومن إمارة عزان في شبوة وغيرها.
وفيما يشيد بتجربة “اللجان الشعبية” والعمل الطوعي الاهلي الى جانب الغطاء الرسمي والتوجه الجاد لمواجهة أنصار الشريعة خاصة بعد انتخاب الرئيس عبدربه منصور هادي، الذي ينتمي إلى نفس المنطقة، في 21 فبراير 2012، وإعادة تشكيل وترتيب وضع قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية تحت قيادة اللواء سالم علي قطن الذي استشهد في عملية غادرة قامت بها عناصر تابعة لـ”أنصار الشريعة” في عدن حين شارفت العمليات العسكرية ضد “القاعدة” على تحقيق النصر.
فيما يشيد الباحث بهذه التجربة فهو ينوه الى ان السلطات الرسمية لم تملأ الفراغ الأمني والخدماتي الذي ترتب على دحر “أنصار الشريعة” من لودر ومن عاصمة محافظة أبين زنجبار ومن جعار التي كانت أعلنت (إمارة وقار)، ويلاحظ بأن الإمكانيات المحدودة والظروف الصعبة التي تحيط بعمل “اللجان الشعبية” تضع هذه التجربة في مهب الأخطار من غير أن تسقط واقع أنها شكلت أنموذجاً ينبغي أن يحتذى به.
ويبقى أن ما حدث في لودر ينطرح كخيار متاح في أفق النظر ليس ثمة ما يحول دون تفعيله بأسرع وقت في المناطق والمحافظات التي تستعجل الانحدار إلى غياهب انهيار لا رجعة عنه وإن من باب الإقرار بفشل الدولة وغيابها، وتعفن وتفسخ جل أجهزة ومؤسسات وأدوات السلطة المستنفدة الصلاحية، وحق الناس في تقرير مصيرهم بأيديهم وعبر مبادراتهم الطوعية المستقلة وشراكتهم الفاعلة.
* منصور هائل هو رئيس تحرير صحيفة “التجمّع” في صنعاء