لا جرم أن القرآن الكريم لم يتغير رسمه ولا متنه منذ أوحى الله تعالى به لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام. وعلى مدى القرون السالفة ظل المسلمون يرتلونه ويجتهدون في استنباط معانيه وأحكامه. وظل القرآن الكريم يرشد المسلمين، حينما أحسنوا تلاوته وتدبره، إلى الانفتاح على ثقافات الشعوب وتجاربها الحضارية ؛ فأسسوا حضارة كانت لها إسهاماتها الغنية. ولم يكن القرآن، خلال فترة العطاء الحضاري، مصدرا للتشدد والتطرف والانغلاق. لكن بعد أن اشتد وطء التأخر “الحضاري” تناسلت تيارات البدونة والتطرف المشدودة إلى بيئات اجتماعية ترفض التمدن وتناهض قيم المدنية ومكتسباتها. إن ثقافة الكراهية والتطرف التي تتغذي عليها هذه التيارات هي المصدر الرئيسي للإرهاب الديني الذي يتوخى تدمير الحضارة الإنسانية والعودة بالبشرية إلى البداوة الأولى وشرب أبوال الإبل. إن هذه الثقافة هي التي أنتجت أفهاما للقرآن أكثر تشددا وتطرفا وجعلته المصدر الرئيسي لشرعنة التكفير والقتل والتدمير. أما ما يتردد من تبريرات تجعل الإرهاب الديني ناتجا عن عوامل الفقر والتهميش أو الاستكبار والاستعمار، فإن هذه العوامل كانت دائما موجودة دون أن تكون منبعا لتكفير المجتمع وتدمير الحضارة وقتل الأبرياء. وحتما سترحل أمريكا عن العراق أو أفغانستان لكن الإرهاب سيبقى ما بقيت منابعه الثقافية. وهكذا كان الحال مع “الغزو” السوفييتي لأفغانستان الذي جعله تيار التطرف والبداوة مبررا للإرهاب الفكري والمادي. لكن الاتحاد السوفييتي رحل واختفى، بينما زاد التطرف والإرهاب واشتد خطره على الدول الإسلامية قبل الاستعمارية. والسبب يعود إلى ثقافة العنف والتكفير التي تحرض على القتل والتدمير وهذه نماذج منها :
أ ـ فتاوى تكفر كل المجتمع وتجعل قتل المواطنين واجبا دينيا، ليس لأسباب اجتماعية أو استعمارية، بل لأسباب عقائدية وذلك كالتالي :
ـ المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع كافر، لأنه استبدل القوانين الإسلامية بالوضعية، وأن مظاهر الانحلال والفساد فشت فيه، وأن المعروف قد أصبح منكرا، والمنكر أضحى معروفا.
ـ أفراد هذا المجتمع وحكوماته مرتدون مارقون، والمظاهر الإسلامية في هذا المجتمع مظاهر كاذبة مضللة منافقة، فشيوخ الدين ممالئون للسلطان الكافر.
ـ الجهاد مفروض لتغيير هذا الواقع، وإحلال شريعة الله مكان شريعة الكفر.
ـ الوسائل السلمية لا تجدي فتيلا ولا توصل للهدف السابق لأن كل عمل سلمي للدعوة يقابل بالدعاية الحكومية الكافرة.
ـ ما دام الحكام كفرة والجهاد واجبا، فقد وجب الخروج عليهم وقتالهم بالسلاح.
ـ يجوز قتل كل من تترس به الكافر ولو كان من المسلمين.
ـ ليس للنساء والأطفال حرمة، لأن أولاد الكفار من الكفار.
ـ يجوز قتل الكفار ـ وهم الحكام والشعوب الراضية ـ ليلا ونهارا، وبغير إعلام وإشعار لهم، ولو قتل في ذلك نساؤهم وأطفالهم.
ـ لأن النظام نظام كافر، فالدار التي نعيش فيها دار حرب، وبذلك تكون كل ديار المسلمين الآن ديار حرب، يجوز فيها ما يجوز في دار الحرب، من القتل والسلب والنهب والغصب والخطف.
ـ ليست هناك طريقة لإيجاد الحكم الإسلامي إلا بالحرب).
ب ـ فتاوى تكفر فئات واسعة من المجتمع وتحرض على القتل الفردي والجماعي ؛ ومنها فتاوى الفيزازي التي أنتجت انتحاريين داخل المغرب وخارجه. ففي حوار عبر موقع منتدى التجديد بتاريخ 2002/8/25 نقرأ التالي :
ـ “السؤال: سيدي الشيخ، إذا كانت القضية بين تيار الكفر والزندقة والإلحاد.. فهل أنتم تكفرون الحكومة الحالية؟
ـ الإجابة: نعم.
وعن سؤال حول رأيه في حرية الاعتقاد أجاب ( ليس عندنا في ديننا شيء اسمه حرية الاعتقاد، إنما عندنا في ديننا ما قاله الرسول الكريم في صحيح البخاري: “من بدل دينه فاقتلوه”..
وعليه فحرية الاعتقاد تضمنها المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقتل المرتدين يضمنه حديث رسول الله السالف الذكر، فهل أنت مع إعلان اليهود والنصارى؟ أم مع شريعة رب العالمين؟).
إن هذه الفتاوى هي بمثابة “محطات التقوية” التي تجعل فتاوى التكفيريين المؤسسين تحول الأتباع إلى تفجيريين/انتحاريين. ومن ضمن هؤلاء المؤسسين : سيد قطب في فتواه ( إن العالم يعيش اليوم كله في ((جاهلية)) من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها.. هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية.. وهي الحاكمية.. إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله.. فينشأ عن هذا الاعتداءِ على سلطان الله اعتداءٌ على عباده)( ص 10 معالم في الطريق). وتقوية لمفعول هذه الفتوى كان تحريض سعيد حوى لأتباع جماعته لممارسة ( الاستئصال بلا شفقة أو رحمة لطوائف الباطنيين والقاديانيين.. والأحزاب الكافرة كالشيوعيين والقوميين الجاهليين، ودعاة فصل الدين عن الدولة…. والإنسانيين والديمقراطيين).
إن هذه الفتاوى لا تحرض على القتل والتكفير لأسباب الفقر والتهميش، بل لأسباب دينية عقائدية. ولن تفلح قوة، مهما كان جبروتها، في القضاء على الإرهاب الديني إلا إذا تصدت للمنابع الثقافية والفكرية التي تغذي التطرف والعنف وتحول ضحاياها إلى قتلة وانتحاريين.
selakhal@yahoo.fr
* المغرب