أرى انه كان من حق المطلعين أن يتوقعوا مشاركة واسعة ومؤثرة للكرد في الثورة السورية إلى جانب إخوانهم العرب. وكان ذلك واضحاً في الأشهر الأولى من الثورة حيث إنطلق الشباب الكرد متجاوزين قياداتهم الحزبية القديمة للمشاركة بكثافة في الثورة وشكلوا تنسيقياتهم ومنظماتهم، كما حدث تماما في الوسط العربي حيث تجاوز الشباب احزاب المعارضة العربية، التي لا يمكن نكران تضحياتها، التي لم تستطع زحزحة النظام الإستبدادي خلال نصف قرن .. لكن تتالي أحداث الثورة فيما بعد أدى لتغييرات في المواقف ولتراجع الحركة الثورية في المجال الكردي، فيما هي تتقدم في المجال العربي حيث وصلت لحرب شعبية ضد النظام في المدن والشوارع والريف وفي كل مكان حتى العاصمتين دمشق وحلب التي قيل عنهما في بداية الثورة أنهما صامتتين ..
ربما يكون السبب الرئيسي للتقدم في المجال العربي هو ان الحراك الشعبي في الشارع ممن لا ينتمون لأحزاب المعارضة القديمة، تخطوا هذه الاحزاب وطوروا تنظيماتهم الخاصة وتعاملوا مع المعارضة القديمة على انها جهاز سياسي في الخارج تابع للثورة وفي خدمتها، ورأينا كيف أن أية خطوة للمجلس الوطني السوري لا يوافق علها الثوار، يضطر قيادييه للتراجع عنها أو التنصل منها، أي أن الأولوية للثوار، والأحزاب القديمة ملحقة بهم ومن يخرج عن ذلك مثل هيئة التنسيق وأحزاب ومستقلين آخرين يدانون مباشرة ويحرقون شعبياً..
فيما في الوسط الكردي حدث العكس .. الاحزاب القديمة أو الحركة السياسية التي يقال أن عمرها نصف قرن والتي نشبت انتفاضة القامشلي 2004 دون معرفتها، وحدث ذلك في الثورة الحالية أيضاً، وجدت في الشباب الكرد وتنظيماتهم الحديثة منافساً لها في الهيمنة على الوضع الكردي لذلك سعت بكافة امكانياتها لضبطهم وتوجيههم ضمن برامجها المختلفة وقد نجحت بذلك يشكل كبير حتى الآن بطرق متعددة مما جعل الحركة الثورية الكردية الشبابية الناهضة خارج الأحزاب المخضرمة إما تتراجع وتخفض نشاطاتها أو تنضوي تحت لواء الاحزاب.. أي أن الحركة الثورية لم تعد عفوية منطلقة من الشعب كما في المجال العربي بل أصبحبت تتلقى توجيهاتها من الاحزاب التي لها أجنداتها الحزبية الخاصة ..
لماذا نجحت الأحزاب في ذلك ؟ برأايي انه يعود لأسباب متعددة منها :
وجود تفرعات لحزب العمال الكردستاني التي كانت في السابق تقوم بنشاطها ضد السلطة التركية من الاراضي السورية بتعاون وتسهيل من الاجهزة الأمنية السورية، إلى ان عقد إتفاق أضنة فانتهت مهمتها وسلم اوجلان لتركيا ولوحق اتباعه في سوريا وهربت قياداته لجبال قنديل .. وعندما اندلعت الثورة وانهارت علاقات النظام مع تركيا استقدمت قيادات قنديل واطلقت يد ال PYD ، فرع حزب العمال بسوريا، في عفرين اولا فوضع حواجزه هناك وانشأ “برلماناً”!! ورفع اعلاماً ونشر صوراً للزعيم الاوحد بتوافق مع السلطة، وبدء في قمع الثوار الكرد بالسكاكين والعصي الكهربائية والرصاص وإعتقال للناشطين، أي بإختصار قام بالتشبيح ضد الثوار الكرد. وعندما تطورت الثورة أكثر في الأشهر الأخيرة واحتاج النظام لسحب قوات من مناطق متعددة لمواجهة الثورة في دمشق وحلب وادلب وغيرها من المناطق الساخنة، قدم النظام لحليفه الكردي المزيد من القرى والبلدات، “تسليم واستلام” كما قال عبد الحكيم بشارالمسؤول في المجلس الوطني الكردي، المتشارك حالياً مع ال ب ي د في الهيئة الكردية العليا .. ويقال الآن ان الحزب المذكور يقوم بدوريات مشتركة مع القوى الامنية في القامشلي “لضبط الامن!”
الأحزاب الوطنية الكردية الأخرى التي ظلت لعقود متنافرة ومتحاربة ومتناسلة احزاباً جديدة في كل يوم تجمعت في المجلس الوطني الكردي. وربما يكون نجاحها في التوحد، تغاضيها عن خلافاتها السابقة التي كانت تعترض تجمعها في إئتلاف واحد لشعورها بالخطر من نشوء الحركة الشبابية الكردية. ومنها أحزاب مفصلة خصيصاً لتلائم اميناً عاماً دائماً. تاريخية هذه الاحزاب منذ نصف قرن لا يحسب لها بل أثقال تحد من حركتها الحرة، فقد إستمرت قياداتها عقوداً دون تغيير فيما يشابه احتفاظ الانظمة الشمولية بالزعماء لحين وفاتهم. كما انه من المعروف أن عددا من هذه الاحزاب يقيم بعض قيادييهاعلاقات مع الأجهزة الأمنية ويبررون ذلك لخدمة الشعب الكردي. أما الأحزاب المعارضة فعلاً للنظام فقد جرى قمعها وإرهابها باغتيال المناضل البارز مشعل التمو الذي وقف بلا هوادة وبلا أي استعداد للتراجع مهما كانت التضحيات مع الشباب الكردي الثائر إلى جانب الثورة السورية. إغتياله الذي أشير فيه حينها بالإتهام لعناصر من ب ي د والسلطة، جعل الأحزاب المعارضة فعلاً للنظام في المجلس الوطني الكردي، تخفف من وتيرة معارضتها وتقبل بالإتفاق مع الحزب المذكور الذي وقع معها إتفاقاً لتغطية تعاونه مع النظام ولكنه نقضه مباشرة بعد التوقيع ومسح به الارض، وهو يفعل الآن نفس الشيء مع الإتفاق الثاني الذي عقد في اربيل برعاية رئيس الإقليم، والحزب المذكور لم يعد يحتاج للمزيد من الضغوط على أحزاب المجلس بعد أن رضخت للتهديد وبلعت تصريحاتها عن عملية الإستلام والتسليم وقبلت في الهيئة الكردية العليا بقطعة من كعكة السلطة المسلمة.. و”صيت سلطة، حنى لو كانت صورية، أفضل من ألله يرحمو” ..
لماذا قبل الشباب بسلطة الامر الواقع هذه؟ لماذا لم يتمردوا عليها حتى الآن رغم أنهم تمردوا على النظام وهو اعتى وأكثر توحشاً وقمعاً؟ لقد استخدمت قوى الامر الواقع هنا اسلحة فكرية وسياسية عديدة منها إدعائها أنها لا نريد صراعاً كردياً- كردياً، على مبدأ “مع ابن عمي ضد الغريب، رغم ان إبن عمي شبيح”، فلا يهمها تحالف أطراف كردية مع النظام المهم انها كردية وهي ضد مواجهة الإخوة ومع مواجهة الغريب، وربما يتحول ذلك مستقبلاً من مواجهة النظام صورياً إلى مواجهة المعارضة السورية .. واستغلوا العداء الفطري للكرد ضد تركيا التي قمعت الكرد طويلاً، لاتهام كل من يندفع أكثر من اللازم لتأييد الثورة السورية بانه يقف مع المعارضة السورية “الإسطنبولية!” كما يروجون .. والمشكلة ان أوليات هذه الاحزاب في هذه المرحلة ليس إسقاط النظام وإقامة نظام ديمقراطي بديل لصالح جميع السوريين من كرد وعرب وآشور، ولو انه من ضمن أهدافها، بل للحقوق “القومية الكردية” التي لا إعتراض عليها، ولكن المعركة الرئيسية الآن هي معركة الديمقراطية وإسقاط النظام ..
لذلك رأينا الاحزاب تنسحب من مؤتمرات المعارضة السورية لانها حسب إدعائها رفضت “كلمة!!!” الشعب الكردي علما أن ضمانة تحقيق الحقوق القومية لا تتأتى من أحزاب معارضة عربية تقرها، ولكن من نضال الشعب الكردي مع جميع الثوريين العرب الذين يقرون بهذه الحقوق، و”إشتراط القبول بها الآن وإلا ننسحب من مؤتمراتكم وإئتلافاتكم”، تبين مدى إبتعاد الأحزاب الكردية عن تبني هدف “الديمقراطية اولا” كما يجب ان يكون فعلاً، وخاصة أنه بعد الإنسحابات المدوية تبدأ الحملة على المعارضة السورية ووصفها بالشوفينية والأردغانية وبالتالي نشر دعايات تعزز الإنفصال بين العرب والكرد في معركة الحرية المشتركة .. وهذا تبين ان له اثر في اوساط الشباب الذين نجحت الأحزاب في دفعهم للإنكماش في نشاطاتهم بعد الترويج أن المعارضة السورية فيما لو أتت ستكون أسوأ من النظام الحالي ..
واستفادت الاحزاب مما يروج عن عدم تضامن باقي المكونات السورية مع انتفاضة 2004 علماً بأن المقابلة بالمثل تكاد تكون مزحة أكثر منها أمراً جديا يعبر عن إهتمام بالمستقبل السوري ..وحتى لو صحت المقابلة بالمثل، لكان يجب لوم باقي المكونات السورية عندما انتفض “العرب” في حماة 1982 .. فيما اللوم في الحالتين خاطئ، ففي 2004 كان الشعب السوري ما يزال في مرحلة الخوف والصمت لم يتجاوب اصلاً مع دعوات سابقة للمعارضة السورية، التي وقفت اطرافها الرئيسية في ذلك الوقت مع انتفاضة القامشلي ضمن حدود إمكانياتها كمعارضة معزولة عن الشعب الصامت وبالتالي عقيمة .. الإنتفاضة الشاملة الحالية لم تكن لتحدث لولا ان ظروفها الموضوعية توفرت في هذا الزمن ولن نتوسع هنا حتى لا نطيل ..
كما هناك دور للقوى الإقليمية الكردستانية وخاصة اقليم كردستان العراقي الذي ما زال موقفه ملتبساً وغير واضح من الثورة السورية وكمثال : في الوقت الذي يدرب فيه كرد في معسكرات الإقليم لإرسالهم لسوريا، يقوم الرئيس الطالباني بإرسال برقية تعزية بموت آصف شوكت وهو تعاطف واضح مع النظام اكثر منه اجراءاً تفترضه الدبلوماسية .. ولا شك ان دفع الأحزاب للتوحد من قبل قيادة الإقليم رغم كون احد أطرافها ضالع مع النظام تلقى تقبل من عديدين ما زالوا متأثرين بالزعماء ولم يعوا بعد طبيعة القوى التي يسلمون لها بالقيادة، المهم انها كردية ومزكاة من القوى الإقليمية الكردستانية ..
فيما إذا رجعنا للوسط العربي فالثوار لم يحترموا اي من رموز المعارضة السورية عندما يخرج عن خط الثورة، لأن المسألة القومية ليست ملحة عند الثوار. ما هو ملح وأساسي وله الأولوية هو إسقاط النظام وتحقيق الديمقراطية، فيما عدا القلة من القومجيين العرب مثل الإتحاد الإشتراكي لحسن عبد العظيم الذي عزل كلياً في الوسط العربي فقومجيته وممانعته لا تلقى ترحيباً لدى المنتفضين على الأقل في المرحلة الحالية حيث كسب الديمقراطية يحظى بالاولوية، والمفاهيم القومية العربية تراجعت في الوسط العربي لصالح دولة وأمة سورية، فيما المفاهيم القومية الكردية تتقدم على حساب أولوية الديمقراطية ..
وهنا أيضاً يمكننا ان نقول ان الوسط العربي بغالبيته ونتيجة ظروف متعددة سبق الكردي في التخلص من التعلق “بالمقاومين” فحزب الله الذي قاوم إسرائيل عدوة العرب طويلاً وقدم تضحيات لإخراجها من جنوب لبنان حتى العام 2000، حصد شعبية واسعة في البلدان العربية ومنها سوريا، لكنه فقد غالبيتها بعد أن حول سلاحه للداخل اللبناني لصالح النفوذ الإيراني ووقف مع النظام الإستبدادي السوري ضد الثورة السورية .. فيما ان حزب “المقاومة” الكردي الأوجلاني ضد تركيا عدوة الكرد، الذي قدم شهداء بأعداد كبيرة، لا زال يلقى تأييداً جماهيرياًً من أوساط كردية رغم أنه تعاون ويتعاون الآن مع النظام القمعي ..
باختصار تحتاج إعادة تصعيد وتوسيع الدور الكردي في الثورة السورية : وضع شعار الديمقراطية وإسقاط النظام في الموقع الاول .. الإئتلاف مع المعارضة العربية حول هذا الشعار رغم الخلافات حول مسائل قومية تؤجل إلى ما بعد إسقاط النظام .. عزل القوى الكردية المتعاونة مع النظام على اساس ان المطلوب وحدة وطنية سورية، كردية – عربية ضد النظام، وليس وحدة وطنية كردية تجمع مؤيدي ومعارضي النظام ..
* كاتب من سوريا
ahmarw6@gmail.com
* كاتب من سوريا
لماذا تتراجع المشاركة الكردية في الثورة السورية؟لا يوجد قضيّة قومية كردية, فالكرد قبائل وليسوا شع(و)باً, شأنهم كشأن بدو العرب الرّحل, فلم يبنوا حضارة ولم ينشئوا مدناً أو دويلات إلا تحت سلطة قوّة إقليمية عظمى كالفرس أو المماليك أو الترك. والدليل على ذلك أنه عندما انقلب صلاح الدين الأيوبي على قائده نور الدين زنكي وحوّل الدولة الإسلامية إلى دولة أيوبيّة, لم تدم تلك طويلا حتى انهارت ومات ذكرها. يجب على الأكراد أن يعوا أنهم قبائل غزاة – كقبائل الترك والمغول – وأنهم استولوا على الأرض التي يدّعون ملكيتها; بالقتل والتهجير, من أصحابها الأصليين الأشوريين والكلدان والسريان وأخير العرب – تحت حكم… قراءة المزيد ..