بوجود الديمقراطيتين العريقتين في الهند وسريلانكا، وعودة الديمقراطية إلى باكستان ونيبال مؤخرا، و شروع مملكة بوتان هذا الشهر في إجراء أول انتخابات برلمانية حرة في تاريخها تنفيذا لوعد قطعه على نفسه عاهلها “جيغمي سنجي وانغتشوك” في عام 2006، تبدو منطقة جنوب آسيا لأول مرة خالية تماما من الأنظمة الشمولية.
طوال عقدين من الكتابة الأسبوعية في الشأن الآسيوي لم اكتب سوى مرتين عن بوتان، كونها بلادا نائية معزولة قلما تشهد حدثا يستدعي تسليط الأضواء أو تناوله بالتحليل. وكانت المرة الأولى التي كتبت فيها عن هذه البلاد هي مناسبة زيارة نادرة وغريبة قام بها في الثمانينات ملكها الشاب (وقتذاك) “جيغمي وانغتشوك” إلى منطقة الخليج، وتحديدا إلى دولتي البحرين والكويت.
وقتها لم تكن المعلومات فقط هي الشحيحة وصعبة المنال عن هذه البلاد، وإنما أيضا سبل الوصول إلى أراضيها بدليل أني بذلت المحاولة تلو المحاولة في السبعينات لزيارتها، فلم يكن نصيبي في كل مرة سوى الفشل الذريع بسبب الموقع الجغرافي الشاذ لبلد أشبه ما يكون وضع عاصمتها ” تيمبو” بوضع حفرة عميقة في الأرض ترتفع من حولها الجبال الشاهقة من تلك التي تتجاوز أطوالها 25 ألف قدم.
ولهذا السبب معطوفا على سبب آخر هو محدودية عدد الرحلات الجوية التي كانت حينذاك تربط هذا البلد بالعالم الخارجي، وانحصاره في رحلات غير مؤكدة الإقلاع من مطار مدينة كلكتا الهندية – أي اعتماد إقلاعها من عدمه على وجود مسافرين وعلى الأحوال الجوية في مطار الهبوط وقدرة الطيار على العثور على ثقب وسط طبقات الغيوم الكثيفة الملتفة حول أعناق القمم الجبلية، والنفاذ منها بطائرته المروحية العتيقة وبالاعتماد حضريا على الرؤية المجردة إلى مهابط بدائية في مطار لا أثر فيه لأجهزة الملاحة الجوية الحديثة أو وسائل الاتصالات الحديثة… لهذه الأسباب مجتمعة اعتمدت في ما كتبت عن بوتان في مقالي الأول على معلومات مثيرة وغريبة كان قد نشرها وقتذاك الصحافي البريطاني المعروف “كريستوفر توماس” في أعقاب نجاحه في الوصول إلى تيمبو وكتابته لتقرير جميل حول هذه البلاد الداخلية التي لا منافذ بحرية لديها، و التي يعني اسمها المستمد من اللغة السنسكريتية “الأراضي الشاهقة”، وفي رواية أخرى “نهاية حدود التيبت”، باعتبارها محصورة ما بين جارين عملاقين هما الهند والصين، فيما حدودها مع الصين هي الحدود الغربية لإقليم التيبيت. ولهذا السبب، ولأسباب تاريخية و دينية وحروب من اجل النفوذ و التمدد، نجد للتيبيت ذكرا متكررا في تاريخ بوتان الذي يعود إلى ما قبل ألفي عام من ميلاد المسيح بحسب ما أشارت إليه الصخور والأسلحة والأدوات والأواني المعدنية المعثور عليها. أما في التاريخ المعاصر لبوتان فنجد أيضا ارتباطا بينها و بين التيبيت، إذ لولا إقدام الصين الشيوعية في أواخر الخمسينات على ضم التيبيت إلى أراضيها، وما أججه ذلك من شكوك ومخاوف وهواجس لدى البوتانيين في سياسات الجارة العملاقة وما قد تقدم عليه في المستقبل، لظلت بوتان مجهولة للعالم ومستمرة في عزلتها الشديدة وتقوقعها على نفسها خوفا من انتهاك الغرباء لعذريتها و خصوصياتها وثقافتها وتقاليدها. ذلك أن الخوف من الجار الشيوعي، هو الذي دفع مملكة بوتان إلى فك عزلتها بالانفتاح على الجار القوي الآخر في نيودلهي، وتوثيق علاقات التعاون معه، لتغدو تلك العلاقات سريعا بمثابة حجر الزاوية في سياسات بوتان الخارجية والسند الرئيس لاقتصاديات الأخيرة من خلال ما يقدمه الهنود من مساعدات مالية وفنية سنوية قيمة.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن تاريخ الروابط ما بين الهند وبوتان، والتي شهدت مدا وجذرا في الماضي، لتستقر في العصر الحديث. حيث تذكر المصادر التاريخية أن انقسامات دينية واثنية ومذهبية اجتاحت بوتان في القرن الثامن عشر، الأمر الذي شجع البوتانيين على طلب المساعدة من حكام ولاية بيهار الهندية المجاورة، وهؤلاء بدورهم طلبوا التدخل والمساعدة من شركة الهند الشرقية البريطانية في حدود عام 1774 ، لتقوم الأخيرة بتثبيت الحدود البوتانية- الهندية وفق معاهدة وقعت عام 1774، لكنها تعرضت مرارا للخرق في صورة قضم البريطانيين للمزيد من الأراضي البوتانية وإلحاقها بإمبراطورية الهند البريطانية، وهذا ما أدى لاحقا إلى ما عرف بحرب “الدوار” أي الحرب حول حائط حدودي في البنغال ما بين عامي 1864-1865. في هذه الحرب خرجت بوتان مهزومة، وفرض عليها توقيع معاهدة صلح محت كل أشكال العداوة والنزاع بينها وبين بريطانيا، التي اعترفت رسميا في عام 1910 بيوجين وانغتشوك ملكا لبوتان، وهو الملك الذي كان قد اختير في عام 1907 بالإجماع من قبل مجمع ضم الكهنة البوذيين ورسميي الدولة وكبار الأعيان وزعماء العائلات المعروفة ليكون عاهلا للبلاد تقديرا لدوره في توحيد بوتان وإخراجها من حروبها الأهلية ما بين عامي 1882-1885 .
وكان مما كتبه كريستوفر توماس وأصاب الكثيرين بالدهشة، سطورا حول شخصية ملك بوتان الأربعيني جيغمي وانغتشوك الذي “رغم امتلاكه لزمام السلطة ومقدرات الأمور ومفاتيح الخزائن وخضوع شعبه له، ورغم شبابه وثقافته الغربية المستمدة من الدراسة في المدارس والجامعات البريطانية، فانه يفضل العيش في منزل خشبي متواضع ليس به جهاز تلفزيون ولا تقف خارجه سيارة “مرسيدس”.
وبحسب الصحافي البريطاني “يبرر الملك سلوكه وموقفه هذا بأنه ليس من العدل أن يعيش الحاكم في ترف بينما اغلب رعاياه فقراء. مضيفا “أنه سوف يقتني التلفزيون وسيركب المرسيدس حينما يصبح كل مواطن في بلده قادرا على امتلاكهما أو التمتع بخدماتهما على الأقل”. والى أن يحين ذلك الوقت فان الملك يتنقل في بلاده التي تتساوي في المساحة مع سويسرا (18000 ميل مربع)، ويتفقد رعاياه الذين لا يزيدون عن ثلاث أرباع المليون، ويزور مكاتب الدولة ممتطيا حصانه، فيما يقضي أوقات فراغه في ممارسة لعبة كرة السلة أو في هواية القراءة، بدلا من التسمر أمام الشاشة الصغيرة”
إلى ما سبق، خصص الصحافي البريطاني جزءا من تقريره للحديث عما بدا له في حينه هاجس صراع ثقافي وعرقي يلوح في الأفق، فقال ” إن هذا الهاجس رغم انه لم يتحول بعد إلى صورة الاصطدام الدموي وإفناء الآخر المنافس كما هو الحال في أفريقيا السوداء، إلا انه في طور التفاقم المنذر بالخطر”، مضيفا ” أن المشكلة تكمن في الود المفقود ما بين أهل الشمال البوذي الممسك بزمام السلطة، وأهل الجنوب الهندوسي المنحدر من أصول وأعراق نيبالية اخترقت الحدود عبر الحقب الزمنية المتتالية ابتداء من أوائل القرن العشرين بحثا عن العمل والرزق، فتوطنت وتكاثرت حتى باتت تشكل أغلبية عددية يعتد بها”
لكن كيف تعامل عاهل البلاد في حينه مع هذه المعضلة الناجمة من تخوف أهل الشمال من احتمالات طغيان العنصر النيبالي على بوتان ومحو هويتها وتحول المواطن إلى صاحب هويتين وولائين، وشكوى أهل الجنوب الدائم من عدم المساواة في الحقوق وعدم امتلاكهم لأي دور في إدارة شئون البلاد رغم كثافتهم العددية؟
هو لم يوزع بطبيعة الحال السلاح على الشماليين لإراقة دماء الجنوبيين وتصفيتهم ودحرهم إلى ما وراء الحدود مثلما حدث في أماكن كثيرة في العالم ولا سيما في أفريقيا السوداء، كما أنه لم يلجأ إلى الخطب والشعارات النارية والتحريض ضد أهل الجنوب وتوعدهم بالعقاب، وإنما مارس الضغوط على الطرفين من اجل التعاون والاندماج، ولا سيما الاندماج القائم على المصاهرة والارتباط العائلي، والذي اعتقد الملك جازما أنه الحل الأمثل لخلق أجيال جديدة غير مشبعة بمفاهيم وعداوات عرقية أو مذهبية ضيقة. فحينما يكون المواطن بوذيا من الشمال وأخواله هندوسا من الجنوب أو العكس، فمن المؤكد أن تنتفي تلقائيا نزعة اضطهاد الآخر أو إلغائه، لأن في ذلك اضطهادا وإلغاءا لجزء من تكوينه الاثني والمذهبي.
أما مناسبة العودة اليوم للحديث عن بوتان وملوكها، فهي وفاء عاهلها الحالي لوعد قطعه على نفسه بإجراء إصلاحات سياسية، من دون أن يكون مضطرا إلى ذلك، أو واقعا تحت ضغوط داخلية أو خارجية – أي على عكس الأحوال في التيبيت المجاورة تماما- ووسط مخاوف داخلية من أن يؤدي تراجع صلاحيات ونفوذ الملك لصالح برلمان منتخب إلى إقحام البلاد في صراعات ومماحكات سياسية لا قدرة لها على تحملها، أو فتح الباب لتدخلات خارجية في الشئون السياسية المحلية عبر أحزاب محلية لها امتدادات وروابط خارجية. وقرار الملك هذا يمكن إدراجه ضمن القرارات الغريبة لملوك هذه البلاد التي تعكس زهدا في الحكم وفي مباهج الحياة على نحو ما سنأتي على ذكره.
والمعروف أن مجلسا تشريعيا صوريا كان قد تأسس في بوتان في عام 1953 ، بأمر وموافقة عاهلها الأسبق ” جيغمي دورجي وانغتشوك”، وذلك بهدف تنمية الحياة السياسية وتطويرها. وفي عام 1965 شكل الأخير مجلسا ملكيا استشاريا، لتتلو هذه الخطوة خطوة إصلاحية أخرى في العام نفسه بتشكيل أول مجلس وزراء. وبعيد انضمام بوتان إلى الأمم المتحدة في عام 1971 من بعد قبولها كعضو مرافق لمدة 3 أعوام، توفي الملك جيغمي دورجي، ليخلفه في الحكم ابنه ذو السنوات الست عشرة “جيغمي سنجي وانغتشوك” الذي تحدثنا عنه فيما سبق، والذي يعزى إليه كل الجهود المبذولة منذ ثمانينات القرن المنصرم لصهر الشماليين والجنوبيين في هوية وطنية واحدة، والحيلولة دون انصراف الجنوبيين الهندوس إلى معارضة النظام بالعصيان المدني والحرق أو الاعتداء على الممتلكات العامة على نحو ما حدث لبعض الوقت.
ومما يحسب للملك الشاب هو قراره الطوعي في عام 1998 بإجراء إصلاحات سياسية تضمنت ضمن أمور أخرى التخلي عن الكثير من صلاحياته لمجلس وزراء قادر على محاسبته بأغلبية الثلثين من الأصوات، وهذا ما عد بمثابة مثال جيد للديمقراطية المتأتية من الأعلى. من الأمور الأخرى التي تعزى للملك إبداله دستور البلاد الخمسيني القديم بدستور أكثر حداثة في أوائل عام 2005 ، والأخير تم الاستفتاء الشعبي حوله واقر في ديسمبر/ كانون الأول 2005 . وشهد شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه حدثا لا يقل غرابة و حيرة هو إعلان الملك فجأة قراره بالتخلي عن العرش لصالح ابنه مع قدوم عام 2008 وبالتوازي مع إجراء أول انتخابات برلمانية حرة في تاريخ البلاد، أو ربما التخلي عن العرش قبل ذلك.
يرى الكثير من البوتانيين ممن التقت بهم وسائل الإعلام العالمية وسألتهم عن الإصلاحات السياسية في بلادهم، أنهم رغم تخوفهم من هذه الإصلاحات التي قد تغير ما نعموا به طويلا من سلام ووئام وعزلة، فإنهم سوف يتماهون معها فقط لأنهارغبة صادرة من عاهل البلاد.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي متخصص في الشئون الآسيوية من البحرين