بخوضها الحرب ضد نظامها الفاشل، تتمّم الآن سوريا ثورتها الثانية. الاولى كانت ضد الاستعمار، ضد مشاريعه ومحمياته. الرصيد الايجابي لهذه الثورة الاولى بات معروفا: لا استقلال ناجزا عن الامبريالية، ابنة الاستعمار، تحقّق، ولا الجولان تحرّر من الاحتلال الاسرائيلي. على الرغم من «الممانعة» بكل خطابها وخطبها وتحالفاتها وشبكاتها، الموحية بالعكس. انما كل الموضوع كان صراعا على نقاط في كِباش دموي.
المهم الآن ان انظار السوريين شاخصة نحو عدو آخر: هالنظام، اسقاط نظامهم الامني الفاشل. ولا نعلم بالضبط التوجهات التي ستسلكها هذه الثورة الثانية بعد تحقيق مرماها؛ هل تستأنف ثورتها الاولى؟ ضد اسرائيل والامبريالية؟ هل تشبك بين ثوريتها، الاولى والثانية؟ تؤلّف بينهما؟ ذلك ليس معروفا بالضبط، وإن صدرت عن اقلام سورية معارضة مواقف لا تتنكر للثورة الاولى؛ مواقف عامة صحيح، ولكنها تسجل مبدأ مستقبليا: تحرير الجولان والاستقلال الوطني بعد تحقيق حرية الشعب السوري من نظامه، أي إنجاز الثورة الاولى بشرط تحقيق الثانية.
إنتماء هذه الثورة الثانية الى جيل حقوق الانسان والديموقراطية، وتركيزها على المهمة المركزية لهذه الثورة دون غيرها من المهام، جذب اليها تأييدا غربيا، وهو حتى الآن معنويا واقتصاديا وديبلوماسيا. أوج هذا التأييد تمثل بالجهد الذي بذلته اميركا واوروبا من اجل اصدار قرار عن مجلس الامن بإدانة النظام السوري وفرض المزيد من العقوبات عليه. الفيتو اسقطته الصين وروسيا؛ وبذلك، عبّر هذان البلَدان عن استمرار وقوفهما في عقلية الحرب الباردة، التي لا تفترض غير الصراع ضد اميركا، رأس الامبريالية الساخن. اي انهما ما زالا يسيران على هدى الثورات الاولى، «الممانعة»، المتمحورة حول العداء للصهيونية والامبريالية. ومن الطبيعي، في هذه الحالة ان لا يستجيبا لثورة الشعب السوري الثانية، الثورة الديموقراطية.
في المقْلب الآخر، الأراضي الفلسطينية، ما زال ابناؤها يخوضون ثورتهم الاولى، ضد الصهيونية. ما زالوا يتلقون في يومياتهم وحيواتهم وممتلكاتهم الآثار المدمرة للاحتلال الاسرائيلي، موضوع ثورتهم الاولى هذه. صحيح ان الفلسطينيين استجابوا لرياح الثورة الثانية، الديموقراطية، ولكن على قياس قضاياهم، ودرجة سخونتها. شبابهم الذين تفاعلوا مع «الربيع العربي» ونزلوا الى الشارع، كانوا يطالبون القيادات المتخاصمة، «حماس» و»فتح» بانهاء انقسامها. فيما الديموقراطية والانتخابات والتداول السياسي والفساد… كلها مؤجّلة، مبدئيا، حتى انجاز الثورة الاولى، ضد اسرائيل. فكان مشروع دولة رفعه محمود عباس الى الامم المتحدة، من شأنه تمكين الفلسطينيين من ان تكون لهم دولة، لو نال موافقة مجلس الامن. لكن الذي أيد محمود عباس هذه المرة هي روسيا والصين، فيما اعترض عليه واسقطه الفيتو الاميركي.
المهم ان الثورة السورية متصالحة مع زمنها، فيما الثورة الفلسطينية ما زالت تجرجر ذيول زمن آخر. ولهذا الوجود المزدوج ترجمة واضحة على الصعيد الدولي. او بالاحرى، لو لم تكن الدول صاحبة الفيتو في مجلس الامن على هذه الوضعية من الصراعية الثنائية، العائدة الى زمن الحرب الباردة، لانتصر الفلسطينيون بثورتهم الاولى، بتأييد قوي وصريح من الاميركيين، واقتربت ساعة انتصار الثورة السورية بتأييد من روسيا والصين.
لكن المشلكة الأقل وضوحا تبرز في لبنان: هل هو في مراحل الثورة الاولى؟ من حيث قدرة اسرائيل الدائمة على اختراق اجوائه، على الأقل؟ ومن حيث تحمل ذاكرته الحديثة لكل اشكال الاعتداء الاسرائيلي عليه؟ ومستقبلا ربما، من حيث وضع اسرائيل يدها على الثروات النفطية الواقعة في مياهه الاقليمية؟ الخ. هل هو اذن في مرحلة الثورة الاولى، أم انه في طور من اطوار الثورة الثانية الديموقراطية، التي بدأت بانتفاضة الارز عام 2005؟ والتي اخرجت الجيش السوري من لبنان فحسب، من دون ان تتخلص من سطوته وأذرعه الممتدة الى فريق لبناني بأسره. فكان طورا… ومنذ ايام دخلنا طورا جديدا: الخروقات العسكرية التي يقوم بها الجيش السوري في الاراضي اللبنانية الحدودية شمالا وبقاعا.
إدانة هذه الخروقات صدرت من الرجالات الذين خاضوا معارك ثورة الارز؛ وقد ردّ على هذه الادانات رجالات من «الممانعة»، مؤيدون للنظام السوري. وكانت حجتهم واحدة: ترفضون وتستنكرون دخول الجيش السوري الى شمال الاراضي اللبنانية وبقاعها، وتسكتون عن الخروقات الاسرائيلية الدائمة لجنوبها؟ طبعا هذه الردود مغلوطة؛ فمن باب التمسك بعقلية الثورة الاولى المتهافتة الترويج لفكرة ان الذين يدينون الخروقات السورية، لا يبالون بتلك الصادرة عن الجيش الاسرائيلي. واذا افترضنا العكس، أي انهم يبالون، فان ادانة جماعة «الممانعة» للذين يدينون الخروقات السورية هي بمثابة القبول باعتداء على اساس حصول اعتداء اكبر. (كما في المحكمة الدولية: «ولماذا لا ترون الجرائم الاسرائيلية؟»).
بصرف النظر عن قيمة الاستنكارات والردود عليها، ترتسم منذ الآن المعادلة الجديدة التي سوف يواجهها لبنان في الايام القادمة: بين «ثورة» من الطبيعة «الممانعة»، تعود الى زمن مضى، أفرغت من ثوريتها ومعناها، وهي ضد اميركا واسرائيل بتأييد روسي صيني ايراني، وبين ثورة ثانية جديدة، ضد نظام حكم لبنان وحكم حياته السياسية على امتداد عقود. هو الآن، أي النظام السوري، يطلب منه لبنان اذنا، لا ليصوت لمصلحة الشعب السوري، فهذا محال، بل ليمتنع عن التصويت، وهو قرار تسانده الامبريالية، وترفضه روسيا والصين.
هذا هو حال لبنان اليوم: لا هو، مثل الفلسطينيين، يضع نصب عينيه ثورته الاولى، ولا هو مثل السوريين يقاتل ابناءه من اجل تحقيق ثورتهم الثانية. انه بين الاثنين، بين «ممانعة« لم تنجز ولم تحقق مرماها، اللهم البقاء بقوة السلاح والعصبيات المتبادلة، وبين ثانية داعمة بروحها وقلبها لثورة السوريين الديموقراطية، قوية بالعصبيات، صحيح، ولكن ايضا بالتوق الحقيقي للتخلص من الاستبداد والتوارث والفساد. بين اولى يريدها الروس وثانية يؤيدها الاميركيون.
بين زمنين أيضا: زمن الحرب الباردة وحروب التحرير الوطني، وزمن اليوم حيث تختلّ الزعامة الدولية ويهيمن ربيع عربي ديموقراطي. الزمن الاول أفسده الوقت، ولم يفض الا لتقليص حقوق اصحابه. حتى دويلة فلسطينية بحدود مبتورة لم يحققه هذا الزمن التحرري الاول. زمنٌ ينقشع اكثر فاكثر الارتباط العضوي بين ابطاله وابطال الاستبداد الذين تنتفض الشعوب العربية بوجه غالبيتهم. اما الزمن الثاني، فنعيش الآن فصوله الاولى؛ كأنه يقول، هذا الزمن، ان الاولوية هي لإبطال الزمن الاول الفاشل.
لبنان يعيش الآن الزمنين، الاول والثاني. لا هو متأخر عن الركب العربي، ولا هو متقدم عنه. انه عالق في زمنه الخاص، «خصوصيته«، التي تعصى على الوصف الدقيق. هل يكون هذا الانقسام، كما هي عادة لبنان التاريخية، مصدر وصراعاته الطاحنة المقبلة؟ أم يفي الوجه الثاني حقه، ويغرف منه فرصا لاغناء تجربته واعطاء المعنى لنفسه؟ فهل يجده؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
“نوافذ” المستقبل