تحكم لبنان الآن فئة هي التوأم الروحي والجسدي لتلك التي تتمسك بحكم سوريا، بالنار والحديد: فئة «ممانعة» تمكّنت من تسخير سلاحها لتقبض على السلطة فيه عبر «انقلاب دستوري» بهلواني. أن تبتز اللبنانيين وهي رافعة نفس هذا السلاح بـ»فتنة» تبثّها كل مكوناتها. أن تستند، في «كفاحها» من أجل الحكم والتحكّم على فكرة «المؤامرة الامبريالية والصهيونية». ان تنفي واقعها عبر اعلامها الموجّه ورجالاته الافذاذ، أن تخلق محرّمات سياسية، ان تفسد، ان تورّث… تماما مثل النظام السوري البعثي الآيل الى السقوط.
وحدة الصفات هذه بين قائدة الفئة التي استلمت الحكم مؤخرا في لبنان، وبين الفئة التي تبذل الغالي والنفيس من اجل ان تبقى حاكمة في سوريا، ليست صدفة تاريخية، انها بالأحرى نتيجة منطقية لتاريخ من التلاقح السياسي بين الفئات ومعها الطوائف والطبقات التي أمسكت بتلابيب الحكم في البلدين الشقيقين غير التوأمين.
تلاقح غير ندّي، فيه طرف أقوى من طرف، سوريا أقوى من لبنان… أيضا هنا، بفضل تفوق عسكري أملاه حجم البلدين وظروف نشأتهما، حداثة الأضعف، لبنان وتاريخية الأقوى، سوريا. وربما أيضا عقدة ذنب عريقة لدى الأضعف، لبنان، من قدَم علاقته بالغرب…
الحرب الأهلية اللبنانية حوّلت هذا الضعف الى استلحاق، والسياسيون اللبنانيون، أو كل من رغب بالحضور في معترك الحياة العامة في لبنان كان عليه عبور القناة السورية، حيث «الملف اللبناني»، «الخطير والمهم»، والذي لا يستلمه غير قادة السلطة السورية.
لن تجد في سوريا اليوم جهة لبنانية تملي على منتفضيها سياستهم، كما سوف تجد في لبنان أبواقاً نافذة وحزباً حاكماً بسلاحه، يدافعون عن قتلة المنتفضين… كما لن تجد رئيساً سورياً فرضته بيروت على دمشق، ولا لائحة انتخابية، ولا عميداً للجامعة ومديراً لأحد اقسامها. هذا خارج أي خيال سياسي لبناني وسوري.
العلاقة واضحة بين سلطتي البلدين، وهي قديمة الى حدّ انه حتى المعترضين عليها يحتاجون الى جريمة مدوية كتلك التي أودت بحياة رفيق الحريري لكي يشعلوا ثورتهم عليها. ومع ذلك، فهل يمكن القول ان هذه الثورة استطاعت ان تديم انجازها؟ كلا بالطبع. بين نيسان 2005 واليوم حصلت ثورة مضادة، بفضل السلاح الشبيه، واستعادت السلطة السورية رجالاتها الخلص الى المواقع التنفيذية، بسرعة قياسية… ليس اكثر من ستة اعوام. الحديث من هذه الزاوية يطول…
ولكن ما يهمنا ان لبنان هو في قبضة سلطة تشبه السلطة السورية بكافة ملامحها، حتى بحرياته الفردية، الآخذة في الإنحسار، والتي طالما تشدّق بها هؤلاء الابناء. بمعنى آخر، فان الهيكل الاساسي لبنيانه مهدّد، وربما أكثر مما هو مهدّد بنيان سوريا. ولكن مع فارق غريب: انه، اي لبنان، الذي يعتدّ بنفسه كبؤرة الديناميكية السياسية، كملاذ للأحرار وكمنتج فذّ لثمرات حرية التعبير والاعتقاد…. هو اليوم خامد، خاضع، أخرس، أطرش… فيما سوريا تضجّ بثورة حقيقية، بدأت تخطو بسرعة نحو التنظيم والتأطير والتنسيق؛ وربما هي الآن في طريقها الى ان تتحول الى أعظم الثورات العربية، بما هي قادرة على تقديمه من مواقف وافكار وشعارات وممارات سياسية.
أما المفارقات الناجمة عن هذا الاختلاف فتكاد لا تُحصى:
في مسألة الهويتين الوطنيتين: فيما لا يكفّ المتظاهرون السوريون عن الترداد بأنهم «واحد واحد واحد…! الشعب السوري واحد!»، وانهم موحّدون كطوائف ومذاهب على الرغم من تحريضات السلطة السافرة، معتزون بسوريتهم، رافعون هذه السورية الى مصاف العقيدة الثورية…. يتمرّغ اللبنانيون بطوائفهم ومذاهبهم، وبكيدياتهم، من دون مواربة ايضا…. وذلك على الرغم من عنصريتهم تجاه السوريين، وقد ملأت الفضاء اللبناني تصورات ومواقف لا تليق بشعب منقسم على نفسه كل هذا الانقسام. هوية سورية متبلورة اذن، مقابل هويات لبنانية نافرة ومتنافرة، وفوق ذلك متعالية على الهوية الآخذة بالتبلور.
في مسألة «المقاومة»: فيما الشعب السوري يعيد اختراع معنى «المقاومة»، بمعنى مقاومة ما هو ملموس ومندرج ضمن العاديات من الايام؛ ويخترع مع «المقاومة« معنى الشجاعة الحقّة، بما هي مواجهة مسؤولية الكلمة، وتناغم الكلام مع الأفعال…. يتقهقر اللبنانيون بمعانى مقاومتهم، ويصلون بها الى حضيض اكتشاف العمالة لاسرائيل او للاستخبارت الاميركية، ثنائي «الامبريالية والصهيونية» المفترض «مقاومته»…. ولكنهم أيضا يعيدون اختراع معنى «الشطارة»، بصفتها طريقة لا تحتاج الى الاخلاق لتنتصر على الواقع.
فيما يتّجه المنتفضون السوريون في ثورتهم الديموقراطية عراة الصدور واليدين، ينبذون السلاح، ينكرون حملانه، يكذبون ادعاءات السلطة حول اتيانهم به…. يحتفي اللبنانيون بهذا السلاح، منذ انتفاضتهم الاولى، عام 1975 وحتى هذه اللحظة التي يحتاجون فيها الى «حماية سلاح المقاومة» بالسلاح، مروراً باحتفالاتهم واعراسهم وافراحهم…
المنتفضون السوريون يقومون بالتظاهرات، وفي كل يوم جديد يزداد عددهم، ليكونوا بذلك أصحاب المبادرة السياسية والدور المركزي في ديناميكية بلادهم… وذلك على الرغم من المنع والقتل بأشكاله والفبْركات الاعلامية…. ترى اللبنانيين، المستمتعين نظرياً بالحرية، ينطلقون في تظاهرات اسقاط نظامهم بأعداد تزايدت مرتين، ثم خبت، لتأتي من بعدها آخر تظاهرتهم التي يقلّ المشتركون فيها عن عدد المشاركين في التظاهرة الاولى…! (بل روت الصحافة ان عراكا قد حصل بين المشاركين في هذه التظاهرة الاخيرة حول تأييد المنتفضين السوريين…. فوقفت الغالبية ضد هذا التأييد، ورفعت قيادة التظاهرة من صوت الأغاني لكي لا تسمع شعارات هؤلاء الخارجين عن سياقها الآمن).
خلاصة الموضوع ان اللبنانيين ينتظرون، وهم مكتّفو الايدي، ما ستسفر عنه «الاحداث في سوريا» لكي «يرتّبوا»، على ما يتصورون، أوضاعهم العامة، وربما الخاصة ايضا. اللبنانيون ينتظرون…. هذا ما تفتقت عنه قريحتهم الفذة، أمام انبثاق الشعب السوري في ساحة التاريخ للمرة الاولى منذ اربعين سنة. وهم «يعملون حسابهم» لليوم الذي سوف يلي هذا الانبثاق؛ ولا يختلف بعضهم عن بعض في توقع نتائج سلبية أو ايجابية منه. فاذا انتصر النظام على هذه الديناميكية الجديدة انتصر بعضهم، والعكس صحيح أيضاً: أي انتصار الظاهرة الشعبية على النظام، سيكون نعمة لبعضهم الآخر.
والاثنان ينتظران، ويعتقدان بأن ثمرة الانتصار أو الهزيمة سوف تهبط عليهم بالصيغة التي يتصورون أو يرغبون. الأكثر اشكالية من بين هؤلاء هم المؤيدون للثورة: في المضمر من خطابهم ان تحرير النظام السوري من قبضة القمع والفساد سوف يعيد للبنان حرية قراره، وبهذا يخرجون منتصرين… ناسخين بذلك السلوك الاستتباعي نفسه.
والأمر طبعا أكثر تعقيداً من هذا الاعتقاد البسيط.
صحيح ان أبرز أسماء هذه المعارضة هي من الموقِّعة على إعلان «بيروت دمشق دمشق بيروت» في آب من العام 2007، وهي وثيقة ترسم التصحيح الجذري للعلاقات بين البلدين «بما يلبّي المصالح والتطلعات المشتركة للشعبين في السيادة والحرية والكرامة والعدالة والتقدم»… والى ما هنالك من كافة العبارات التي ينشدها فريق 14 آذار السياسي اللبناني، المؤيد للانتفاضة الديموقراطية…
ولكن، هل نتصور اننا يمكننا استعادة استقلالنا بمجرد انتظار استقلال الموقعين السوريين على البيان، لمجرد التزامهم بكلمتهم عندما كانوا معارضين؟ الأرجح لا، وإن كنا لا نشكك ابدا في النوايا الصادقة لهؤلاء. فالمسألة ليست عطاءات أو كلمات شرف استنفدت دماراً وشهداء… لكي تشهد تغيرا مطلوبا.
المسألة ستكون أعقد من ذلك، سوف تطرح من خلالها المصالح وشبكة العلاقات التي سيبنيها الحكم الديموقراطي الجديد، لا تدخل فيها رغبات الثوار الا بالقدر الذي يحسبون فيه مصلحة بلادهم العليا. وعندما سيجدون امامهم لبنانيين اجتهدوا في معاني الصبر السلبي، لن يكون وعد السيادة والاستقلال الا كلاماً مؤجلاً، وفي أفضل احوال خطاباً مغرياً غير قابل للحياة… فقط لأن اصحاب المصلحة به لم يفعلوا شيئاً غير الانتظار، اخترعوا، بشطارتهم الفذة، معاني جديدة للانتظار…
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل