الشابة ريما فضولية وعفوية. تطرح السؤال تلو الآخر عن بلدها وبلدان الآخرين. تتحدث عن الاطروحة التي تعدّها في باريس حول اشكاليات الفلسفة السياسية. تصف علاقتها غير النهائية بلبنان، موطنها. تريد ان تنطلق في رحاب الدنيا، التي تتصورها منبسطة. تعرف اللغات الثلاث، كما يجدر بأي لبناني، أو لبنانية. وتتعلم فوق ذلك اللغة السيريلنكية. «السيريلنكي…؟!» أسأل، مندهشة. «نعم… اللغة السيريلنكية، والبلد نفسه سيريلنكا، بتاريخه وانقساماته وثقافته وأغانيه… ومطبخه، خصوصا مطبخه…»، تجيب. ثم أضافت انها تدعوني هذه الليلة بالذات الى «عشاء سيريلنكي». «و لماذا سيريلنكي بالذات…؟» أعود فأسأل، وفي سرّي إعتقاد بأنها ربما مغرمة بشاب سيريلنكي… «هل من ألفة ما مع هذا البلد؟» أعود فأسأل. وجوابها: «نعم، هناك ألفة وحنين. مربيتي السيريلنكية، كانت تكلمني بلغتها الأم وتروي لي الحكايات، وتغني لي بالسيريلنكي قبل ان أنام، وتطبخ أشياءها الحارة… فكبرتُ على التحديق بها، وعلى الحاجة الى استعادة لحظاتها معي. وهذا الشعور بقي قويا عندي حتى الآن. سوف أتعمّق جيدا باللغة، وأذهب الى بلادها…».
لعل جواب ريما حول مربيتها السيريلنكية واعتزازها بها، وحنينها المعلن اليها… يشكّل موقفا استثنائيا من بين المجايلات لريما، اللواتي قاربن الثلاثين من العمر تقريبا، أو اصغر قليلا. فالمربية التي نعتدّ بها، ان وجدت… واحيانا نخترعها، هي المربية الفرنسية او السويسرية او البريطانية. مربية الملوك والامراء وكبار القوم، الآتية من بلاد أرفع شأنا من بلادنا. اما المربية السيريلنكية، فلا نمنحها هذه التسمية. لا ننظر اليها، لا نشعر بها، ونهمل كل ما هو خارج عن خدمتها لنا، مجرّد خدمة: ذاك الهدف المعلن الذي من اجله تركت كل دنياها وحلّت في ديارنا. فعاملناها كما يجدر بالبائسين الضعفاء (الضعفاء حقا) ان يعاملوا في بلاد اتوا لخدمة منازلها. لا نريد شيئا من نفسها، نتجاهل لغتها كما نحتقر لغتنا. نفرض عليها عربية او انكليزية، الاثنتان مكسّرتان، فتكون مادة سخرية واسكتشات فكاهية. من يتذكر تلك الصورة التي تجمع امرأة أنيقة عجوز، وبجانبها السيريلنكية تحمل شعار: «Madame says: Syrians no!» في احدى التظاهرات التالية على استشهاد رفيق الحريري؟
القهر الثقافي، إسكات اللغة والثقافة: هذا هو النصيب غير المرئي للمربية-الخادمة التي أتت من وطن غير مرموق من بين الامم. السيريلنكية هي طليعة الخادمات-المربيات. ظهرت منذ حوالي 25 او 30 سنة، على ما تدل البيوت، الى حد ان أية خادمة الآن اسمها « السيريلنكية»: «سيريلنكيتكم… سيريلنكيتنا…». اتينا بالسيريلنكيات من اجل الخدمة. وتنطوي هذه الخدمة ضمنياً، بحسب المخدومة، على النهوض بمهام رعاية الاطفال وتربيتهم: حملهم، السهر عليهم، مرافقتهم في المشوار، إرضاعهم، إطعامهم، أخذهم الى النوم، إشراكهم في اللعب، مرافقتهم الى اللعب… ونريد ضمنا، أيضاً، بعد ذلك ان يكون هذا الطفل تعامل مع هذه الساهرة عليه على انها مجرد قائمة اوتوماتيكية بالأعمال، نازعين عنها اي معنى انساني لفعل التربية، اي تشكيل للوجدان والذوق والسلوك واللغة والخيال. نفترض بأن هذه التي تقوم بكل مهام الرعاية والتربية ليست سوى آلة تنفذ الإطعام والإرضاع والحمل على الاكتاف الخ.
ثلاثون سنة لم تصدر سوى إشارات سؤ المعاملة الانسانية المعروفة، من حبس واستغلال واستباحة… وكل واقعة لا يمكن نكرانها. ولكن الثقافة والإلفة والبصمة…. كلها من عالم الاشياء التي يمكن طمسها دهرا حتى تأتي صبية مثل ريما تعتز بالأثر الذي تركته عليها مربيتها السيريلنكية، ذات الثقافة غير المهيبة.
السيريلنكيات يخدمن البيوت وأهلها منذ ثلاثين سنة. وقد ربيّن جيلا وأكثر في ما يشبه الصمت او النكران. ونحن لم نهتم بدراسة هذه التربية، كما لم نهتم بتاريخ هذه الهجرة المعاكسة، نحن بلد الهجرة بامتياز! ولا التفتنا الى الاثر الثقافي والوجداني الذي خلفته على اطفال نشأوا على وجوههن، وجوه السيريلنكيات. وهذا تجاهل غير معذور؛ لأنه يحجب واحدة من ديناميكيات فعل التثاقف، ويقلّل من معرفتنا بما يحيط بنا من عوامل تتشكّل منها ظاهرات غير مفهومة.
وهذا يدل على تشنّجنا الثقافي وإنكماشنا على عوالمنا الضيقة وإنكبابنا على ذواتنا وعذابات هويتنا التي لا تنتهي، من غير الالتفات لحظة الى غيرنا، ليس غيرنا الاقوى منا، ونحن مهووسون به، ننكر عليه ايضا شجونه وبؤسه… بل شؤون غيرنا الأقل منا شأنا ايضا. والذي نعامله بأسوأ مما نتهم الآخر الغربي او الصهيوني بسؤ معاملتنا.
ما نحتاج الى الاجابة عليه حول الهجرة السيريلنكية الى لبنان، وحول اثرها التربوي على جيلي الثمانينات والتسعينات وما بعدها، هو التوثيق طبعاً. كم من البيوت دخلت اولئك السيريلنكيات؟ في أية سنوات؟ وبكم من المدَد؟ وكم من الاولاد بالتالي قمن بتربيتهم؟ وما هي الثقافة التي حملنها الى المنازل التي خدمن فيها؟ وهل يوجد شباب وشابات، مثل ريما، قادرون على التحدث بنفس عفويتها وإعتزازها عن الاثر الذي خلفته المربية السيريلنكية؟ وعن اثر الحنين اليها في تشكيل وجدانهم؟
ثم، اذا كانت السنوات الثلاثون الاخيرة هي الشاهدة على تدفّق السيريلنكيات الى البيوت، لماذا هذا التاريخ بالذات؟ هل يصادف نفس تاريخ تدفّق اليد العاملة النسائية من الطبقات الوسطى الى سوق العمل واضطرار النساء اللبنانيات المتوسطات الحال الى اللجؤ للسيريلنكيات في خدمات المنزل والامومة؟ واذا كان الوضع هكذا، فان ثمة علاقة غير سوية بين نساء ونساء… حركة غير طبيعية، غير عادلة: نساء يخرجن من بيوتهن الى العمل (اللبنانيات)، ونساء يخرجن من بلادهن لخدمة هؤلاء النساء الخارجات الى العمل (السيريلنكيات). وهذه معضلة نسوية لم تجد من النسويات غير التعاطف مع الخادمات والدفاع عن أدنى حقوقهن الانسانية.
امرٌ آخر: علاقتنا بالسيريلنكيات تشبه علاقتنا بالغرب، ولكن معكوسة. نحن فيها «الاقوياء»، والضعفاء هم نساء سيريلنكا. ومثل الغرب تجاهنا، نحن عنصريون وتعميميون، الألعن من كل ذلك… ناكرون لثقافة غيرنا ولغته وفنونه الخ.
على هامش السيريلنكيات، كان هناك دائما الفيليبينيات. وهن الخادمات الأعلى اجراً، ويعملن في البيوت الأعلى دخلا من المتوسط. ولكن هذا لا يلغي بأن التربية والرعاية كانتا جزءا من عملهن. وان لأثرهن نفس اسئلة اثر زميلاتهن السيريلنكيات. بعد الفيليبينيات، جاء الجيل الثاني من الخدم المهاجر: الاثيوبيات والاريتيريات. وهذه ايضا فئة تقوم الآن بتربية صغار اللبنانيين واللبنانيات، او جزء منها. والآن، أي منذ ثلاث او اربعة سنوات تقريبا، حضرت نساء بنغلادش والنيبال. وتستحسن بعض السيدات في صبحياتهن بنات هذه الجنسيات الاخيرة، فهن أرخص أجراً من السابقات واكثر قدرة على مكابدة ساعات العمل التي لا تنتهي…