**
إلى نساء قريتي (هجري – أعروق) اللواتي يمتن في الطرقات قبل الوصول إلى مستشفى مديرية “حيفان”.. إليهن في عيدهن 8 مارس.
(1)
علاقتي بالشرفات قديمة: بيتنا يطل على بوابة مدينة تعز، فاتحة سوق الصميل – حوض الأشراف، كان لنا شرفتان جميلتان مزخرفتان، لهما فتحات بأشكال مختلفة. طللتُ منهما على حركة شارعنا (الحوض): للباعة المتجولين، وعلى الفرق الفنية للغناء والرقص الشعبي، التي كانت تجوب مدينة تعز فنانين وفنانات بملابس الحياة المنقشة وبودرة الوجه، والكحل وأحمر الشفاه،و”المشاقر”. طللتُ منهما على أناشيد ودفوف المداحين، ونساء “صبر” و”الحوبان” جالبات الزيتون واللبن الرائب والبيض البلدي، طللتُ منها على عمي “عثمان” أشهر بائع “الروتي” /الخبز في “الحوض”، وعمي “مصلح الحنحنة” الذي لا يهمد يعمل بكد وعق، طللت على الجولة، وإشارات المرور وضجيج السيارات وفندق “شهبين”الذي كان يبدو لنا فندقاً من خمسة نجوم، طللت على دكانة عمي “علي الحجري” والزبائن الطالبين للسلع المنزلية، تأملت شخصيات: أحمد سيدة يا مجنون، و”عفارة”، و”نقطة” امرأة “الصلو” المتأتئة، طللت على حياة متوهجة، شكلت وجداني وذاكرتي.
(2)
كان أبي يطل منها ليرى شيطنة الأولاد، ويراقب دكانته التي تعددت وظائفها ابتداء من مطعم استأجره “عبد الرب” صاحب أحلى فاصوليا، ثم لوكنده بلا عنوان، ودكانة فيها بضائع كل شيء، ولا شيء، انتهت بسرقته عبر كل من يشتغل عنده، وأخيراً إلى دكانة لبيع البهارات وخردوات صغيرة، فيطل أبي ليراقب دكانته، ويسكب شتائم /”عرعرات ” من العيار الثقيل.
(3)
أما أمي فتطل منها على أحداث الشارع وصفارات النجدة، والضرب بالعصي والاصطدامات، والمضاربات، التي لا يخلوا منها شارعنا، فتسرع متدثرة ببطانية أو ملاية ثقيلة، أو “شوالة”، أو أي شيء تلاقيه في طريقها، فتعطف رأسها، وظهرها، ورقبتها، لترقب المشهد، ولا أدرى، حتى اللحظة ماذا كانت بالضبط تشاهد، وتلك “الغلمقة” التي لا تحجب العين والوجه، وتقصف ظهرها بل وتقصف حياتها؟
(4)
أما أنا فأتذكر حادثة “دندلتي” من الشرفة. كانت في إحدى العصريات، كنت قد حفظت أغنية عرفتها للفنان الجميل الرائع دوماً أيوب طارش” خذني معك ويا حبيبي ش تبعك” رددتها ذلك اليوم، فظهر أبي من دكانته تحت البيت، وركلني عن بعد / عن طلع / عن تحت (سموه ما شئتم) بعرعرات ساخنة لي ولأمي، وجدتي، وأظن أنها وصلت إلى جدتي الأولى “حواء” ، ثم اندفع إلى البيت، وسجل لي ضربات ما زلت أذكرها حتى اليوم:
صغيرة “تدندلي”وتغني على الحبيب، من هو حبيبك يا بنت الكلب.. الخ.
من ساعتها ضاع طعم الشرفات، وحتى اليوم عندما أذهب إلى بيتنا الذي بني على شرفاته القديمة شرفتان إسمنتيتان جديدتان، غير مزخرفتين ,ولا ملونتين، ولا بها خروم منقوشة، أتذكر أغنية “واحبيب” ولا أحس بطعم الفرجة وخصوصاً وبيتنا يطل على شارع فيها الباعة ونساء “صبر” وهن يبعن الفواكه، وعمتى “حمامة” ضوء “حوض الأشراف ” بل شمعة و ذاكرة “تعز”.
(5)
لكني ما زلت مُصرة، حتى اللحظة، أنه سيأتي اليوم الذي – طبعاً لن أبني – لكن أن أستأجر بيت بشرفة صغيرة، وأشرب شاي أحمر بالنعناع، واقرأ شعراً وأسمع نجاة الصغيرة ليس فقط “لا تكذبي، عل اليادي اليادي، بل “عيون القلب” و “ساعة ما بشوفك جنبي”. سأرتشف قهوة الصباح واستفتحها بصباحيات فيروز “بَعدك على بالي” فكل يوم وأنا أحلف مئات الإيمان المغلظة، خصوصاً عندما نتزاحم أنا وطفلاتي على نصف نافذة تطل على حوش سيارات المجمع، وتتقدمنا أكواب الشاي الأحمر بالنعناع. ولو بقى ساعة في عمري سأكتب وصيتي لا بد من شرفة تحتضننا وتحتضن شاينا الأحمر بالنعناع وان طال السفر – أو طال الموت.
(6)
لا توجد في بلادنا حتى اليوم ثقافة الشرفات وان وجدت لا وظيفة حياتية لها، إنها شرفات صامتة، خرساء موحشة، شرفات من “خفر السواتر”.
سؤال:
هل تبادر إلى ذهننا ذات يوم سؤال: لم هذا الكم الهائل من البلكونات في عمارات شاهقة متعددة الطوابق والتي تحيطها البلكونات من كل الجهات؟
حيث نرى مدننا متخمة بالعمارات المتعددة الطوابق و تحوي الآلاف من البلكونات المزخرفة، والملونة، لكن هل رأينا يوما أسرة تشرب قهوة الصباح فيها؟ وهل وجدنا رجلاً يسمع إذاعة الصباح في ركنها؟ وهل رأينا امرأة تقرأ كتاباً فيها؟ وهل رأينا أماً تنادي أولادها الصغار منها أو امرأة تنشر الغسيل، أو امرأة تتأمل، أو تناجي جارتها كما يفعل البشر منذ أن خلقوا وخلقت شرفاتهم؟؟!!.
مطلقاً، مطلقاً، لم أشاهد في بلكونات وشرفات في مدينتي “تعز” أو العاصمة “صنعاء” (وأنا أقطنها منذ منتصف 84) صنعاء التاريخية وبلد الحكمة يمان، وصنعاء حَوتْ كل فن، وصنعاء الحضارة والديمقراطية، لم نشاهد أي رجل كان أو امرأة، أنسي أو جني، إلا من قطط تتسلق أسوارها أو فيران تلهو في فتحاتها الجميلة أو طيور وغربان يذرقون فيها.
عدا مدينة “عدن”، ليس لكونها فقط منطقة حارة، ولكن لأنها مدينة مدنية كوزموبوليتية لكنها بعد حرب صيف 94 م نُصلت من كوزموبليتها ومدنيتها ومن الحياة كلها، لتلحق بخفر السواتر، ومازالت صورة أحد أقربائي وزوجته وهما يتناولان شاي الساعة الخامسة في شرفة بيتهم في أحد أحياء عدن محفورة في عقلي.
(7)
شرفات بلادي لا تعرفها النساء، وإن عرفتها فلتنظيفها، ولو نظفتها يجب ألا يرى ظلها أي كائن أنسي أو حتى جني، فيجب أن تنعطف أسفلا بحيث يصبح رأسها بين أقدامها، وفضلاً عن أنها ملثمة أصلاً، فتبدو الصورة (وجه ملثم يتدلى بين الرًجلينْ)!
أتذكر هجيج أمي وهي تزعق في وجهي كيف تجرأت أنظف بلكونتنا دون أن أنعطف خمسين عطفة، ودون أن أحمل أسفار من طرابيل، وماذا سيقول الناس عني أبسطها قليلة حياء وأكبرها “……..”؟
لم نسأل أنفسنا، ماهي وظيفة الشرفات (البلكونات) في اليمن؟
رأيت وظيفتها، وظيفة المخزن / القفا ( قفا البيت ) الذي يحوي الأدوات الفائضة والخردوات والعناكب والغبار، فضلاً عن روح المرأة الفائض في ظلال نصوص شرفات بلا شرفات، ونساء بلا نساء، وحياة بلا حياة.
(8)
بلكونات بلادي ، مثلها مثل النافذة، مثل السطوح / السقف يجب أن يسوّر بأسوار عالية، حتى لا تتسرب أية نظرة من أي كائن كان، هائمة كانت فتحدث الكارثة وتعتور العورة. ولذا رأيت في “حضرموت”، و”تعز” و”عدن” الأسمنت قد بدأ يعلو البالكونات التي كانت موجودة من قبل ، فترى نصف البلكونة مزخرف، وبفتحات ليدخل الهواء، ونصفه الآخر جداراٍ إسمنتياً أسود، أو طربالاً ثقيلاً، أو طربالاً بلاستيكياً، وفي الفترة الأخيرة، بدأت تبنى البيوت بلا بلكونات، فيبدو البيت سجناً خرسانياً كبيراً.
(9)
أتذكر في قريتي (هجري –أعروق) البعيدة عن الحياة والوجود الإنساني التي ما زالت تغرق في الظلام، وتتمنى شربة ماء نظيف، وطريق يفصلها عن الموت المؤبد، ومستوصفاً بحبة أسبرين، ومدرسة لا تقطع فيها طفلات قريتي الممصوصات دماً ولحماً، المشويات من لهيب الشمس ولهيب الحياة القرو- أوسطية عدة كيلومترات ليصلن إلى مدارس قصية، أو ليجبلن قطرة ماء) طرق قريتي شديدة الوعورة، لدرجة أنها لا تتسع لأقدام حمار أو فرخة، فإلى جانب ضيقها فيها كثير من المزالق والانحدارات، حتى أنه أطلق عليها طريق الموت، وخصوصاً للنساء اللواتي قضين نحبهن، وهن في الطريق لم يسعفهن الحظ للوصول إلى المستوصف البعيد “حيفان” أو “الراهدة”، ناهيك عن أن الموت يلاحقهن في ثنايا الطريق أثناء تأديتهن الأعمال الشاقة كالتحطيب، وجلب الماء، والرعي.. الخ، وأذكر أن في تلك الطريق عقبة تسمى (عقبة الشيطان) لكثرة القتلى الذين يتساقطون عندها.
والمفارقة الصاعقة عندما بدأ المشروع الجدي لشق الطريق، كان هناك اعتراض شديد من قبل “المشنبين” الغلاظ، فشق الطريق سيكشف سقف بيوتهم، ومن ثم ستكون النساء عرضة “للكشف” أي للعيون، أي ستنتهك عورتهن. وفشل المشروع تلو المشروع بسبب تلك العيون التي ستهتك حرمة النساء، أو بالأحرى حرمة الذكور فهذا الذكر الملغم بثقافة (الحُرمة/والتحريم) من السهل، بل والطبيعي أن تموت ابنته، وزوجته وأمه في طريق الموت، ولا يشق طريقاً ممكن أن ينتهك حرمة السقف!
فكما تذكر الأجندة الفقهية: “النظر سهم مسموم من سهام إبليس، ووالله لو أن النظر يحبل لأحبل كثيراً من النساء وقد تكون نظرة من المرأة لشاب أعجبها أشد عليه وعليها من السهم المسموم”.
هذا السهم رمز الفحولة المتضخمة الذي عبره تحدد مصير الكون، ومصير المرأة، هذا السهم الإبليسي الذي جعل المرأة تحبل من النظرة، المرأة الشيطانة التي تغوي جموع السهام، ولا تشبع، المرأة التي ” تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان”..
(10)
إنها النصوص التي تتضاد مع الحياة، مع الشرفات ، مع كوب الشاي الأحمر بالنعناع، مع قهقهة الأسرة على مائدة خفيفة، مع وشوشة الإذاعة وأغانيها الصباحية والمسائية، مع الجسد الذي يريد أن يتبرد ويتنفس، مع نشر حبل الغسيل، وحبل الروح، مع صوت أم تنادي ابنها أن يجلب معه الخبز/الروتي.
فأي وطن هذا يستأصل الوجوه المطلة من الشرفات إن وجدت، وإن لم توجد فأي وطن يحتمل الكتمة، ولا يتعشق الشرفات، ولا يدغدغ وجنات الصباح، ويطبع قبلة على عيون أبنائه اللامعة..! أي وطن يتضاد مع الوجوه يستقبحها، يتساكن مع الطرابيل والغلمقة العقلية والنفسية والجسدية، يتطامن مع اللاحياة، يتعاقد مع دعاتها الأشاوس لأجل ألا يطل وجه من النافذة، ولأجل أن تموت النساء، نساء بلادي عند “عقبة الشيطان”، عند “عقبة الشيطان”!
ولا كيف تشوفووووووووا؟؟؟
arwaothman@yahoo.com
* صنعاء، اليمن