من الصعب فهم خلاصة الحياة، بعض الناس يقولون: هذا يقاس بالذين يخلّفهم الإنسان وراءه، وبعضهم يقيسون ذلك بالإيمان، وآخرون بالحب، وهناك العديد ممن يقولون: الحياة ليس لها معنى بالمرّة..
بالنسبة لي أنا، أقول: أن تقيس نفسك بالناس الذين يقيسون أنفسهم بك.
قال هذا إدوارد بيرمنت ظهيرة أحد ومات، كانت عيناه مغلقتان وقلبه مفتوحاً والسماء صافية.
هذه مقدمة الفيلم الأمريكي “قائمة الدلو”
أفيش الفيلم صورة للبطلين ادوراد وكارتر يتضاحكان.
يعمل كارتر في ورشة إصلاح سيارات منذ عشرات السنين، متزوج منذ عشرات السنين، لديه أولاد منذ عشرات السنين وراض. كان كارتر يثرثر مع مساعده بحبور ويمارس عمله بشكل اعتيادي ويومي، حين جاءته نتيجة التحاليل، مصاب بالسرطان وعليه أن يبدأ العلاج فوراً.
أما ادوارد صاحب الثراء الفاحش، فإن ذلك حدث حين كان في اجتماع للطاقم الطبي للمشفى الذي يملكه. كان يتذوق شراباً نادراً ويقطع كلام المجتمعين كل حين من أجل أن يطرح أمراً يجدونه بعيداً كل البعد عن أهدافهم، بينما هو يظن أن كل كلامهم بلا معنى. قدّم لأحد المجتمعين كأساً يحتوي شرابه النادر ثم سأله: هل تعرف أين تقع فلسطين؟
أثناء لهوه مع المجتمعين الذين بدؤوا يتذمرون من مقاطعاته، أصيب بسعال شديد ونقل إلى العناية.
تصادف وكارتر في غرفة علاج واحدة.
حين طلب ادوارد أن يكون بمفرده في غرفة العناية في مشفاه الذي يملكه، أجابه مساعده: لا يمكننا ذلك، أنت قاتلت كثيراً لكي تجبر الإدارة على جعل غرفة واحدة لكل مريضين. إذن لا استثناءات، حتى لو كان المريض أنت مالك المشفى.
على سريرَي العلاج الكيماوي شديد الوطأة ومع خبر الشهور القليلة المتبقية لكليهما، كارتر وادوراد، حدثت تلك الصداقة النادرة والبسيطة. كارتر مع استسلامه وقبوله الهادئ لأمر الموت القريب، وادوارد مع تعنته وإنكاره وتذمره الطفولي، كانت صحبة عميقة قال عنها إدوارد إنها تعادل عشرات السنين السابقة.
بعد إحدى النوبات الشديدة التي أصابت ادوارد، نظر إلى كارتر وسأله:
ـ هل تفكر بالانتحار؟
استهجن كارتر:
ـ أنا؟ لا أبداً.
استأنف ادوراد:
ـ ربما لأنك مازلت في مرحلة الإنكار.
المراحل التي يعيش بها الإنسان بعد تلقي خبر شهوره القليلة في الحياة: الإنكار، الغضب، الاكتئاب ثم القبول.
ضحك كارتر قائلاً:
ـ وأنت في أي مرحلة؟
كانت زوجة كارتر تلازمه طوال النهار، وتثرثر وتكتم دموعها.
سأل كارتر حين رأى رفيقه وحيداً:
ـ ادوارد، هل أنت متزوج؟
أجاب ادوارد:
ـ أحب أن أكون متزوجاً، وأحب أن أكون عازباً. ولا أعرف كيف أحقق الاثنتين.
أجابه كارتر:
ـ لا عليك، أنا متزوج عن كلينا.
قال كارتر إن أمنياته في الشباب كانت أن يحصل على مليون دولار، وأن يكون أول رئيس أمريكي أسود، قال، لكن مع مرور السنين تغيرت الأمنيات. وسجل على ورقة صفراء سماها “قائمة الدلو” أمنياته:
أن أساعد شخصا غريباً عني.
أن أضحك حتى البكاء.
أن أقود سيارة شيفرليه.
أخذ ادوارد الورقة منه قائلاً إن أمانيك ضعيفة جداً، وأضاف أمنياته:
أن أقفز من الطائرة بالمظلة
أن أحصل على وشم على جسمي
أن أشاهد أكثر منظر في الكون سحراً
أن أقبل أجمل فتاة في العالم
قررّا أن يسافرا معاً بغية تحقيق الأمنيات.
غضبت زوجة كارتر، فهي تحبه ولا تريد أن تفقده حياً. لكن كارتر مضى مع رفيقه إلى تحقيق أول أمنية وهي القفز بالمظلة. ربط كل منهما نفسه مع مظلي متمرس، وطلب ادوارد من المظلييَن أن يؤجلا فتح المظلة كي يعيشا صدمة السقوط أطول وقت ممكن. وكان ذلك مترافقاً مع صياح الرعب اللذيذ.
ثم تسابقا بأحدث سيارتي شيفرليه. وفرح كارتر كطفل حين فاز على رفيقه ادوارد.
مضى ادوارد ليحقق أمنيته الثانية، إحداث وشم على جسمه.
وجلس بجانبه صديقه كارتر يثرثران، ويخططان للرحلة القادمة في مشوار الحياة القصيرة.
قرّرا أن أجمل منظر شاهداه هو مشهد الهرم، كان صوت الأذان المسلم منبعثاً من القاهرة.
كانا في الطائرة التي يملكها ادوارد، محلقين فوق القطب، قال كارتر متأملاً صفاء الليل، من علٍ:
ـ النجوم إحدى هبات الرب الجميلة.
ـ هل تعتقد أن كائناً صنع هذا؟
ـ ألا تعتقد أنت؟
ـ أتعني أن أنظر إلى السماء وأعدّ هذا وذاك؟ لا بالطبع.
ثم أضاف ادوارد:
ـ إذا علّمتنني الحياة شيئاً، فهو أن خمساً وتسعين بالمئة من الناس هم على خطأ.
ـ ألا يمكن أن تكون أنت على خطأ؟
ـ حين أكون مخطئاً، أفوز.
قال كارتر محدثاً نفسه:
ـ هذا الرجل ينجح بهذه الطريقة.
حاول ادوارد أن يجعل كارتر يجرب الحب مع امرأة غير زوجته، وأرسل له سمراء حاولت أن تغويه بذكاء ودعته إلى سريرها، لكن كارتر المحب لزوجته شكر الفتاة واعتذر لها رغم سحرها، ورجع غاضباً من ادوارد.
في اليوم التالي رجعا إلى الوطن.
في اليوم الأول لعودة كارتر إلى بيته، أعدَت له زوجته عشاء فاخراً وسط الأولاد والأحفاد، ووعدته بليلة نادرة كالتي كانا يعيشانها أيام الصبا، لكن كارتر لم يلحق أن يسعد بهذا، ونقل إلى المشفى.
ودع كارتر زوجته، وطلب أن يودع ادوارد، قال له ادوراد: هذه القائمة لرجلين، وهي لم تنته بعد، أجابه كارتر:
ـ أخشى أني مضطر.
ودخل كارتر إلى غرفة العمليات، ولم يرجع. وبعد حين لحق به صديقه.
دفن رماد الصديقين في كبسولتين على جبل ثلجي بعيد، وراء جدار حجري صغير لا يلفت انتباه أحد، وكان ذلك “ضد القانون”، الأمر الوحيد الذي ارتكباه مخالفاً للقانون، أن طلبا أن يدفن رمادهما في هذا الجبل الثلجي.
يعرض الفيلم الآن في سينمات ستوكهولم، تحت عنوان آخر “الآن أو أبداً”. بعض النقاد أعطوا لقيمته الفنية نجمتين وبعضهم أعطوه أكثر، ربما تتعدد النجوم حين تزداد كمية المال المصروف بطريق الفيلم، أو حين يكثر المخرج من استعراض براعته في التشويق، لكن يكفي الفيلم أنه أشار بدون تكلف إلى تلك المفاهيم البسيطة والعميقة للصداقة. قدم مفهوماً للسلام من خلال التصالح مع المعهود ومع الحديث في آن، لغة جديدة وجريئة وقوية، أساسها قبول الآخر ومحبته ومساعدته مهما كان وكيفما كان.
حين اقترح ادوارد على رفيق المرض أن يحاولا عيش الشهور المتبقية أحلامهما التي لم يستطيعا تحقيقها في الحياة، سرعان ما تبادر إلى ذهني، فلسفة مثقفينا الحديثة، وهي أن يتحرر الإنسان، على طريقة زوربا، حبيب الملايين، ويكفر بكل شيء، يشرب كل ليلة حتى ينطفئ، ويغمى عليه على الأرصفة أو تحت الأشجار وحبذا لو كانت من كروم العنب، ويمضي ليقتحم كل امرأة يصادفها، زاعماً أنه لا يرغب أن يترك امرأة وحيدة، أن يرتكب كل الأمور المخالفة، وأن يرفض عادات الآخرين وثقافة الآخرين ومعتقداتهم، باختصار أن يركل بقدمه كل ما يصادف أمامه، بغرور غير واضح الأسباب، وبالطبع سيكون أول من يتلقى العقوبة هي الأسرة الزوجة والأولاد.. أوشكت أن أغلق الفيلم حسب تلك الرؤيا المسبقة التي رحت أحكم على الفيلم من خلالها، لكني عدلت، حين راح ادوارد يقرأ أمنيات كارتر.
الأمر ذاته تكرر، حين تعالى أذان “الله أكبر” من القاهرة، شعرت بالتأهب، ظننت أن الأميريكيَين سوف يتشنجان لصوت الأذان، أو يُباغتان، أو سيصابان بأي رد فعلي سلبي، حسب الرؤية المسبقة المكونة لدينا عن انطباعهم حول الإسلام وبلاد المسلمين، لكن كل هذا لم يحدث، استمرّا بحوارهما، واعتبرا أن أمنية أجمل منظر في العالم قد تحققت.
أما حين تمنى ادوراد قبل موته أن يقبّل أجمل فتاة في العالم، فقد توقعت أيضاً أنه سيجرّب قبلات كثيرات مع نساء عديدات قبل أن يقرّر من هي أجملهن، وبالفعل خرجت إحدى الجميلات من مقصورته في الطائرة، لكنه كان المشهد الوحيد الذي يشير إلى تعدد علاقاته، ولم يبد وكأنه انتصار تحقق، المفاجأة، أن القبلة كانت لحفيدته التي لا تتجاوز السابعة من عمرها، واعتبر أن هذه القبلة هي لأجمل فتاة في العالم.
يقدم الفيلم معان عالية للحياة والموت، كيف يكون المرء قادراً أن يمضي إلى نهايته من دون تشنج أو خوف أو حقد على المصير البائس وعلى الآخرين، أن يمضي مع الحياة إلى نهايتها وإن كانت وشيكة، وهو ما ال يضحك ملء الفم وبشجاعة واستهزاء منها، وفوق هذا فإنه يطرح تلك المعاني التي لا نقرؤها في كتاب فكر أو فلسفة، لكن نعيشها مع الحياة بامتحاناتها المتواصلة. ما يخشاه المرء أن تكون تلك الصداقة النادرة التي حدثت بين اثنين لم يربطهما ماض، تلك الصداقة التي باتت أمنية وحلماً لإنسان هذا العصر، يُخشى أن تكون مشروطة باثنين ماضيين في طريق الموت.
يستحق الفيلم أن يُشاهد، وبشغف.
sarraj15@hotmail.com
كاتبة سورية- استوكهولم
*عن موقع الأوان