خاص بـ”الشفّاف” – بيروت
في مقالي السابق، المنشور على هذه الصفحة الإلكترونية بعنوان “ربيع البطريرك – خريف الجنرال”، والذي كان مخصصاً لعقد مقارنة بين خيارين للبنان ومسيحييه متعارضَين، ألزمتُ نفسي بكتابة مقال آخر أحاول فيه الأجابة عن الإشكالية التالية: لماذا لم ينجح اللبنانيون في إدارة شؤونهم بأنفسهم بعد العام 2005، رغم الإنسحاب العسكري السوري على أثر تلك الإنتفاضة الشعبية الفريدة من نوعها في تاريخ لبنان؟ وفي مشروع الإجابة إقترحتُ آنذاك النظر في ثلاث مسؤوليات: مسؤولية الحركة الإستقلالية نفسها (قوى 14 آذار)، مسؤولية الحركة المضادة (قوى 8 آذار) ومسؤولية التعقيدات الإقليمية والدولية المستجدّة بعد الإنسحاب السوري. ولما كنتُ من الذين يقفون على أرض الحركة الإستقلالية، بمعنييها العام والخاص، أراني الآن أَميلُ، أخلاقياً لا منهجياً، إلى التركيز على مسؤولية الحركة الإستقلالية نفسها، لئلا يبدو توزيع المسؤولية ضرباً من التنصَل، وعلى ألا يكون “التركيز” المشار إليه نوعاً من جَلد الذات.
*
I.
تقديري أن إستقلال 2005 قد جاء مصدِّقاً للخيار الذي اتخذه البطريرك الماروني ما بين 1990 و 2005، ألا وهو: أولويةُ نَسج التضامن الداخلي المؤدي حتماً إلى الإستقلال، خلافاً لذاك البحث العقيم عن خلاص فئوي. وعليه يمكن إعتبار الإستقلال الثاني تتويجاً لجهود الوصل والتنسيق و “التواطؤ” الوطني التي بُذلت خلال تلك الفترة، والتي ساهمت فيها – فضلاً عن البطريرك – قوى وشخصيات لعلَّ أبرزها: الإمام محمد مهدي شمس الدين (1)، لقاء قرنة شهوان، المنبر الديموقراطي، الزعيم وليد جنبلاط، والرئيس رفيق الحريري في السنة الأخيرة من حياته خصوصاً (هذا الترتيب يأخذ في الإعتبار التسلسل الزمني لمبادرات الوصل والتضامن، ولا يرمي إلى أي نوع من المفاضلة أو ترتيب الفضل).
كذلــك جاء الإستقلال الثاني، على نحو ما جاء، ليعزّز لديَّ ولدى كثيرين من أمثالي قناعةً متحصّلةً من التجربة والنظر، مفادُها أن المعيار الأول لفكرة “المقاومة” وفعلها، في الحالة اللبنانية، ضد الإحتلال والوصاية وأي شكل آخر من أشكال التدخل الخارجي المؤذي، إنما يتمثّل (هذا المعيار) في دينامية التضامن الداخلي الذي – إذا ما تحقق بدرجة كافية وأحسن الإفادة من ظروف دولية وإقليمية مؤاتية – لا يحتاج إلى أكثر من النضال السياسي الدبلوماسي، والمدني السلمي، لبلوغ هدفه (وهذه خصوصية لبنانية أَفَضتُ في تبيانها من خلال دراسة بعنوان : “المقاومة بين لبنان الساحة ولبنان الوطن – إشكاليات المقاومة المسلحة في لبنان”، نُشرَت العام الماضي في مجلة “المسبار” الخليجية).
II.
وفي تقديري أيضاً أن عوامل ثلاثة إجتمعت وتضافرت أوائل العام 2005 لتحقق الإنسحاب العسكري السوري من لبنان، ولتشكل عناصر القوة الأساسية في الحركة الإستقلالية:
أ. التضامن المسيحي – الإسلامي.
وهو ما تمّ نَسجُه بالصبر والمكابدة والإيمان على مدى سنوات الوصاية، وساهمت فيه قوى وشخصيات متعددة، كما أشرتُ أعلاه. وقد تمثل الجانب المسيحي في هذا التضامن الطوائفي بما يمكن أن نسميه “تيار الخيار التاريخي للكنيسة المارونية” (2) الذي استطاع أن يضوي معظم الأحزاب والشخصيات العامة المسيحية على أثر نداء بكركي في أيلول 2000، لاسيما في إطار “لقاء قرنة شهوان”. أما الجانب الإسلامي فتمثّل آنذاك بالتيارين الغالبين في الجماعتين السنية والدرزية، وهما “المستقبل” و “التقدمي الإشتراكي”. نعم، غاب الإستقلاليون الشيعة عن “الصورة التمثيلية الطوائفية” ولكنهم حضروا بالتأكيد في صورة الرأي العام الإستقلالي الذي ملأ الزمان والمكان اللبنانيين في 14 آذار 2005.
هنا أفتح هلالين لأقول بأن غياب الإستقلاليين الشيعة عن تلك الصورة التمثيلية كان مردّهُ إلى عدم تشكُّلِهم آنذاك في حركة سياسية منظمة، طالما أن قوام تلك الصورة كان على وجه الإجمال قواماً حزبياً طوائفياً. ومَرَدُّ عمد التشكُّل، من بين أسباب عدة، إلى احتكار “أمل” و “حزب ألله” للشيعية السياسية بعد الطائف، بدعم سخيّ ومنهجي من قِبَل النظامين السوري والإيراني. قياساً على هذا المعطى، واستناداً إلى ظاهر ما سُمّي “الحلف الرباعي” في انتخابات 2005 التشريعية، ذهب الكثيرون إلى اتهام قوى 14 آذار بأنها “باعت” الإستقلاليين الشيعة إلى حزبي الطائفة، وبأنها قصّرَت تالياً عن مساعدتهم على أن يتشكلوا في إطار سياسي مذهبي منافسٍ لتلك الثنائية الشيعية أو بديل عنها. رأيي أن حكاية “البيع” هذه غير صحيحة بالمرة. أما حكاية “التقصير” فهي صحيحة جداً، إنما بغير المعنى الذي حُمل عليه الإتهام. فلو أن قوى 14 آذار أقدمت على إختراع تنظيم سياسي شيعي، بالمعنى المشار إليه، ثم استدعت هذا التنظيم إلى “الصورة التمثيلية”، لكانت ارتكبت خطأً قاتلاً، لأسباب كثيرة، بعضُها مبدئي وبعضُها الآخر عملي. من الناحية المبدئية، فإن قاعدة “وداوني بالتي كانت هي الداءُ” لا تصلح للتعميم في كل الميادين. وإذا كان التضامن الطوائفي قد حكم الصورة الإستقلالية عام 2005، لأسباب موضوعية، فإن انتفاضة الإستقلال قد ولدت رأياً عاماً جديداً كسر القاعدة الصارمة للإصطفاف الطائفي (إنظر الفقرة التالية:ب). بالتالي فإن قوى 14 آذار لم تعد محكومة إلى سياق أحادي وصورةٍ نمطية في تعاملها مع الذات ومع المعطى الوطني العام. أما من الناحية العملية، فإن تبنّي تشكيل شيعي، باعتباره ممثلاً للطائفية، كان سيؤدي على الأرجح إلى “تكسير بيضٍ كثير” من دون الحصول على أية “عجّة” حقيقية. من هنا أقول بأن خطأ 14 آذار الأساسي إنما كان في تقصيرها عن تطوير بنيتها من “لقاء” طوائفي إلى “جبهة وطنية عريضة” ذات علاقة سليمة بالرأي العام الإستقلالي، على قاعدةٍ تيارية منظمة، بما يُتيح لأي فردٍ أو مجموعة مدنية الإنتساب عملياً وعضوياً إلى الحركة الإستقلالية، من دون مرورٍ إجباريّ (رمزي أو فعليّ) بأحد أحزابها الطائفية. والحال كذلك، أي مع استمرار هذا التقصير الفادح، فقد بات على كل شيعي – كما على أي فردٍ مستقل من أية طائفة أخرى – أن يتلوَّن باللون الحزبي السنّي أو الدرزي أو المسيحي، كي يُحتسب في نادي الإستقلاليين! وهذا، لعمري، من الإكراهات السخيفة الممجوجة!
ب. ولادة رأي عام جديد وهوية وطنية جامعة
تجسَّد هذا الرأي العام في أكثر من مليون لبناني (ثلث البنانيين المقيمين عدداً وما يعادل ثلاثة أرباعهم تمثيلاً) احتشدوا في ساحة الشهداء وعلى ضفافها يوم الرابع عشر من آذار 2005. هو رأيٌ عامٌ فعليّ لأنه، فضلاً عن كثرته الكائرة، اشتمل على مختلف شرائح الشعب اللبناني وفئاته، ولأن معظمه إنما أتى إلى المكان بقرار فرديّ وقناعة ذاتية، لا بناءً على استدعاء حزبي أو نداءٍ زعامتيّ. والجِدَّة هي أن هذا الأمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ الإجتماع اللبناني المركَّب. أما الهوية الوطنية الجامعة فتمثلت في كون المحتشدين قد عبّروا بوضوح عن اندماجٍ غير مسبوق عابرٍ للطوائف والمنطق والأحزاب، ومُصمّمٍ على رفع الوطنية اللبنانية فوق دوائر الإنتماء الأخرى. هذان المولودان، الرأي العام المختلط والهوية الوطنية الجامعة، شكَلا معطىً جديداً كل الجدَّة على الحياة الوطنية اللبنانية، وكان ينبغي أن يشكلا معطىً أكثر فاعلية في الحياة السياسية لولا تقصير أحزاب الحركة الإستقلالية الذي أشرنا إليه في الفقرة(أ) والذي سنعود إليه لاحقاً. وقد لا يجوز أن نغادر هذه الفقرة من دون الإشارة إلى الدور الإستثنائي، وربما العجائبي، الذي لعبه استشهاد الرئيس رفيق الحريري في إلهاب المشاعر التي أفضت إلى ارتسام المشهد الذي نتحدث عنه (3).
ج. توفُّر الظروف الإقليمية والدولية المؤاتية
تجسّد هذا العامل الثالث في قرار مجلس الأمن رقم 1559، بتاريخ 2 أيلول 2004، بعد أحداث 11 أيلول 2001 ثم إحتلال العراق 2003. المغزى الرئيسي لهذا القرار هو أن الإدارة الأميركية التي كانت، بالتفاهم مع إسرائيل، قد أجازت للنظام السوري أن يعبث بالشؤون اللبنانية مدة ثلاثة عقود، قرّرت أخيراً، وبشكل حاسم، خروج القوات السورية من لبنان، بناءً على اعتبارات إستراتيجية تعود إلى الولايات المتحدة في المقام الأول. ما حدث موضوعياً هو أن إرادة المجتمع الدولي وافقت في ذلك الوقت مطلباً لبنانياً مزمناً (الإستقلال) وسابقاً على نُضج تلك الإرادة بعقود. فأَن تفيد الحركة الإستقلالية اللبنانية من هذا العامل المساعد ليس بالأمر المكروه، لا بل كان سيكون مأخذاً عليها لو أنها تخلّفت عن استثمار هذه المعطى الموضوعي.
III.
تلك العوامل الثلاثة شكّلت عناصر القوة الأساسية للحركة الإستقلالية، أو رافعاتها الثلاث. إن نقدنا لأداء قوى 14 آذار إنما يستند بالدرجة الأولى إلى واقعة تفريطها بعناصر قوتها. قبل ذلك لعله من المفيد قولُ بضع كلمات توضيحية في كلٍ من تلك الرافعات:
• في التضامن المسيحي – الإسلامي :إذا كان هذا التضامن شرطاً لازماً لتحقيق الإستقلال في الحالة اللبنانية – وهو كذلك، لئلا يبقى الإستقلال مطلباً فئوياً فيستعصي بالتالي على التحقُّق – فإنه (أي التضامن) لا يستوجب وجود أكثريتين، إسلامية ومسيحية، تحت لوائه. فاستقلال 1943 نهض على تفاهم أقليتين؛ إذ كانت الأكثريتان الطائفيتان آنذاك ضد الإستقلال: الإسلامية مع الإنضمام إلى سوريا، والمسيحية مع استمرار الإنتداب الفرنسي. في استقلال 2005 حدث العكس، إسلامياً ومسيحياً، وهذا خيرٌ على خير. الغايةُ من هذا التوضيح هي القول بأن “نقص” الأكثرية الإستقلالية في هذا الجانب أو ذاك لا يعني أن الشرط اللازم لم يعد متوفراً، فكيف إذا حافظت الأكثرية على أكثريتها، ولو بواقع “أكثرية قليلة”، بحسب التعبير الذي استخدمته المعارضة في أعقاب الإنتخابات النيابية الأخيرة لتنعت نفسها بـ “أقلية كثيرة”.
• في الرأي العام الإستقلالي: إنَّ قولنا بتكوُّن رأي عام إستقلالي تجاوز الأطر الحزبية والنطاقات الطائفية، لا يعني أن هذا الرأي العام المستقل لم يعد يتأثّر باختيارات الأحزاب السياسية وبالخصوصيات الطائفية. فالحال أن التداخُل قائم، لاسيما على المستوى الشعوري. نعم، يظهر التمايز بوضوح، وقد يكون حاداً في بعض الأحيان، بمقدار ما تبالغ الأحزاب في إعطاء الأولوية لمصلحتها الحزبية أو الطائفية على حساب المشترك. هنا يعبّر الرأي العام المستقل عن إنحيازه الصريح إلى أولوية المشترك. وقد يشمل هذا التعبير بعض الحزبيين أو الطائفيين (4) حين تشذّ مواقف قياداتهم أو رموزهم الطائفية عن التضامن. هذا الأمر إنما يدلّ على قوة “معيار التضامن” لدى الرأي العام الإستقلالي، بشقِّيه المستقلّ والحزبي، كما يدل خصوصاً على تنامي السِّمة “المدنية” لدى هذا الرأي العام – وهي نقيض “القطيعية”. من الوقائع الساطعة الدلالة على هذه المعيارية الجديدة يمكن الإشارة إلى إثنتين:
بعد العام 2005 أصبح قائد القوات اللبنانية سمير جعجع شخصيةً محبوبة وذات جاذبية في عين الجمهور الإسلامي السنّي، رغم كونه في الأصل رمزيّةً مسيحية متطرفة في المِخيال (Imaginaire) الإسلامي الشعبي، إستناداً إلى ذاكرة الحرب. كذلك أصبح رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط شخصيةً محبوبة وذات جاذبية في عين الجمهور المسيحي، رغم كونه في الأصل رمزيةً إسلامية متطرفة في المخيال المسيحي الشعبي، إستناداً إلى ذاكرة الحرب في هذه الجهة (5).
الواقعة الثانية حدثت بمناسبة الإنتخابات النيابية الأخيرة، على أثر الإضطراب الذي أصاب قوى 14 آذار نتيجة تضارب الحسابات الحزبية والشخصية ترشيحاً ولوائح (تقديم الخاص على المشترك). رغم استيائه الشديد من هذا السلوك الذي هدَّد فعلاً بتحوُّل الأكثرية الإستقلالية إلى أقلية في البرلمان الجديد، فإن الرأي العام الإستقلالي لم ينكفئ، بل أقبل على الإقتراع بكثافة غير معهودة، ولصالح المشترك دونما تمييز، فحقق نتائج “إنقاذية” بكل معنى الكلمة.
• في الشراكة مع المجتمع الدولي: ينفي البعض إمكانية قيام شراكة فعلية بين الحركة الإستقلالية اللبنانية والمجتمع الدولي، أو حتى بين لبنان موحداً وهذا المجتمع، نظراً لصغر حجمنا المتناهي بكل المقاييس، ونظراً “لتاريخنا العريق” في الإنفعال بدلاً من الفعل. بالتالي فإن هذا البعض – وهو موجود في أوساط الأكثرية والمعارضة بنسبة أو بأخرى – يميل صراحةً أو ضمناً إلى تصديق الزعم القائل بأن إستقلال 2005 بضاعةٌ صُنِعَت خارج لبنان. هذا زعمٌ باطل! إذ لولا المبادرة اللبنانية (إنتفاضة الإستقلال ذات الجذور النضالية الممتدة على 15 سنة) لكان أُسقِطَ في يد العامل الدولي، لأنه ما كان ليستطيع إنفاذ القرار 1559 إلا بالأسلوب الدموي العراقي عام 2003. ولما كان هذا الأسلوب غير ممكن التطبيق آنذاك في لبنان، لأكثر من سبب، فإن غياب المبادرة اللبنانية كان سيؤدي على الأرجح إلى “دفن الشهيد” وتقبُّل التعازي.. برعاية الوصاية المستمرة (6).
من هنا لا مبالغة في القول بأن الحركة الإستقلالية اللبنانية، وبفضل “شعب الإستقلال”، قد فرضت نفسها على المجتمع الدولي شريكاً مرموقاً، لأنها أخذت زمام المبادرة وأسقطت، للمرة الأولى في تاريخ المنطقة، نظاماً إستبدادياً بقوة الإنتفاضة الشعبية السلمية. إلى ذلك فإن الشريك اللبناني امتلك في حينه اللغة والشعارات السياسية المناسبة، بحيث لم يكن في وسع المجتمع الدولي إلا الإصغاء إليها والتضامن معها.
IV.
أصل هنا إلى الإشكالية التي طرحتُها في مستهلّ المقال، لأحاول الإجابة عن السؤال التالي: أين وكيف قصّرت قوى 14 آذار خلال السنوات الخمس الماضية، بما ساهم في عدم تمكُّن اللبنانيين من إدارة شأنهم الداخلي بنجاح، وبما أدى إلى استقلال ناقص، مفتوحٍ على مزيد من التناقُص، وإلى دولةٍ معلّقة، منذورةٍ لمزيد من التعليق؟
الواقع أن قوى 14 آذار قصَّرت في إستخدام وتطوير عناصر قوتها الثلاث (التضامن الإسلامي المسيحي، والرأي العام الاستقلالي، والموقف الدولي والعربي المساند)، وفرَّطت بها أحياناً، فسعت بقدميها إلى مأزقها الذي تجلّى، أكثر ما تجلّى، في الفترة الواقعة ما بين “غزوة بيروت” 7 أيار 2008 والإنتخابات النيابية الأخيرة 7 حزيران 2009، وهذا ما دفع أمانتها العامة إلى وضع تقرير نقدي شديد اللهجة حول واقع الحال بتاريخ 28-10-2008 حذّرت فيه من مغبّة التمادي في التقصير، مشيرةً إلى مكامن الخلل على النحو التالي:
• «بروز حسابات فئوية، طائفية ومذهبية وحزبية، داخل صفوف 14 آذار، هزّت في بعض الأوقات صورة ذلك التضامن الوطني وسمحت بالتساؤل حول قدرته على الصمود طويلاً أمام الهجمة المضادة.
• «ضعف التواصل مع الرأي العام الاستقلالي، بإستثناء المسالك الحزبية التقليدية التي يعمل كلٌ منها في مجاله الخاص، الأمر الذي بلبل هذا الرأي العام في عدد من المفاصل الرئيسية، وحرم لقاء 14 آذار من استخدام الضغط الشعبي في مواجهات أساسية.
• « ضعف التواصل مع الإطارين العربي والدولي، وإنخفاض سقف الأطروحة الاستقلالية، الأمر الذي اغرقنا في محليّة لبنانية بعد أن كنا في صدارة اهتمام العرب والعالم، كما ساهم في تصيير الداخل اللبناني طرفاً ثانوياً في عمليات البحث عن حلول ومخارج للأزمة اللبنانية المتفاقمة.»
وفي توصيفه للذهنية التي قادت نهج التقصير بعد خروج القوات السورية، لاحظ التقرير أننا « دخلنا أولاً في بعض الاسترخاء والتجريب (…) ثم في سياق طويل من ردود الفعل بدل المبادرة. وفيما كنا نكتشف تدريجيّاً حجم الخطر، وبدل ان نفعِّل مصادر قوتنا الثلاثة في منحى هجومي، إذا بنا نكتفي بتنظيم تراجعنا، ونركن أحياناً إلى حتمية دولية بذهنية قَدَريَّةّ!»
لم يقتصر التقرير المشار إليه على تعيين مكامن الخلل، بل إقترح خطة للإستدراك تضمنت العناوين الأساسية التالية: إعداد برنامج إنتخابي موحّد يقوم على رؤية سياسية واضحة (وهو ما قدّمته الأمانة العامة في مؤتمر البيال 14 آذار 2009، بعد تعديل جوهري(7)؛ الترشح باسم لقاء 14 آذار في مختلف الدوائر لا باسم هذا الحزب او ذاك؛ إحترام وجود المستقلين، أي غير الحزبيين، على لوائح 14 آذار؛ تشكيل كتلة نيابية واحدة بعد الإنتخابات وبإدارة سياسية موحّدة؛ إنشاء “مجلس وطني” للتيار الإستقلالي يضم، إلى الأحزاب السياسية، هيئات المجتمع المدني وممثلين عن الإغتراب اللبناني وكفاءات من مختلف القطاعات والحقول.
V.
بعد الإنتخابات : مزيد من الشيء نفسه!
مع إقتراب موعد الانتخابات كان يتَّضح شيئاً فشيئاً أن الخطة المقترحة مُفرطةٌ في تفاؤلها، بالنظر الى تدنّي الاستعدادات الفعلية لمن تتوجه إليهم. فهي تقترح نمطاً من “السلوك الجبهوي” على “لقاء” يفتّش بعضُ أحزابه وشخصيّاته عن طريقٍ لمغادرته، بينما ينشغل كل طرف بحساباته الدفترية الخاصة. هذا إلى تقاعس عن إجراء التسويات المطلوبة في مثل هذه الحال، ترشيحاً وتشكيل لوائح، الامر الذي حمل بعض الشخصيات الاستقلالية المرموقة على عدم الترشُّح ترفُّعاً- وقيل: بل قرفاً- كما انسحبت شخصيات أخرى اعتراضاً، “وأُقصِيَ” آخرون ظلماً (8).
والحال كذلك، كان متوقَّعاً فشلُ قوى 14 آذار في الإنتخابات، بحسب معظم التقديرات، لاسيما في الجانب السوري – الإيراني المفاجىء كان فوز 14 آذار بالأكثرية النيابية التي عكست أكثرية شعبية (هل ثمة وسيلةٌ أكثر أمانةً لاحتساب الأكثرية. على الصعيدين؟!). تلك المفاجأة أصابت الجميع دون استثناء، في الداخل والخارج، بما في ذلك أحزاب الأكثرية نفسها التي اعترف بعض اركانها بأنه ما كان لذاك الفوز أن يكون لولا الموقف التاريخي الشجاع الذي اتخذه الرأي العام الاستقلالي، فحدّد عبر صناديق الاقتراع الهوية السياسية للأكثرية، مانعاً المعارضة المسلحة من أن تضيف الى سلاحها غير الشرعي قوةَ الشرعية الدستورية(9) وقد فعل ذلك رغم إحساسه العميق بالمرارة وخيبة الأمل من قيادته السياسية.
ولكن المفاجأة السعيدة، في نظر 14 آذار، تحوّلت بعد الانتخابات الى مفارقة مذهلة في نظر الرأي العام الاستقلالي؛ وذلك من وجهين: الوجه الاول أن هذا الرأي العام – الذي خاض انتخابات 7 حزيران 2009 تحت شعار ” الردّ على 7 أيار 2008 وإلغاء مفاعيل اتفاق الدوحة المناقضة للدستور واتفاق الطائف” – أذهله ما فعلت الأكثرية بصوته! أذ كرّست في تشكيلة الحكومة الجديدة (15+10+5) وفي بيانها الوزاري (البند السادس) مفاعيل اتفاق الدوحة لجهة فيتو السلاح على الدولة! الوجه الثاني أن وليد جنبلاط، الذي كان قد غادر أرض 14 آّذار قبيل الانتخابات، أمعن في التنصُّل من الشعارات الاستقلالية بعد الأنتخابات، مستعيداً لغة ً “مهجورة” في تقديم أوراق اعتماده لدى حزب الله والسوريين. ويندرج في هذا الوجه الثاني من المفارقة “ارتباك” حزب الكتائب.
هنا لا بد من كلمة في موقف كلٍ من جنبلاط والكتائب، لما للموقفين من دور في توهين التضامن الإسلامي المسيحي.
• في موقف وليد جنبلاط:
لا داعي لمناقشة وليد جنبلاط في تلك الشحطات القومجية والثورجية واليسراوية التي شطحها بعد ايار 2008، لأنها – كما نعلم ويعلم هو جيّداً – عِملةٌ مسحوبةٌ من التداول العقلاني منذ زمن بعيد. كذلك لا يناقَش في حرصه على خصوصيته وخصوصية جماعته الطائفية في المعادلة اللبنانية القلقة. نعم، يناقَش وليد جنبلاط في سوء تقديره لاتجاه الرياح في المنطقة(10) وفي سوء ظنه بحلفائه، وفي تلك الخَصلة التي تُغريه بالمبيت في دار عدوّه كلما خاف على رأسه. وقد يناقَش في سوء تقديره لمصلحة جماعته، على ما يرى البعض، او في اعتراضه على “وعي شقيّ” أضعف لدى هذه الجماعة فضيلةَ الولاء الأعمى. على اية حال، فإن “أقوى” ما يتذرّع به جنبلاط (أي نظرية “الخوف ألأيّاري”) هو من أشدّ الذرائع تهافتاً في معيار القيادة. إذا كان وليد جنبلاط يُسأل عما فعل بأصدقائه – وهو كذلك – فإنه يُسأل وبقوة أكثر عما فعل بنفسه! فهو، بقلقه الدائم وبراغماتيته المتوحشة أحياناً، يبدو نسيجَ وحده – حقاً – ولكنه يبدو أيضاً سجين زنزانةٍ صنعها بيديه! نسأل ألله حُسنَ العاقبة.
• في موقف حزب الكتائب:
أما حزب الكتائب، بعد أن حرَّر ذاته من القبضة السورية بفضل إنتفاضة الإستقلال، فيبدو وكأنه لا يدري ماذا يفعل بذاته المحررة المستعادة! فهو لا يعرف كيف يتعامل مع الزمن الجديد إلا بمقدار ما يُسقط عليه ماضيه البعيد. لنقُل، بعبارة أخرى، إنه لم يتعلّم بعد كيف يُعيد تأسيس مشروعيته على الراهن والمستقبل، كما تقضي سُنَنُ البقاء والتطور. لذلك نراه أسير ثلاث خصوصيات: عائلية وحزبية وطائفية – بهذا الترتيب – فيأتي المعطى الجديد ( أي التضامن المسيحي – الإسلامي) في درجة رابعة من سلَّم أولوياته. وهذا مما يفسِّر”تنتيعاته” الأخيرة داخل 14 آذار، بالإضافة إلى حسابات “دكِّنجية” لا ينفرد بها، بل هي شائعة في سائر الأحزاب بدرجة أو بأخرى. يمكن القول أن تلك المسائل هي الآن موضوع نقاش جدّي داخل الحزب، ولو بأسلوب موارب، بين “حرس جديد” قرَّر أن الشراكة مع المسلمين لم تعد ممكنة، فراحَ يوغِلُ في خصوصيته المسيحية تحت مسمَّى “لبناننا”، وبين “حرس قديم” يدرك أن شيئاً ما قد تغيّر في الواقع اللبناني مع ثورة الأرز، ولكنه (أي هذا الحرس القديم) شديد العاطفة على الأبناء، فتراه يذوب رقّةَ وحناناً و.. تلفيقاً! المفارقة أن القديم يبدو أكثر “تقدميةً” من الجديد! على أي حال، نرجو لهذا النقاش أن يأخذ مجراه الطبيعي بأقلّ قدر من المجازفة، الأمر الذي يتطلب من القوى الصديقة “رفقاً” بالصديق. وإلى أن يُحسم الجدل في اتجاهٍ يُرضي الربّ، إرحمنا يا ربّ.. وبارك يا سيّد!
VI.
إذا نظرنا إلى صورة الحركة الإستقلالية الآن، من خلال “لقاء” 14 آذار بصفته الحزبية، وفي ضوء ما تقدم من تقصير وتفريط على غير صعيد، ستبدو لنل صورةً مشوَّشة مرتبكة. وقد جاء التقارب السوري – السعودي، بما ترتَّب عليه من مفاعيل لبنانية (إنتخابات نيابية، حكومة إئتلافية، إيحاءات تصالحية بين أعداء الأمس، ومشاريع إصطفافات جديدة تكفّلت البروباغندا السورية بترويج سيناريوهات لها إفتراضية…) – جاء ذلك ليزيد الصورة إلتباساً، وليتيح للنظام السوري القول بأن “حكاية 14 آذار قد انتهت فصولاً.. وما عليكم سوى التكيُّف مع التفويض الجديد الذي حصلت عليه القيادة السورية من النظام العربي في إطار المصالحات الأخوية”. أما “التكيُّف” المطلوب، وفقاً لتصريحات أعيان 8 آذار وما نُقِلَ من “نصائح” عن الرئيس السوري نفسه، فهو أن يبتعد سعد الحريري عن حلفائه المسيحيين الذين ما زالوا يكرزون بالسيادة ويعترضون على سلاح حزب الله خارج الدولة (11).
والحال أن صورة الحركة الإستقلالية، منظوراً إليها من خلال عناصر قوتها الأساسية التي أتينا على ذكرها في القسم الثاني من هذا المقال، إنما هي صورةٌ مختلفة جداً، لا بل يمكن القول – رغم أنف بعض أصدقائي المتشائمين – أنها في صحة مقبولة، وإن لم تكن على ما يرام:
• فالتضامن الإسلامي المسيحي، رغم انسحاب وليد جنبلاط منه، ما زال متوفراً بدرجة يُعتدُّ بها، بفضل استمرار التفاهم العميق بين تيارين اساسيين: تيار الخيار التاريخي للكنيسة المارونية وتيار “المستقبل” (12)
• والرأي العام الاستقلالي، رغم تقصير قيادة 14 آذار حياله كما رأينا، ما زال على ثباته وحيويته اللذين عبّر عنهما في الانتخابات النيابية الاخيرة، كما في الانتخابات النقابية والجامعية، فضلاً عن الإحتشاد المليوني كل سنة في ذكرى 14 شباط (13)
• والدعم الدولي والعربي لاستقلال لبنان، رغم تزايد التعقيدات من حولنا، ما زال قائماً بالدرحة الكافية. بيد ان مثل هذا الدعم، وفقاً لطبائع الأمور، يتطلب جاهزيةً لدينا كي نتلقّفه، على قاعدة : إنما يساعد اللهُ قوماً يساعدون انفسهم.
بالنظر الى هذا التفاوت الكبير بين الصورتين، يبدو “لقاء” 14 آذار في هذه المرحلة محدود القدرة على المبادرة في اتجاه تطوير اوضاع الحركة الاستقلالية، بما يتيح لها النهوض بأعباء شعاريها الصعبين (“لبنان أولاً” و”العبور الى الدولة”)، خصوصاً مع القيود الإضافية التي يفرضها واقع الإئتلاف الحكومي عند التقاطع السوري – السعودي(14).
جُلّ ما يستطيع “لقاء 14 آذار” أن يفعله في هذه المرحلة هو أن يوثق التضامن المسيحي-الاسلامي داخل صفوفه، وأن يحرص على “الأمانة العامة لقوى 14 آذار” التي تنهض بدور لا غنى عنه في هذا المجال؛ وهو أمرٌ – على محدوديته – في غاية الأهمية والضرورة.
ولكن هذا الأمر، على أهميته وضرورته، غير كافٍ للاستدراك المطلوب، والذي قد يعادل “انتفاضةً في الإنتفاضة”، بالمعنى التطوري المشار اليه لا بالمعنى الانقلابي. لذلك يرى نَفَرٌ من القياديين المتبصّرين في الحركة الاستقلالية أن المبادرة الى هذا الشيء المطلوب يمكن ويجب أن تطلع من مساحة الرأي العام الاستقلالي في المجتمع المدني. هذه المساحة هي، بطبيعتها، على تماسٍ وثيق مع قوى 14 آذار، ولكنها محرّرةٌ الى حدّ بعيد من الإكراهات الذاتية والموضوعية المفروضة على “لقاء الأحزاب والزعامات”، فضلاً عما تنطوي عليه في استعدادات عالية أثبتت وجودها في مجالات ومناسبات مختلفة.
ينبغي لمثل هذه “المبادرة” أن تلبّي الحاجة الماسة الى ثلاث في هذه المرحلة:
• رؤية فكرية – ثقافية – سياسية الى حاضر لبنان ومستقبله، مؤسسةٍ على معناه والدور، بمضامين تشاركية مع العالم العربي والمجتمع الدولي على طريق مشروع السلام الدائم، ويمكن ترجمتُها في برنامج سياسي – وطني وخطط مرحلية (15)
• دينامية عمل وتنسيق وتكامل، قادرة على التواصل مع مختلف الحيويات المجتمعية اللبنانية، داخل البلاد وفي بلدان الإغتراب، وبما يتيح لتلك الدينامية تخطي الترسيمات الطائفية و”المعازل” القائمة.
• شخصية معنوية مستقلة نسبياً. فلا هي “رقمٌ” يضاف الى الأرقام السياسية الموجودة، ولا هي بديلٌ عنها.
إن مبادرةً من هذا النوع ستشكل رافعةً للقوى الاستقلالية نفسها، لانها ستحفزها على تطوير اوضاعها الذاتية. بما يواكب حركة التاريخ اللبناني الذي شرعت انتفاضة الاستقلال في اشتقاق مساره الجديد… أو تتخلّف عن المواكبة فتتردّى في ما لا يتمنّاه لها أيُّ صديق محبّ.
وإن مبادرةً من هذا النوع سيكون من شأنها أن تعيد الحركة الاستقلالية اللبنانية الى موقع الشراكة الفعلية مع العالم العربي والمجتمع الدولي.
ولكن مبادرةً من هذا النوع – وهذا هو بيت القصيد – ستساعد الرأي العام اللبناني الجديد على أن يشكل قاطرة العبور الى “دولة الاستقلال”، بعد أن شكلت قوى 14 آذار 2005 قاطرة العبور الى “استقلال دولةٍ” لم يُنجز بعد.
* كاتب وناشط لبناني- بيروت
الهوامش:
(1)إبتداءً من العام 1991 دخل الإمام شمس الدين بقوة في دعم اتفاق الطائف وقيام الدولة على أساسه، بوصفه إتفاقاً نموذجياً من شأنه أن يوفّر للبنان التوازن والعدالة والإستقرار”. هذا بعد فترة من التردُّد، نظر فيها شمس الدين ومعظم القيادات الشيعية إلى هذا الإتفاق على أنه “إتفاق الضرورة لا الإختيار”. وابتداءً من صيف 1993 دخل في تفاهم عميق مع البطريرك الماروني أدى إلى إنشاء هيئة وطنية دائمة للحوار (= التنسيق) الإسلامي – المسيحي، أصدرت وثيقتها الأولى 1995 متضمّنةً فقرة صريحة تدين الغُبن الذي لحق بالمسيحيين اللبنانيين جرّاء التطبيق غير السليم لإتفاق الطائف في ظل الوصاية السورية. على أثر وفاة الإمام في 10/1/2001، صرّح البطريرك بأنه فقد محاوره وشريكه الأول بين المسلمين في إختياراته وهمومه الوطنية، في هذا الشأن تراجع وصايا الإمام شمس الدين وكلمة البطريرك في تأبين الإمام).
(2)المقصود بطبيعة الحال هو الخيار الوطني اللبناني لا التقليد الكنسي. وللوقوف على الخطوط الأساسية لهذا الخيار التاريخي، تُراجع بخصوص المجمع البطريركي الماروني الصادرة عن كرسي بكركي في أيار 2006، لاسيما فصل “الكنيسة والسياسة”.
(3) لستُ من أنصار التفسير العجائبي “للأحداث، ولكني أردت الإشارة إلى مدى تأثير ذلك الإستشهاد، بملابساته وبما حمله من دلالات ساطعة إلتقطها الرأي العام بصورة مباشرة وغريزية، حيث فاق التأثير كل التوقعات في حينه، أما التفسير “العقلاني” فيتصل بذاك المخزون الشعوري الهائل من “القهر” الذي انطوت عليه نفوس اللبنانيين جراء ثلاثة عقود من الحروب والوصايات والإحتلالات. لقد تعلّموا من “كيسهم”، ومن لحمهم الحيّ.. وها قد حان وقتُ الإستنتاج وأَزِفَت ساعةُ الحقيقة!
(4) لا اقصد بالطائفيين ههنا أولئك المتعصبين المتطرفين، الذين يقدّمون خاصّهم الطائفي أو المذهبي على العام في مطلق الأحوال، بل أقصد أولئك الذين – بالرغم من إحساسهم العميق بانتمائهم الطائفي – يدركون أهمية المشترك ومركزيته في الحياة الوطنية، لاسيما حين تعبّر الدولة عن هذا المشترك.
(5) بينما حافظ جعجع على صورته الجديدة في عين الجمهور الإسلامي السنّي، نتيجة “ثباته” – على حد قولهم – لا يسعنا إلا أن نلاحظ إهتزاز صورة جنبلاط بشكل فادح في عين الجمهور المسيحي جرّاء مواقفه الأخيرة بعد آب 2008. ليس هذا فحسب، بل إن جنبلاط ألمح مؤخّراً إلى أن لديه “مشكلة” مستجدّة مع جمهوره الدرزي وشبيبة الحزب التقدمي بسبب تحوُّله المفاجئ عن المشترك الإستقلالي.
(6) ليس في هذا الكلام مبالغة أو صورة بلاغية. فحكومة عمر كرامي التي واكبت صدور القرار 1559 كان شعارها المعلن مواجهة هذا القرار وإسقاطه. وبعد ساعات قليلة على استشهاد رفيق الحريري، دعا رئيس الجمهورية إميل لحود صراحةً إلى تجاوز هذه “الحادثة الرذيلة”، كما دُعيَ المجلس النيابي إلى إستئناف مناقشة قانون الإنتخابات، كأنَّ شيئاً لم يكن.. ويا دار ما دخلك شرّ!
(7) التعديل الجوهري الذي طرأ على وثيقة البرنامج هو شطب فكرة “تحييد لبنان عن الصراعات المسلحة في المنطقة”؛ وذلك نزولاً عند رغبة النائب وليد جنبلاط الذي هدّد بالإمتناع عن المشاركة في المؤتمر إذا لم تشطب تلك العبارة من الوثيقة.) ؛
(8) (يرى بعض المراقبين أن عملية الإقصاء هذه وما يعادلها – وقد طاولت بشكل رئيسي المتشددين حيال السياسة السورية ضمن فريق 14 آذار- إنما كانت من مقتضيات التفاهم السوري – السعودي الذي جرت الإنتخابات على ايقاعه.).
(9) على نحو ما حصل في اراضي السلطة الفلسطينية في انتخابات 2006 التشريعية، والذي أدى الى انقلاب “حماس” الدموي في غزة عام 2007. ومعلومٌ أن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد كان قد وعدناقبيل الانتخابات اللبنانية، بتكرار تجربة الانتخابات الفلسطينية، بما من شأنه أن “يغير وجه المنطقة” على حدّ تعبيره.
(10) هذه المرة بدا جنبلاط أُمياً في قراءة طالع الأبراج. ويقول بعض الخبثاء أن “أنتيناّته” أخذت توصل إليه رسائل مشوّشة وصوراً مقلوبة، من قبيل أن الرئيس السوري يمتنع منذ شهور عن إعطاء الرئيس الأميركي موعداً للتباحث في هندسة العالم الجديد.
(11) لعل أوضح تلك النصائح والتهديدات بهذا المعنى ما أرسله الأمين العام لحزب ألله، حسن نصرالله، في خطبة عاشوراء الأخيرة.
(12) لمسنا في الآونة الأخيرة وعياً شديداً لدى هذين التيارين بالأهمية القصوى لاستمرار التفاهم فيما بينهما. هذا مع التنبُّه الشديد الى وجوب استبعاد فكرة ” الثنائيات الطائفية” التي ألغى اتفاق الطائف أساسها الموضوعي.
(13) لذكرى 14 شباط هذه السنة قيمة إستثنائية في مجال التعبير عن استمرار التضامن المسيحي-الإسلامي، مجسّداً في الرأي العام الاستقلالي المختلط. لذلك حَذًارِ من “خطيئة” التهاون أو التردّد في الدعوة الى هذا التعبير الذي يلخّصه “قسم جبران التويني” في ساحة الشهداء.
(14) يتصرّف الكثيرون في لبنان وكأن التفاهم السوري – السعودي (بخصوص استعادة سوريا الى الصف العربي وسلخها عن المشروع الإيراني) ناجزٌ وغير قابل للارتداد irréversible. ثمة معطيات كثيرة تؤكد أن هذا التفاهم ما زال قيد “الاختبار”، مثلما تؤكد قابليته الشديدة للارتداد، نظراً للمراوغة المتأصلة في ذهنية الأسرة الحاكمة في سوريا منذ اربعة عقود. الى ذلك فإن غالبية القوى المؤثرة (الولايات المتحدة، بعض اوروبا، مصر…) تُبدي حذراً من الجانب السوري، وقد يتحفّظ بعضُها عن الأسلوب السعودي في ادارة هذا التفاهم. أياً ما سيكون مآل “الإختبار السوري”، فإن واجب الحركة الاستقلالية اللبنانية أن تبقى على حذرها الشديد من خطر عودة النفوذ السوري الى لبنان من بوابة “المساعي الحميدة.
(15) لذلك ينبغي لهذه الرؤية ان تشتمل على تصوّر لدور المجتمع اللبناني – استناداً الى تكوينه التعدّدي وثقافته الخلاسية المولَّدة métissée على تصوّر لطبيعة الدولة ودورها في هكذا مجتمع.