بالترتيب مع السفارة اليابانية لدى مملكة البحرين، وبدعوة كريمة من الأخت الفاضلة الدكتورة رفيعة بنت عبيد غباش رئيسة جامعة الخليج العربي، حل بالبحرين مؤخرا واحد من ابرز الأكاديميين اليابانيين، بل أحد ألمع اقتصاديي اليابان وأكثرهم شهرة وصيتا، ألا وهو البروفسور ” شيمادا هارو” رئيس جامعة تشيبا الخاصة والذي قضى نحو أربعة عقود يدرس العلوم الاقتصادية في جامعة كيوتو اليابانية العريقة، من بعد تخرجه من الجامعة نفسها وحصوله على الدكتوراه من جامعة ويسكونسن – ميديسون الأمريكية في العلاقات الصناعية وتقلده أيضا وظيفة أستاذ زائر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
محاضرة مختلفة
صحيح أن الكثيرين كتبوا عن اليابان في حقبة ما بعد الحرب الكونية الثانية، بل ونشروا المجلدات والدراسات التي تتحدث بإسهاب عن النموذج الياباني في كيفية الانعتاق سريعا من آثار الدمار والخراب والكوارث وتلمس طريق الإنماء والازدهار والرخاء بتصميم وإرادة حديدية، غير أن محاضرة البروفسور شيمادا جاءت مختلفة أولا بسبب معاصرته لأحلك الظروف التي مرت بها بلاده – مولود في طوكيو في عام 1940 – وثانيا بسبب قربه من مصادر القرار الرسمي ومصادر القرار في المؤسسات الصناعية والاقتصادية الكبرى، وثالثا بسبب علمه الغزير وإطلاعه الواسع والشامل لجملة من التخصصات مثل السياسات الاقتصادية واستراتيجيات العمالة وتأهيلها وإدارة المنشآت الصناعية والعلاقات الدولية. هذه العوامل وربما غيرها جعلت المحاضر يدير دفة محاضرته بسلاسة وينتقل من شق مهم إلى شق آخر أهم، وهو أيضا ما ساهم في اندماج الحضور معه وانجذابهم إليه، بدليل مداخلاتهم وتحاورهم معه حينما جاءت فترة النقاش.
بدأ المحاضر حديثه بالإشارة إلى البحرين، واصفا إياها بجوهرة الخليج قبل أن يضيف قائلا: “انتم ونحن نعيش في عالم متغير يعتمد في الكثير من أوجه نشاطه على الطاقة التي عمادها النفط …. لكن إلى متى يمكن أن يستمر ذلك؟”.
تجربة ملهمة
كانت هذه العبارات بمثابة البوابة التي عبر من خلالها المحاضر ليؤكد أن تجربة اليابان – التي تعتمد في 80 بالمائة من احتياجاتها النفطية على الخارج وتحديدا دول الخليج العربي والشرق الأوسط – ربما تكون مهمة وملهمة لبلد مثل البحرين فقيرة في ثرواتها من النفط والغاز عند مقارنتها بجاراتها الخليجيات، لكن في الوقت نفسه بها ثروة بشرية متعلمة ومدربة.
مليونا قتيل
لكن كيف غيرت اليابان وجهها البائس الكئيب في حقبة ما بعد الحرب التي قتل خلالها مليونا مواطن وحقبة ما بعد إلقاء أول قنبلتين نوويتين عليها والتي أدت إلى هلاك أكثر من 300 ألف ياباني؟… كيف استطاعت هذه البلاد أن تنهض من كبوتها وتقود التغيير والنمو وتنجح فيهما وهي المعروفة بفقرها الشديد في المواد الخام وحاجتها الملحة للطاقة (عصب التصنيع)؟
إصلاحات ميجي
إذا ما شئنا الإجابة المبسطة على السؤال السابق فإنها ستكون حتما “التركيز على إعداد وتنمية وتأهيل الثروات والموارد البشرية “. غير أن الإجابة الاشمل يتطلب القول: أن اليابان كانت وقت هزيمتها من الحلفاء في وضع جيد نسبيا لجهة العلوم والمعارف المستوطنة كنتيجة لما كان قد بدأ في عهد الإمبراطور ميجي من انفتاح وإصلاحات سياسية واقتصادية وتربوية شملت إرسال البعثات التعليمية إلى الخارج وتحرير القطاع الزراعي واستلهام تجارب الأمم المتقدمة في وضع القوانين والدساتير ومحاكاتها في اختراعاتها وغرس الكثير من القيم الأخرى المطلوبة كمقدمات للنهوض والانطلاق.
ويمكن القول أنه لولا ما أصاب بعض القادة اليابانيين من غرور وحماس ونشوة قومية لجهة قدرتهم على تركيع كل الجوار الآسيوي وإدخاله بالقوة العسكرية تحت السيادة اليابانية، وذلك في أعقاب انتصارهم على الجيوش الصينية في أواخر القرن التاسع عشر ثم انتصارهم على الجيوش الروسية في بدايات القرن العشرين، فان اليابان ربما كانت اليوم متقدمة عما هي عليه بأشواط. ذلك أن هزيمتها المرة على يد الحلفاء فرض عليها البدء من الصفر ابتداء من العام 1949 .
الجنرال ماك آرثر
وطبقا للبروفسور شيمادا، فانه لا يمكن الحديث عن يابان ما بعد الحرب الكونية الثانية دون التوقف طويلا عند ما فعله الجنرال الأمريكي “دوغلاس ماك آرثر” الذي استسلم القادة اليابانيون له، وذكر محاسن الأسلوب الذي استخدمه في إدارة دفة اليابان المهزومة. فقد بدأ الجنرال الأمريكي عمله بإجراء إصلاحات زراعية واسعة من اجل تحرير الفلاحين من هيمنة الإقطاع، فخلق بذلك دافعا لهم للعمل والاهتمام بالإنتاجية والحرص على جودة المنتج الزراعي. ثم أدار الجنرال الأمريكي وجهه نحو قطاع التعليم فخلصه من العديد من مظاهر الترهل على كافة المستويات، وأعاد صياغة برامجها ومناهجها، وشجع اليابانيين على الالتحاق بالتعليم العام بدلا من الالتحاق بالمدارس العسكرية المؤدلجة كما كان يجري في ظل نظام العسكريتاريا اليابانية. وبطبيعة الحال ، فقد كانت لهذه الإصلاحات آثارا ملموسة على اليابانيين الذين شعروا معها أنهم إذا ما اجتهدوا وتعلموا أكثر فان كل السبل مفتوحة أمامهم للصعود والكسب وتحسين أحوالهم المعيشية.
التشجيع على قيام حركات نقابية
العمل الثالث الذي يحسب للجنرال دوغلاس ماك آرثر هو تشجيعه على قيام حركات نقابية و إطلاع هذه النقابات على طرق أساليب عمل مثيلاتها في المجتمعات الغربية من اجل تحقيق مطالب معينة كتلك المتعلقة بالأجور وساعات العمل والمكافآت والحوافز. وكان قصد الجنرال الأمريكي من كل هذا استخدام اتحاد نقابات العمال في وجه بعض الجماعات غير الراغبة في التعاون مع الأمريكيين من اجل إعادة بناء يابان ما بعد الحرب.
الفترة الجميلة
ويصف البروفسور شيمادا الفترة ما بين 1950 و1954 بالفترة الجميلة لشعور الناس بقيام يابان جديدة مستقرة وديمقراطية ومتجهة نحو السلام والازدهار من بعد عقود من المخاضات ومسلسلات الدم والحروب. ويضيف أن الأمريكيين كانوا سعداء أيضا، بل أن أسعدهم كان ماك آرثر الذي استطاع أن يخلع أنياب العسكريتاريا اليابانية إلى الأبد بحكمة ودهاء، وبالتالي ضمن ألا تقوم لها قائمة وألا يتكرر معه ما حدث سابقا في الفلبين من مهانة، وذلك في إشارة إلى واقعة قبض القوات اليابانية المحتلة للفلبين للجنرال وطرده إلى استراليا.
تطبيق النموذج الياباني في العراق!
وتوقف البروفسور شيمادا هنا ليذكر الحضور بما تردد على ألسنة صناع القرار في واشنطون قبيل حربهم على العراق، بأن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تجعل من هذا البلد (العراق) نموذجا للديمقراطية والاستقرار والرخاء في الشرق الأوسط على نحو ما فعلته قبل أكثر من نصف قرن في اليابان. أما أسباب فشل الأمريكيين في العراق ونجاحهم في اليابان فقد عزاه المحاضر إلى أمر واحد محدد هو أن واشنطون درست تاريخ اليابان وثقافة وتقاليد شعبها بدقة وأناة قبل شن الحرب عليها، فيما كان الحال هو العكس في الحالة العراقية بمعنى أن الأمريكيين لم يبذلوا الجهد الكافي لمعرفة الخارطة العراقية، بل لم يستمعوا حتى لنصائح حلفائهم الأكثر خبرة بأوضاع هذا البلد العشائرية وأحواله وتقسيماته العرقية والمذهبية. ولا يذهب كاتب هذه السطور بعيدا عما قاله المحاضر في تحليل أسباب نجاح الأمريكيين في اليابان وفشلهم في العراق، غير أنه يعزي الأسباب بصفة خاصة إلى اختلاف المنظومتنين الثقافية والفكرية في كلا البلدين وما يرتبط بهاتين المنظومتين من قيود مذهبية ومرجعيات وجهل وخرافات وتقاليد قبلية وعشائرية بالية، من تلك التي لا وجود لها بطبيعة الحال في المجتمع الياباني.
نهضة هادئة فانطلاقة صاروخية
ومن ضمن ما اخبرنا به المحاضر أن بلاده شهدت نهضة هادئة وبوتيرة منتظمة حتى منتصف الخمسينات لتبدأ بعدها – ولا سيما منذ النصف الثاني من عقد الستينات – اليابان الانطلاق بسرعة صاروخية نحو العلا، فكيف حدث ذلك؟ وأي عوامل ساهمت فيه؟
العوامل بطبيعة الحال كثيرة وعديدة، غير أن أبرزها وأهمها تأثيرا كانت:
• الإنفاق اللامحدود على الأبحاث والدراسات وتأهيل الكوادر البشرية
• السيطرة على جودة المنتج والتحكم في مواصفاته بدقة كي تستطيع المنافسة.
• توجيه الطاقات والعلوم نحو إنتاج السلع السلمية والاستهلاكية بدلا من توجيهها نحو صناعة الآلة الحربية والصناعات الثقيلة التي كانت من أسباب سقوط أو تراجع أمم عظمى كثيرة مثل الاتحاد السوفياتي.
• خلق روح التحدي والمنافسة على كافة المستويات.
• محاكاة الآخر المتقدم بمختلف الوسائل المتوفرة.
• إدارة الموارد البشرية بفعالية والقضاء على أسباب التسيب ومظاهر النزاعات العمالية داخل المؤسسات.
• الاستحواذ على مصادر المواد الخام الاجنبية اللازمة للصناعة مثل مناجم الفحم ومصانع الفولاذ لضمان استمرارية العمل.
• الإصلاح المستمر والمتواصل والمراجعة الدورية الدقيقة لكل قرار من اجل تحقيق أفضل النتائج والغايات.
• إيجاد صناعات ومؤسسات داعمة ومساندة كي لا يتوقف العمل في أي حقل أو نشاط.
• الاهتمام بالحوافز والمكافآت وإيجاد الحلول الواقعية لمشاكل العمال كي يزاول العامل عمله باطمئنان ودون أن تشغله أو تعيقه مواضيع ذات صلة بالسكن أوالتعليم أوالطبابة.
التعويل على الطاقة الشمسية
وأخيرا ذكرنا المحاضر أن اليابان لا زالت تسعى منذ سبعينات القرن الماضي عندما تهددت حصصها من نفط الخليج كنتيجة لقرارات وقف ضخ البترول، ثم تاليا حينما تهددت خطوط الملاحة الناقلة لشحنات النفط الخليجية إليها بسبب الحرب العراقية الإيرانية، إلى إيجاد بديل نظيف للنفط. وهي في هذا السياق ركزت ولا تزال على الطاقة الشمسية حتى صارت خبيرة في هذا المجال وبامكانها أن تزود دول الخليج بتلك الخبرة المتراكمة لإيجاد بيئة نظيفة وصحية، لاسيما وان الخليج حباها الله بشمس مشرقة على مدار السنة.
elmadani@batelco.com.bh
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين