في الأسبوع الماضي تدهورت العلاقات الهندية ــ الكندية سريعا، ووصلت إلى حد حرب دبلوماسية معلنة مارس فيها كل طرف طردَ العشرات من دبلوماسيي الطرف الآخر وسط تراشق الاتهامات. وهو ما قد يهدد الاتفاقيات الدفاعية والتجارية المبرمة بين البلدين، ويضع التحالف الهندي ــ الباسيفيكي لمواجهة الصين والذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا في موقف حرج، ويؤثر سلبا على مصير نحو 183 ألف هندي يتلقون التعليم في الجامعات الكندية. خصوصا وأن كندا هي وجهة الهجرة المفضلة للهنود بسبب قيودها المخففة مقارنة بغيرها.
في الواقع، نحن أمام حالة دولة ديمقراطية نامية تشتكي من أنشطة انفصالية تهدد وحدتها الوطنية تمارس من فوق أراضي دولة ديمقراطية غربية، فيما لا تحرك الأخيرة ساكنا للجم هذه الأنشطة بذريعة حرية الرأي وحقوق الإنسان. ولئن كان هذا مربط الفرس في النزاع المشتعل بين البلدين، فإنه يخفي وراءه أمورا أخرى هي التي فجرت الأوضاع بينهما.
في نوفمبر 2022 صدر بيان كندي حول استراتيجية كندا في منطقة المحيطين، تم وصف الصين فيها بـ“القوة العالمية المدمرة على نحو متزايد“، فيما وصف البيان الهند بأنها “الشريك المهم لكندا في تحقيق أهدافها الإقليمية والعالمية كونهما صاحبتي تقاليد مشتركة متمثلة في الديمقراطية والتعددية والإلتزام بقواعد النظام الدولي“. ومن يقرأ مثل هذه العبارات الكندية الدافئة حيال الهند، يخيل له أن علاقات البلدين الثنائية اتسمت دائما بالصفاء وخلت من الاشكالات والهواجس. لكن الحقيقة غير ذلك. فخلال زيارة رئيس الحكومة الكندية “جيستن ترودو” للهند في فبراير 2018، وقع حدث غير متوقع أحرج الضيف وجعله موضع سخرية من الإعلام الكندي والأمريكي والبريطاني الذي وصف زيارة “ترودو” بالفاشلة، الأمر الذي دفعه إلى اطلاق تصريح قال فيه إنه قد لا يزور الهند مرة أخرى. ولم يكن ذلك الحدث سوى التقاط صورة تجمعه مع زوجته وإلى جانبهما “غاسبال أتوال“، والأخير مواطن كندي من أصل هندي وذو ارتباطات بحركة “خالستان” السيخية الانفصالية، وكان قد أدين من قبل محكمة كندية بتهمة محاولة قتل وزير هندي خلال زيارته لكندا.
أدت تلك الواقعة إلى توقف الاتصالات بين البلدين لنحو 18 شهرا، قبل أن تعود العلاقات للتعافي على إثر لقاء زعيميهما على هامش قمة مجموعة السبع في بياريتز الفرنسية في أغسطس 2019. وسرعان ما واجه العالم جائحة كوفيد 19 وقيام الهند إبانها بتزويد بعض الدول ــ ومنها كندا ــ بكميات كبيرة من اللقاحات، وهو ما ساهم في إجراء أكثر من إتصال بين ترودو ونظيره الهندي رانيندرا مودي لمناقشة ما وصف بـ“معركة البلدين المشتركة ضد الوباء“، ليذوب الجليد في علاقاتهما الثنائية ويتكرر لقاءاتهما على هامش قمة مجموعة السبع في “شلوس إلماو” الألمانية في يونيو 2022، وقمة مجموعة العشرين في بالي الأندونيسية في نوفمبر 2022.
غير أن ما حدث في قمة العشرين الأخيرة التي استضافتها نيودلهي في سبتمبر 2023، كان مؤشرا على بداية حدوث تراجع خطير في علاقات البلدين والزعيمين، حيث لم يعقد مودي أي اجتماع مع نظيره الكندي على غرار ما قام به مع ضيوفه الآخرين من قادة مجموعة العشرين، بالرغم من تأكيداته المسبقة بأن قمة العشرين فرصة تاريخية لإعادة ضبط وتمتين علاقات الهند الخارجية.
لقد بدا واضحا أن مودي مستاء من سياسات “ترودو” ومواقفه وتودده لمواطنيه السيخ الحاملين للجنسية الكندية لأسباب انتخابية، والتغاضي عن أنشطتهم المزعجة للهند. ولعل ما زاد الطين بلة، وجعل الأمور تتأزم وتصل إلى ما وصلت إليه، هو تصريحات لترودو زعم فيها بوجود أدلة موثقة تربط حكومة مودي بمقتل الناشط الكندي من أصل هندي “هارديب سينغ نيغار” بالرصاص في 18 يونيو 2023 خارج مركز ثقافي للسيخ في ولاية “كولومبيا البريطانية” بكندا. وهو ما نفته نيودلهي واحتجت عليه بأشد العبارات.
والمعروف أن كندا تعتبر موطنا لأكبر عدد من طائفة السيخ خارج الهند بعدد يصل إلى نحو 800 ألف نسمة، مشكلين بذلك قوة تصويتية هائلة، وبينهم شخصيات تحتل مراكز مرموقة في حكومة ترودو وحزبه وفي السلطتين الأمنية والقضائية. ويستغل هؤلاء الحريات المكفولة في كندا للتعبير عن دعمهم المادي والمعنوي والإعلامي لحركة “خالستان” الإنفصالية التي تسعى لإقامة كيان للسيخ مستقل عن الهند في ولاية البنجاب حيث يعيش 18 مليون سيخي، ناهيك عن قيامهم بتخريب الممتلكات الهندية في كندا، وإجراء استفتاءات محلية حول أحلامهم الانفصالية التي انطلقت في الستينات ثم تبلورت في الثمانينات عبر انتفاضة مسلحة قمعتها الحكومة الهندية فكان ردهم القيام باغتيال رئيسة الوزراء أنديرا غاندي عام 1984.
والمعروف أيضا أنه منذ التسعينات زادت هجرة السيخ الهنود إلى كندا بتشجيع من أقاربهم هناك، حيث جذبتهم الفرص الاقتصادية والتعليم المتقدم والحريات التي تكفل لهم إعادة تنظيم أنفسهم من أجل الدفع بقضيتهم.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشؤون الآسيوية