«كنتُ شيوعياً»، بقلم بدر شاكر السياب (ونشرتها «دار الجمل»). أجزاؤه مقالات شبه يومية كتبها الشاعر العراقي الكبير لصحيفة «الحرية» البغدادية،ا على مدى أشهر من العام 1959، إثر قضائه ثماني سنوات في الحزب الشيوعي العراقي.
والكتاب طريف وراهن. طريف لأن الاسباب السياسية لتركه ليست هي المهيمنة. او تكاد تتساوى مع اسباب حارقة لديه، بصفته شاعراً خالصاً. انها اسباب شعرية جمالية. في متن الكتاب يعترف الشاعر بأنه في حياته الحزبية الّفَ والقى القصائد البائتة والبائخة والمقَوْلبة. كان يستشعر انعدام الشعرية في شعره الحزبي الملتزم… والآن تحرر وتغير.
لا يقاسم الحزب إعجابه الشديد بشاعر الاتحاد السوفياتي الاول، الحائز على جائزة ستالين لعام 1948، كونستانتين سيمونوف؛ وقد رفعه الحزب الى مصاف الكبار. «بأجمل اسلوب ممكن»، هكذا يترجم احدى قصائده «المتوحشون». فيعلق في نهايته «طفل في الصف السادس الابتدائي يستطيع ان يكتب (…) خيراً من هذه القصيدة». ثم يتابع بلوْعة: «لكنك كشيوعي مجبَر على الاعجاب بها وإعتبارها تحفة من التحف».
هكذا ينال من ناظم حكمت وبابلو نيرودا وماوتسي تونغ وستالين… يصفهم بالمنعدمي الشعرية، ما يعرّضه لأصناف من التهم. السجال الشعري والجمالي يتواصل طوال الحلقات. ويحضر شعراء غربيون كبار منحدرون من العالم الرأسمالي الاستعماري الممقوت، وشعراء روس معادون للنظام السوفياتي، مثل بوريس باسترناك. فيدافع السياب عن شعريتهم وهكذا… في خيط لا ينفكّ، من الردّ على رفاقه القدماء والردّ على الردّ.
اما الراهن من الكتاب، فلا يقلّ معنى. المناخ العام الذي يتنشّقه الشاعر شبيه باليوم، ولكن مقلوباً. يورد السياب مثلا أن اخاه طلب منه ان يهدّىء خلافه مع الحزب حفاظا على عائلته: «أخي يسألني، لماذا لا افكر بمستقبله وبمستقبل اطفاله». فيجد الشاعر «العلة» في هذه الاسباب بالذات. «وهنا العلة التي دفعت كثيرا من الناس الى التظاهر بالشيوعية خوفا على مستقبلهم ومستقبل اطفالهم».
«التظاهر بالشيوعية» بالامس. و»التظاهر بالاسلامية» اليوم. «الشيوعية» هي «الحل» بالامس. و»الاسلام هو الحل» اليوم. ما الذي تغير بالعمق؟
و«الطريقة» الشيوعية السابقة لها ايضا طابع الراهنية. السياب يصف المنهج الشيوعي بالمنهج المؤامراتي «من خطط الشيوعيين (…) التحدث عن مؤامرة مزعومة ليتمكنوا بهذه الوسيلة من ضرب خصومهم وتقوية صفوفهم». وهناك منهج البغضاء: ينشرون الحسد والحقد والغيرة الطبقية، إذ «فلان عنده وانا ليس عندي، فلآخذ من عنده». ليس العدل هو المطلوب لدى الرفاق السابقين؛ بل قلب السطوة الى سطوة اخرى مضادة… ويأخذ عليهم ما يؤخذ اليوم على التيارات الاسلامية من أن لا خلاص من دونها أمس ولا خلاص من دونها اليوم. وعن الفلاحين الذين طالتهم الشيوعية يقول «ان جوعهم الى الارض، ذلك الجوع الرهيب الذي ورثوه (…) وجَد في السراب الشيوعي الاحمر غايته المنشودة». او «اكاذيب» من نوع ان الحزب مع الفلاح، ووعد بأن الحزب «متى جاء الى الحكم فسيعطي لكل شخص قصرا يسكنه وخادما يخدمه»، كأنه ليس للفرد العراقي «من مستقبل وليس لأطفاله من عيش الا اذا انتصرت القوى الوطنية الحمراء».
«الرفاق الشرفاء». تصور ان الشيوعيين كانوا يصفون انفسهم ايضا بـ»الشرفاء»! أما المختلف معهم او المرتد عنهم، فجاسوس وعميل مأجور وعميل استعمار وعميل دولار وحقير ومهدور الدم بسبب هذه «الحقائق». وهؤلاء «الشرفاء» عاصمتهم «الروحية» الكرملين السوفياتي. وهي تبعية يصفها هكذا: «الذي يسعى اليه الشيوعيون (…) هو ربط بلادهم بالعجلة السوفياتية وإخضاعها لسادة الكرملين».
من قال ان دوام الحال من المحال…؟
يكتب السياب في اواخر الخمسينات، مغطّياً بذلك بداياتها. أي نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية «الحرب الباردة» بين الاميركيين والسوفيات. ليس بائناً من كتاب السياب ان «برودة» هذه الحرب نزلت سلاما على العراقيين. بل كانت نزاعا دمويا بين عصر بائد وحلفاء اسقطوه، ثم بين الحلفاء انفسهم، وبضراوة اعظم… وكان شعار الكرملين آنذاك، أو «أمر اليوم» الى كل الشيوعيين الاوفياء في كل انحاء الدنيا: «من المستحيل القضاء على الرأسمالية بدون إستعمال القوة وبدون الانتفاضات المسلحة والحروب ضد البورجوازية». يعني ان مشاريع الحروب لم تتوقف اثناء الحرب «الباردة». وهذا ايضا من معاني راهنية هذا الكتاب، خاصة للذين استعجلوا بلهفة العودة الى هذه الحرب وعصرها «الذهبي»… وتحديدا بعد الغزو الروسي لجورجيا.
الدهشة الباقية بعد قراءة هذا الكتاب اننا لم نتعلم شيئا. لا بالتجارب البعيدة ولا بالأقرب منها. عندما كتب السياب تلك الاوراق كان جيل جديد من الشيوعيين يولد. وكأن شيئا لم يحصل. تجارب تذهب هباء منثوراَ. وبعض بقاياهم اليوم انضموا الى الحلف الممانع المجاهد. ولا يشعرون بكثير من الغربة. فهم ما زالوا في نفس الدائرة المعرفية. قليلة هي الاشياء التي تغيرت لديهم. لكن المشكلة ان هذا القليل منجرف بقوة الى عين اشياء لا تتوقف عن التغير…
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة
«كنتُ شيوعياً…» لا يمكن الاتفاق مع ألأخت / دلال البزري فيما يخص إن كل الشيوعيين ليس شرفاء, انأ شخصيا اعرف عشرات منهم بالفعل شرفاء في الوطن العربي وهنا في موسكو , وقد تطرقت عدة مرارات إلى من سميتهم الفأران الشيوعية التي ظهرت في الآونة الأخيرة هنا , هم كأنهم يمثلوا شعوبهم – نحن- وهم في حقيقية الأمر لا شيء هناك وهنا , عادتا الفأران تظهر , تعيش في الأماكن التي يوجد فيها فضلات المائدة الدسمة , هم مثل غيرهم من يبحثون على مصالحهم الآنية في أي نظام أو أي منظمة, عددهم كثير وهم في تزايد مستمر خاصة في لحظات الأزمات… قراءة المزيد ..