أوّل الكلام: ثمة ما يشبه الرائحة الآن. فلا معنى لربيع العرب بلا رائحة الياسمين الدمشقي. مرحى لما كان وما سوف يكون.
أما بعد، كان من المُفترض أن تكون هذه المقالة تكملة لما جاء في مقالة الثلاثاء الماضي عن ربيع الشعوب العربية، لكن الأحداث المتلاحقة تبرر ملاحقة ما حدث على مدار أسبوع مضى، على أمل العودة إلى التحليل التاريخي والاجتماعي والسياسي في وقت لاحق.
ليبيا، والبحرين، واليمن، وسوريا، هي العناوين التي تفرض نفسها الآن.
في ليبيا تدخّل المجتمع الدولي لإنقاذ الشعب من الحاكم. وفي البحرين تدخل مجلس التعاون الخليجي لإنقاذ الحاكم من الشعب. وفي اليمن يمكن للجيش أن ينقذ الشعب، إذا لم ينقسم. وفي سوريا لم يتضح الأمر بعد.
الجامع بين هذه العناوين أن عدوى التحوّلات التونسية والمصرية انتشرت على نطاق واسع في العالم العربي أولاً، وأن النجاح السريع للثورة التونسية، والمخاض القصير للثورة المصرية، لن يتكررا بالطريقة نفسها ثانياً، وأن الخصوصيات المحلية هنا أو هناك هي التي تحكم وتتحكم بطبيعة المجابهة بين الأنظمة وشعوبها ثالثاً، وأن جبهة للمقاومة والممانعة تضم النخب الحاكمة تشكلت بالفعل لصد التحوّلات الثورية رابعاً، وأن ربيع الشعوب العربية سيكون مبللا بالدم خامساً، وأن نتيجة تلك التحوّلات لن تكون مضمونة ومتشابهة في جميع البلدان العربية سادساً.
يبرر هذه الخلاصات ما حدث على مدار أسبوع مضى. ففي ليبيا كان التدخل الخارجي بمثابة الحل الوحيد والمنطقي والإنساني للحيلولة دون فتك العقيد بمعارضيه. لذلك، فإن كل ما يُقال في منابر عربية مختلفة عن رفض التدخل الأجنبي، يخدم في حقيقة الأمر النخب الحاكمة المذعورة، التي تحاول التقاط الأنفاس، وامتصاص الصدمة الأولى، وبلورة استراتيجيات سياسية وثقافية واقتصادية للبقاء في سدة الحكم.
وقد تجلى الذعر في البحرين، عندما استقوى الحاكم بقوات سعودية على المعارضة. فالعائلات الحاكمة لدول مجلس التعاون الخليجي ستخوض متضامنة وموّحدة الصفوف حرب الدفاع عن النفس في معركة المصير.
إن اتهام المعارضة البحرينية بالانخراط في مؤامرة إيرانية يشبه اتهام القذافي لمعارضيه بالانتماء إلى القاعدة، وتعاطي حبوب الهلوسة. في الحالتين افتراء على الحقيقة. مع ضرورة التذكير بأن الحكّام الإيرانيين يستحقون مصيرا مشابها لمصير الطغاة العرب. والحاكم اليمني من جهته كرر التهمة نفسها ولكن بمفردات مختلفة، عندما تكلّم عن فتنة تستهدف تمزيق العرب، وتخريب بلدانهم.
تحيل هذه الاتهامات مجتمعة إلى مرافعة أيديولوجية سخيفة تحتل مكان الصدارة في العالم العربي، ومفادها أن لا شيء يحدث في الداخل إلا إذا حركته أصابع خارجية. وغالباً ما تتموضع هذه المرافعة في سياق نظرة قوموية (زادتها الأصولية الدينية تطرفاً ومجافاة للمنطق) تمتاز بالتمركز على الذات، والتوجس من الغريب (حتى وإن كان عربيا من بلد آخر)، والحذر الدائم من مؤامرات الغرب اللئيمة.
لذلك، اتهم القذافي ـ بعد الكلام عن محاولة غربية للاستيلاء على النفط الليبي ـ عناصر مصرية وتونسية بإشعال نار الفتنة في بلاده، كما اتهمت العائلات الحاكمة في الخليج إيران بتحريض الشيعة في البحرين والسعودية. ومن المؤكد أن الكثير من هذا الكلام سيقال في سوريا، أيضاً، مع تبرئة إيران، ووضع إسرائيل والولايات المتحدة على رأس قائمة المحرّضين على الفتنة.
هل تحتاج أشياء من نوع التوريث، ونهب المال العام، والبقاء في سدة الحكم مدى الحياة، وانعدام الحريات العامة، وحكم المخابرات، وانتهاك أبسط حقوق الإنسان، وغياب مبدأ وضمانات المواطنة، إلى مؤامرات خارجية؟ وما علاقة إسرائيل والغرب بهذا كله؟
الصحيح أن التحوّلات الراديكالية في العالم العربي، واحتمالات الديمقراطية الوليدة، تجرّد الإسرائيليين من حق الكلام عن الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. والصحيح، أيضا، أن الولايات المتحدة والغرب كانوا، دائما، أفضل حليف لأنظمة لا تقيم وزنا للحريات العامة، أو حقوق الإنسان.
بيد أن التحوّلات الثورية، وإن كانت قد فتحت أفقاً حقيقيا للديمقراطية، إلا أن التعامل معها بالجملة لا يصح. ففي الحالة الليبية ينفتح الأفق على احتمالات كثيرة. القذافي انتهى، لكن حجم الدمار الذي ألحقه بالمجتمع الليبي، على امتداد أربعة عقود، لن ينتهي في وقت قريب.
وبالقدر نفسه، فإن فرص الحاكم اليمني أصبحت ضئيلة للغاية، ومع ذلك من السابق لأوانه القول إن مشاكل اليمن الداخلية، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ستنتهي مع انتهاء النظام القائم. ومع ذلك، يجدر القول إن انهيار النظام سيضخ الكثير من الأدرينالين في أوردة ما لا يحصى من الحالمين بالحرية في شبه الجزيرة العربية.
أخيراً، وكما بدأنا بالياسمين الدمشقي نعود إليه. الرهانات كبيرة وخطيرة في الحالة السورية. فهنا نجد نظاماً يختزل في تاريخه، ومؤسساته، وبنيته، ولغته، وعلاقته بمواطنيه، كل ما تمرّد عليه المتظاهرون في بلدان عربية هبّت عليها رياح الثورة. تبلغ المسافة بين درعا ودمشق حوالي مائة كيلومتر، ولا أحد يعرف كم من الكيلومترات يمشي نداء الحرية في اليوم.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
الأيام