نشرت جريدة “القدس العربي”، اللندنية، في الثلاثين من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، نقلا عن وكالة رويترز للأنباء الخبر التالي:
“توفيت الأميرة فريال، ابنة الملك فاروق والملكة فريدة، أمس في سويسرا، عن 71 عاما. ولدت فريال في مدينة الإسكندرية الساحلية يوم 17 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1938، وغادرت مصر مع والدها يوم 26 تموز (يوليو) 1952، بعد أيام من قيام الثورة، التي أنهت حكم أسرة محمد علي، وبعدها بعام حل الحكم الجمهوري محل الحكم الملكي. وقالت لوتس عبد الكريم في بيان في القاهرة إن فريال كانت تعاني من مرض السرطان، وأنها كبرى بنات الملك فاروق الأوّل، وأنها التحقت في الخمسينيات بكلية السكرتاريا، وعملت سكرتيرة، ومدرسة للآلة الكاتبة، ثم تزوجت عام 1966 من السويسري جان بيير، الذي مات عام 1968، وأنجبت منه ابنتها الوحيدة ياسمين، التي تعيش في القاهرة، وأن أمها استدعتها قبل وفاتها بأيام قليلة لتودعها. وفريال آخر بنات الملك فاروق، بعد وفاة شقيقتيها فوزية وفادية، قال البيان إن الجثمان سيصل إلى القاهرة غدا الثلاثاء”. انتهى الخبر.
وفي ذيل هذا الخبر علّق قارئ اسمه سعيد، ضمن تعليقات القرّاء، التي أصبحت مألوفة في الغالبية العظمى من المواقع الإلكترونية للصحف، على النحو التالي:
“تزوجت عام 1966 من السويسري جان بيير الذي مات عام 1968، وأنجبت منه ابنتها الوحيدة ياسمين. هل هذا يعني أن الأميرة المسلمة تزوجت من نصراني، وأنجبت منه، أم أنها تنصّرت، أم أنه أعلن إسلامه، فهذا أضحى عندي أهم من خبر موتها”.
كيف نفسّر هذا التعليق؟
بداية، نحن لا نعرف من هو سعيد، ولكننا نعرف بأنه أحد القرّاء، الذين وجدوا في الخبر ما يستحق التعليق، ونعرف بأنه عربي مسلم، ولكننا لا نعرف مهنته، ولا فئته العمرية، ولا بلده، وإن كنّا نعرف بأنه ينتمي إلى أحد البلدان العربية، وهذه المعرفة القائمة على تسليم مسبق بالمجهولية تمنح سعيدا هذا صفة تمثيلية أكبر. فهو العربي، الذي يجيد القراءة والكتابة، ويستخدم الإنترنت، ويجد من واجبه التعليق على الشأن العام.
بيد أن التعليق، الذي صاغه في ذيل الخبر، يمكننا من الحصول على معلومات إضافية عن اهتماماته، وثقافته، وربما عن ميوله السياسية، أيضا. موت الأميرة، مثلا، لا يعنيه من قريب أو بعيد، وحقيقة أن أميرة عاشت في المنفى، واشتغلت سكرتيرة، ومعلّمة للآلة الكاتبة، واختطف الموت زوجها بعد عامين من الزواج، لا تحرّضه على التفكير في المصائر المأساوية لبني البشر. المهم، في نظره، التدقيق في أمر زواجها، وهل كان منسجما مع ضوابط الشريعة أم لا.
ورغم أن الخبر المنشور لا يشير إلى هذا الأمر، إلا أن الاسم الأجنبي للزوج قرع أكثر من جرس للإنذار في رأسه، ويبدو أن الأجراس كانت قوية إلى حد لم يجد معه من وسيلة للخلاص منها إلا بالكتابة عنها.
وبهذا المعنى، فإن سعيدا هذا، بقدر ما طرح من أسئلة أقلقته، قدّم، أيضا، معلومات عن نفسه: فهو رقيب على أفعال الناس، وحريص على اكتشاف مدى انسجامها مع ضوابط الشريعة، وحريص، بالقدر نفسه، على تعميم هذا الحرص، أي إذاعته على الملأ، لتنبيه آخرين إلى ما قد يكون فاتهم عند قراءة الخبر، وتمكينهم من التمييز بين الغث والسمين.
وعند الوصول بالتحليل إلى هذا الحد يمكن القول إن المعلومات التي قدمها سعيد عن نفسه، بقدر ما تُسهم في إبراز الدلالات الثقافية والسياسية لصفته التمثيلية، تقلل من الدلالات الفردية والشخصية لما ينجم عن غياب معلومات مثل العمر، والبلد، والتعليم، والاسم، من مجهولية.
لم يعد، في الواقع، مجهولا تماما. فهو على الأرجح في العقد الثالث من العمر، أو ما دون ذلك. ومبرر الترجيح أن نسبة الشباب في العالم العربي تصل، حسب بعض التقديرات، إلى 60 بالمائة من إجمالي عدد العرب، وهذه الفئة العمرية هي الأكثر إقبالا على الإنترنت. وقد يكون عاطلا عن العمل، ففي العالم العربي يبلغ عدد العاطلين عن العمل في الوقت الحالي 21 مليون نسمة، أو ربما يكون جزءا من جيوش الموظفين الجرارة في مختلف البلدان، والتي تمثل نوعا من البطالة المقنّعة.
سعيد، هذا، يعيش في عالم يصل فيه عدد الأميين إلى مائة مليون من بين 328 مليون من العرب، وبما أنه يجيد القراءة وكتابة التعليقات، فقد يكون طالبا حصل على تعليم متوسّط، أو ربما تخرّج في إحدى الجامعات في عالم عربي تحتل جامعاته المرتبة الدنيا بين أفضل الجامعات في العالم.
وهو يقيم في مدينة، على الأرجح، أيضا، أو سيقيم قريبا في مدينة من المدن العربية الكثيرة، لأن عدد قاطني المدن من العرب بلغ قبل عشر سنوات 53 بالمائة، ويُنتظر أن يصل إلى 61 بالمائة بعد عشر سنوات. ومع هذا وفوقه، وقبله، وبعده، فقد نشأ في عالم ينقسم فيه العرب إلى فقراء وأغنياء، وقد تمكّن أغنياء النفط، الذين لا يمثلون سوى نسبة ضئيلة من العرب، لكنهم يملكون وسائل الإعلام، ومصادر التمويل، وأسواق العمل، من فرض ثقافتهم الفقيرة والهامشية على الآخرين.
نحن، إذاً، نعرف الكثير عن سعيد. ولكن تبقى مسألة إضافية، ونحن، هنا، نستعيرها من أورتيغا غاسيت، الذي أشار في العام 1930 إلى أن ما يتهدد أوروبا في ذلك الزمن لا يتمثل في صعود “الجماهير” بل في حقيقة أن “الجماهير” تتكوّن من أفراد فقدوا احترامهم للمعرفة والتخصص، ففي أزمنة مضت كان يُفترض بالعاملين في السياسة والثقافة والفنون والآداب والعلوم أن يكونوا أكفّاء وأصحاب مؤهلات، لكن هذه الفرضية لم تعد قائمة، لأن المعرفة والتخصص فقدا ما كان لهما من مكانة اجتماعية، وبالتالي أصبح “رجل الكتلة”، أو “الجمهور” قادرا على الإفتاء في كل شيء، كما أصبح مفتونا بفكرة المساواة، فلا أحد “أفهم” من أحد، أو “أعلم” منه.
وهذا حال سعيد، الذي يقرأ افتتاحيات عبد الباري عطوان في “القدس العربي”، ويُفتن بقناة “الجزيرة” القطرية ويستهلك كلام شيوخها و”مفكريها”، ويتطوّع للعمل حارسا أخلاقيا، ويفترض لنفسه مكانا ومكانة يؤهلانه للتمييز بين الغث والسمين في عالم يهاجر منه 54 بالمائة من الأطباء، و26 بالمائة من المهندسين، ويفضّل ما يزيد على نصف طلاّبه الذين يتلقون العلم في الخارج البقاء في البلدان الأجنبية، ويحتل أدنى درجات السلّم في قائمة مؤشر الحرية في العالم، يسوده التعصّب، وتنخره حروب أهلية مستترة ومعلنة. فما الحاجة للحرية والمعرفة، وما الحاجة لأطباء ومهندسين ومثقفين إذا توّفر سعيد. وكل سعيد وأنتم بخير.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
عن جريدة الأيام
كل سعيد وأنتم بخير..!!
رائع . رائع . ما أحوجنا الى هذه الرؤية البصيرة لواقع شعوب الشرق الاوسط . شكرا لك أيها الكاتب الكبير ,
وشكرا الى هذا الموقع المتيز والذي يستحق أن يدعى ضمير الشرق الاوسط لا شفافه
كل سعيد وأنتم بخير..!!
شكراً على هذا المقال الذكي ذي المعاني العميقة.أن أخطر ما يهدد العالم العربي هو الجهل والتعصب وافتقاد الانسانية بمعناها الواسع.وهذا حصيلة عقود من التجهيل في مدارسنا وجامعاتنا ومجتمعاتنا من قبل أنظمة مستبدة فاسدة.
كل سعيد وأنتم بخير..!!
مقالة لطيفة..
كل سعيد وأنتم بخير..!!
Herr Khuter, Hasan,
ich danke Ihnen sehr für diesen wichtigen, interessanten aber vor allen tiefen Artikeln. Leider so ist die Situation in den meisten arabischen Ländern. AlJazeera gilt als ein einzigen Fenster zu der Welt für die meinsten arabischen Leute, Es gibt kein Lesen, keine Büchern auf dem Regal, keine Diskussion und Kritik. Es gibt nur Said, der als gutes Beispiel ist, um Millionen von Menschen in diesen frustriernden arabischen zu beschreiben.
Danke nochmal für Ihren Artikel.
كل سعيد وأنتم بخير..!!
عندما أكون يائساً من حالة الإنحطاط الثقافي والإجتماعي والإنساني والسياسي في بلادنا، يكفيني أن ازور موقع “الشفاف” وأقرأ بعض مقالات كاتباته وكتابه الإنسانيين المتنورين ومنفتحي العقل والقلب، كمقال حسن خضر، حتى يزول يأسي سريعاً، ويحل محله الأمل بالتغيير وبغد أكثر إشراقاً على شرقنا الأوسط…
شكراً حسن خضر!
شكراً الشفاف…!!!