ثمة كلام كبير ذو مغزى عميق لا يتجرّأ على قوله الا بعض الكبار في عالمنا العربي الذي تحّول منذ فترة لا بأس بها الى عوالم.
من هذا الكلام الذي لا يستطيع كثيرون اعماهم التعصّب الديني والمذهبي فهم معناه، ذلك الذي صدر قبل أيّام عن الملك عبدالله الثاني في مناسبة استضافة عمّان مؤتمر “التحديات التي تواجه المسيحيين العرب”. قال عبدالله الثاني:” نحن نعتزّ بأنّ الاردن تشكّل نموذجا متميّزا في التعايش والتآخي بين المسلمين والمسيحيين، كما نؤمن بأنّ حماية حقوق المسيحيين واجب وليس فضلا أو منّة. فقد كان للمسيحيين العرب دور كبير في بناء مجتمعاتنا العربية والدفاع عن قضايا أمّتنا العادلة”. أكثر من ذلك، قال العاهل الاردني:”اننا ندعم كلّ جهد للحفاظ على الهوية المسيحية العربية التاريخية وصون حقّ حرّية العبادة انطلاقا من قاعدة ايمانية اسلامية ومسيحية تقوم على حبّ الله وحبّ الجار”.
تكمن أهمّية هذا الكلام في انه يأتي في وقت يتعرّض فيه المسيحيون العرب لهجمة شرسة اخرى تستهدف تهجيرهم من ارضهم على غرار ما حصل في هذا البلد العربي أو ذاك بدءا بفلسطين وصولا الى العراق وسوريا ومصر… وحتّى لبنان.
فلبنان، الذي يتعرّض مسلموه ومسيحيوه لهجمة من أقسى الهجمات، كان في الماضي القريب جدّا نموذجا لما يمكن أن تكون عليه دولة عربية ذات مجتمع منفتح تجري فيها انتخابات نيابية ورئاسية بطريقة طبيعية ويعود رئيس الجمهورية المسيحي الى بيته بمجّرد انتهاء مدة ولايته الدستورية…
لا مجال لتعداد الجرائم التي ارتكبت ولا تزال ترتكب، في حقّ لبنان، وصولا الى وجود حزب مذهبي مسلّح مدعوم من ايران يسعى الى تدمير كلّ مؤسسات الدولة اللبنانية والقضاء على نسيج المجتمع اللبناني.
ولا مجال أيضا لتعداد سلسلة الاخطاء التي ارتكبها المسيحيون اللبنانيون انفسهم الذين لجأوا في مرحلة معيّنة الى السلاح، فوقعوا في الفخ الذي نصبه لهم النظام السوري مستعينا بالفلسطينيين. هذا النظام الذي اعتقد أنّ تحريض الطوائف اللبنانية على بعضها بعضا سيسهل عليه وضع الوطن الصغير تحت وصايته الى ما لا نهاية وذلك من منطلق في غاية الغباء. اسم هذا المنطلق هو “حلف الاقلّيات” الذي يدار من دمشق وطهران. انه الحلف الذي لا يزال النظام السوري يراهن عليه غير مدرك أنه دمّر سوريا بسبب هذه اللعبة التي افرغت البلد من مسيحييه منذ فترة طويلة، حتى قبل لجوء عسكر البعث الى التأميم بعد استيلائهم على السلطة في الثمن من آذار- مارس 1963.
في الواقع ان عملية استنزاف المسيحيين في سوريا بدأت بعد الوحدة مع مصر في العام 1958، وهي وحدة اسست لنظام امني لا مكان فيه لحرية وانفتاح وتعليم متطوّر يخلق بيئة حاضنة لمجتمع طبيعي تحترم فيه حقوق كلّ المواطنين بمن في ذلك المسيحي واليهودي والاسماعيلي…
وسط كلّ ما شهده العالم العربي من مآس ادت الى تهجير المسيحيين واضطهادهم قبل “الربيع العربي” بكثير، بقيت الاردن حالة استثنائية. ولانّها بقيت كذلك، يحقّ لعبدالله الثاني قول ما لا يستطيع غيره قوله بما في ذلك أنّ “الهاجس الاكبر لدينا هو أن تترسّخ النظرة السلبية والانعزال بين اتباع الديانات، ما يؤدي الى تفتيت النسيج الاجتماعي. وهذا يتطلب منا جميعا التركيز على موضوع التربية والتنشئة لحماية الاجيال القادمة، وهذه مسؤولية الاسرة وباقي المؤسسات التربوية اضافة الى المساجد والكنائس”.
لا شكّ أن العاهل الاردني يعرف ما الذي يتكلّم عنه هنا. انه يعرف الاضرار التي لحقت بالمجتمع الاردني يعد تسليم التربية خلال فترة معينة للاخوان المسلمين. وهذا ما عانت منه ولا تزال تعاني غير دولة في المنطقة، بينها مصر التي سعت السلطة فيها الى المزايدة على الاحزاب الدينية في اطار المواجهة معها في مجال التربية وتنشئة الاجيال الجديدة.
ولكن يبقى أن الاهمّ من ذلك كلّه، أنّ ما سمح للاردن بالصمود في وجه التخلف، على الرغم من موجة التزمت الديني التي تعرّض لها في مرحلة معيّنة بدأت بلجوء فلسطينيين كانوا في دول الخليج اليه وصعود اسهم “حماس” في الاراضي الفلسطينية بتشجيع اسرائيلي واضح، هو عقلية الملك. فالملك في الاردن اكان اسمه الحسين بن طلال، رحمه الله، أو عبدالله بن الحسين يعرف معنى أن “المسيحيين هم الاقرب الى فهم الاسلام وقيمه الحقيقية وهم مدعوون الى الدفاع عنه في هذه المرحلة التي يتعرّض فيها للكثير من الظلم بسبب جهل البعض لجوهر الاسلام الذي يدعو الى التسامح والاعتدال والبعد عن التطرف والانعزال”. وهذا الكلام هو ايضا لعبدالله الثاني الذي يواجه بلده هذه الايّام مجموعة من التحديات، من بينها التعاطي مع ما يعانيه المسيحيون، بمن فيهم مسيحيو القدس التي هي مسؤولية العاهل الاردني. هذه التحديات لم تضعه، لحسن الحظ، في موقع دفاعي يؤدي الى التردد في قول الكلمة الحقّ عندما تكون هناك حاجة ماسة الى ذلك.
كان المؤتمر الذي انعقد في عمّان عن “التحديات التي تواجه المسيحيين العرب” هجمة على الذين باتوا يخافون من الاعتراف بأن وجود المسيحي العربي مصدر غنى للمنطقة وللمجتمعات العربية.
ما شهدته وتشهده عمّان منذ سنوات عدة من أجل الوقوف في وجه التطرف والارهاب بكلّ انواعهما والدفاع عن الوجود المسيحي والاسلامي في القدس يفرض العودة الى الماضي القريب، أي الى ما مثّله الهاشميون دائما على الصعيد الحضاري. هل هناك من يريد أن يتذكّر أن العراق لم ير يوما أبيض منذ انقلاب الرابع عشر من تموز- يوليو 1958 عندما كان هناك ملك قادر على احتواء الجميع من عرب واكراد وتركمان وسنّة وشيعة ومسيحيين ويهود؟ ماذا فعل العسكر بعد قتل الملك وافراد العائلة والقريبين منهم؟ ماذا فعل البعث بالعراق بعد تخلصه من العسكر؟ ماذا فعل الاحتلال الاميركي بعد تخلصّه من البعث والعائلة الحاكمة واتيانه بالميليشيات المذهبية لتحكم العراق؟
ما تطرحه مأساة العراق يتجاوز العراق. انه يعني كل دول المنطقة، خصوصا مصر. انه يعطي مؤشرا الى ما يمكن أن تكون عليه احوال الشرق الاوسط في غياب من يقول الامور كما هي من دون مواربة. من هنا أهمية كلام عبدالله الثاني الذي قبل التصدي لكل التحديات على الرغم من الامكانات المتواضعة جدا للاردن!