يبدو أن فضحية التعدي على المشاعات التي انطلقت من منطقة الزهراني في الجنوب تشبه المثل القائل “من حفر حفرة لأخيه وقع فيها”. فحزب الله الذي حرّض أنصاره في المنطقة إياها على البناء المخالف تحديا لحليفه بري إحراجا له- كون نسبة كبيرة من المشاعات هناك صارت جزءا من إمبراطورية السيدة بري المالية- غاب عن باله أنه المتهم رقم واحد في هذه القضية. وقد فشل هذه المرة في مناورة التلطي خلف متاريس “المقاومة” لأن النقمة الشعبية لإثارة هذا الملف وخروجه إلى العلن ارتفعت وتيرتها لدى الطائفة الشيعية وقررت مواجهة الفضيحة بفضيحة! ودفع إعلان حزب الله “رفع يده” عن حماية المخالفين وتصويرهم بالخارجين عن القانون بعض الطائفة إلى الحديث العلني غير المسبوق عن قضايا تورط فيها حزب الله وكانت حتى ما قبل فضيحة الطائفة الأخيرة تعد نوعا من أنواع الدفاع عن المقاومة وحمايتها في مجتمع تعاون على تغطيتها وتستر على تجاوزاتها بحجة البقاء والإستمرار.
“الشريط الحدودي” أصبح ملكاً للحزب!
فما يجري في مناطق الجنوب، خاصة في ما يعرف بمناطق “الشريط الحدودي”، حيث الغياب التام والكامل لأجهزة الدولة على أنواعها، والحضور العسكري والسياسي لحزب الله منذ ما بعد “التحرير” عام 2000، يفوق بخطورته مسألة التعدي على الأملاك العامة للدولة. وإذا كان المندفعون إلى البناء في المشاعات همهم الحصول على أماكن سكنية إضافية وترميم ما تصدع منها أو توسيعها، فإن عمليات مسح الأراضي المبرمجة في قرى وبلدات الشريط الحدودي التي تتم تحت أعين أهلها الذين لا يملكون الجرأة على الإعتراض في كثير من الأحيان، حوّلت الأراضي العامة وحتى الخاصة فيها إلى أملاك حزبية، بعضها تم خطفها بالإحتيال على القانون وبعضها تحت إغراء المال وبعضها الآخر تحت التهديد والضغوط.
ويبدو أن أغلب مناطق بنت جبيل ومرجعيون قد تم نهبها وفقا لما سلف. ومن خلال مسح شامل لهذه الأراضي الذي تسنى لحزب الله القيام به، عبر رشاوى مالية مرتفعة وأحيانا تنفيذا لمشيئة سلطان الأمر الواقع، تم فرز هكتارات من الأراضي في هذه المناطق ومن ثم بيعها صوريا وتسجيلها في الدوائر العقارية باسماء أشخاص محسوبين على المقاومة أو استعملت في شرائها أسماء متمولين كبار من الطائفة الشيعية تمويهاً، وبطريقة متخفية بعيدة عن الأضواء. وإذا ما استفسر أحد، فلا يمكن إيجاد ثغرة واحدة غير قانونية في عمليات البيع والشراء لأنها جميعها تمت بالتنسيق مع جهات رسمية مرتشية وعناصر أمنية موالية.
يقول أحد أبناء بلدة “الطيبة” الشيعية أنه لم يعد في محيط البلدة أرض غير مملوكة لحزب الله! فمنذ أكثر من ثلاث سنوات، تمكن حزب الله من مسح كل الأراضي المحيطة في البلدة ومصادرتها تباعا، منها ما اشتراه من أصحابها ومنها ما هو مشاع للدولة، ومنها ما استملكه بذريعة إنتقال الملكية التلقائي بعد مضي أكثر من عشر سنوات على زراعتها والإستفادة منها. وسجلت الأراضي كلها بأسماء عناصر حزبية متفرغة حتى لا يزج بأسماء قيادين كبار في الحزب في عمليات البيع والشراء. وما يجري في “الطيبة” يمتد إلى بلدات “دير سريان” و”فرون” و”الغندورية” و”علمان” المجاورة.
في القرى المسيحية في مرجعيون، والقرى الدرزية في حاصبيا، أدى شراء الأراضي من قبل متمولين شيعة يستعمل حزب الله أسماءهم في هذه المهمات إلى ظهور حزام شيعي حزبي يطوّق هذه المناطق ويقطع عليها خطوط التواصل مع امتداداتها البشرية والجغرافية.
ويشير أحد أبناء بلدة “الغندورية” أن “وادي الحجير” تحول إلى منطقة محرّمة على أبناء الجنوب، مهما كانت هويتهم.
ويجري الآن مسح شامل وسري لأراضي الوادي، للوصول إلى استملاكها عبر قانون الأمر الواقع. ويتحدث آخر أن “الرعيان” صار ممنوعا عليهم تسريح قطعانهم في المكان، وإذا ما عاند أحدهم فقد يقفز أمامه رجل من خلف صخرة ينهيه عن المتابعة أو ربما يسمع طلقا ناريا يحذره من الدخول. ويقول آخر من بلدة “القنطرة”: “حتى نساؤنا اللواتي يخرجن من أجل “السليق” في هذه الأيام، لا يمكنهن الإقتراب من الأماكن المحظورة هذه. فقد صودر الوادي للأبد واصبح معقلا حزبيا”.
المسح ذاته يتكرر في منطقة “وادي السلوقي” الذي يتصل بـ”وادي الحجير”من جهة بلدة “عيترون“. ويروي أبناء المنطقة الذين يقصدون أحراجها للإستجمام في أيام العطل أن معظم الأراضي في الوادي أصبحت أملاكا خاصا لأشخاص لا يعرفون وجوههم إنما يعرفون إنتماءهم.
ويشرح أحد المثقفين من بلدة “شقرا“، قائلاً: حزب الله بنى أمجاده وصادر جزءا من الوطن بناء على تاريخه الذي أمضاه في المقاومة ضد المحتل، وشرع لنفسه ولعناصره إستملاك الأرض لأنه حررها”. وهنا لا بد من السؤال ,هل الأرض التي حررت تصبح ملكا لمن حررها؟ وأين دور أبناء الجنوب العاديين وما قدموه خلال سنوات طويلة من الصمود والمعاناة ومقاومة المحتل؟ أليس ما يجري هو بمثابة إستبدال إحتلال بإحتلال؟ وماذا عن حركات المقاومة التي سبقت المقاومة الإسلامية، سواء كانت وطنية أم عربية؟ ,ألا يحق لها الإستملاك أيضا بحجة الدفاع عن الارض؟ وعلى هذه الأساس يجب أن تكون أراضي وادي الحجير ملك لآل شرف الدين، لأن جدهم السيد عبد الحسين شرف الدين أعلن منها عام 1920 إنطلاق عمل أول خلية للمقاومة في جبل عامل ضد الإحتلال الفرنسي ومواجهة معاهدة سايكس بيكو!
والمضحك المبكي في ما آلت إليه الأوضاع في الجنوب أن عناصر الجيش اللبناني لا يمكنها التحرك في أي منطقة جنوبية دون أخذ الإذن من اللجان الأمنية في حزب الله، وإلا فمصيرها مصير طائرة الشهيد “سامر حنا”.