«أين العرب!؟»، «أين الحكام العرب!؟»، «عرب التخاذل والعمالة!؟». صرخة إعلامية-سياسية مدوّية هذه الايام. والمقصود بها ليس «كل الحكام العرب»؛ ولا حكام دول الطوق كلها. بل احداها فقط. الدولة التي يتراءى الآن أنها يسيرة على الزلزلة، أي مصر.
ايران، أيضاً، من اطلق إشارة هذا الاستهداف الاعلامي-السياسي، وأوضحت الأمر مراراً. طلاب الحرس الثوري الايراني يتظاهرون، وبعد احراق الاعلام يتوجّهون الى مكتب الممثلية المصرية مهدّدين باقتحامه إن لم نفتح مصر حدودها مع غزة، تماماً كما فعلوا مع السفارة الاميركية عام 1979.
هذه بعض نيران ايران البعيدة. وسلاحها الاول مصادرة قضية فلسطين، وقيادة الصراع من اجلها. (يقول بعضهم «دخولها التاريخ»، هي وكل أنصارها وحلفائها). اما سلاحها الثاني، الأشد بطشا، فهو سلاح ايديولوجيتها، اللاغية للحدود والاوطان. صراع «يستنهض» طاقات «الامة الاسلامية» كلها، ولا تفرقة بين «وطن» و«وطن». بل بين دين وآخر. فلسطين في اساس نظريتها ارض اسلام، والصراع يهودي اسلامي.
ايديولوجية الحرب الابدية المختلطة الجنسيات بقيادة أمة إيرانية قوية متراصة خلف مشروع القنبلة النووية. «وطن» المقاوم جهاده، ودياره هي تلك الآمنة من كل كافر الخ. انها الشرعية الجديدة للحرب ضد اسرائيل. وقواعدها تنتشر. «حزب الله» نجح في امتحانها فأقام دولته الاقوى من الدولة، وهدّد كيانها الضعيف اصلاً. الآن الدور لـ»حماس»؛ وايضا على نفس الانقاض. اشتركت في الانتخابات وفازت بها. كل هذا ذهب هدراً؛ ضربت الدولة والمؤسسات. وحجتها فساد شريكتها «فتح» وإستئثارها بالسلطة، وتشجيع الاسرائيليين… فكان ما كان من قرارها المنفرد بشن الحرب.
مصر دولة الطوق المستهدفة الآن، اصابتها الحرب على غزة بشظايا هذا المشروع الحارقة، مشروع إهدار الدولة العربية، بإسم: «أين الحكام العرب؟». الاخوان المسلمون المصريون، نظراء «حزب الله» في الهوى الايراني، كان مرشدهم العام مهدي عاكف يردّد قبل هذه الحرب «طٌزْ بمصر…!» (كما القذافي مرة). واليوم، مع الحرب، يعود فيسرّب بأن لديه جيشا من 10 آلاف «مجاهد»… ثم ينفي؛ يحشد التظاهرات اليومية في العاصمة والاقاليم، التي تفدي «بالروح والدم»، وتطالب بفتح «باب الجهاد» و»إلغاء كامب دايفيد»… وفحواها الاساسية خلط تام بين شيء اسمه حكومة او سلطة فاسدة ومتسلطة، وبين شيء آخر إسمه الدولة.
وحادثة رفع الحذاء التي حصلت منذ ايام في البرلمان المصري من اطرف المؤشرات الى هذا الالتباس المعطوف على قدسية القضية. النائب الاخواني، اشرف بدر الدين، الذي دخل البرلمان بقوانينه واعرافه وآدابه، وبطل رافع حذائه في وجه رئيس المجلس، يُسأل «ما هي الأسباب التي دفعتكم لرفع الحذاء في مجلس الشعب؟». فيجيب النائب واصفاً الاجواء المشحونة في البرلمان وانفعال نواب الاخوان وهتافهم «تسقط اسرائيل يسقط معها كل عميل!». ويتابع «كنت عائدا من رفح وشاهدت الابرياء الذين اصيبوا، ولم اجد وسيلة للتعبير عن غضبي الشديد واتهام المعارضة الوطنية بالخيانة سوى ان ارفع حذائي في مواجهة العدو الصهيوني»!.
المهم ان الاخوان المسلمين يقودون هذا الالتباس، بين السلطة والدولة، وخلفهم اطراف اخرى معارضة من شعوبية وقومية وناصرية وسلفية ويسارية تقليدية. ورداً على حجة الحكومة بأن «مصر قدمت الكثير من اجل فلسطين، وهي لا تستطيع اكثر…»، تردد غالبيتهم اللازمة: «وهل هذا فعلا كل ما تستطيع ان تقدمه مصر؟ 120 الف شهيد فقط سقطوا منذ عشرات السنين، منذ 1967؟ هل هذا حقا جلّ ما تستطيعه مصر؟». وعلى هذا المنوال، تتم مناكفة الحكومة وتناسي الدولة باسم فسادها وتسلطية الناهبين لخيراتها. والاستجابة لهذا النداء الملتبس هو استجابة للفكرة التي طفحت على السطح من ان لا مانع من تحويل مصر الى احدى نقاط الطوق، او الدفرسوار الاسرائيلي لأهل غزة. وبخطاب حذائي غوغائي رثّ ومدروس، تتم التعبئة من اجل قلب الدولة، او تقاسم قسط اوفر من السلطة معها… باسم عدم السكوت عن الصمت العربي الرسمي… الخ
فالكل يحتشد الآن خلف اسلاميين انقلابيين، مشروعهم أجّجته الحرب على غزة. وشعارهم بسيط: إسقاط الدولة المتخاذلة… تماما كما فعل الضباط الاحرار قبل 57 عاماً: شرعية جديدة قائمة على فلسطين. ولكن من دون قيادة مصرية هذه المرة؛ بل إستجابة لحرس الثورة الايراني المهدِّد للسفارة المصرية… او لنداء حسن نصر الله لملايين المصريين.
الالتبــاس بيـــن الدولـــة والسلطة يقســـم الساحة المصرية الاعلامية والحزبية بما يشبه الحال عشية الحرب الاهلية اللبنانية الاولى (1975). كان المعارضون اللبنانيون للنظام يطالبون بتسليح الفلسطينيين؛ ونجحوا، بل تسلحوا هم ايضا. فكانت 15 سنة حرب اهلية اشعلتها الرغبة في فتح جبهة جنوب لبنان الهادئة آنذاك باتفاقية هدنة. ولكن نتيجة الحرب كانت إسقاط الدولة اللبنانية وكافة مؤسساتها. والآن التجربة قد تتكرر مصريا؛ خاصة اذا خرجت «حماس» منتصرة، على طريقة انتصار «حزب الله». اي ناشرة حكمها «الشرعي» على القطاع، ومنتزعة من محمود عباس جزءا كبيرا من شرعيته او ربما كلها.
ثمة اصوات وسط هذه المعْمعة تحاول التعبير عن فكرة اخرى حول الوطن والدولة. الالتباس السائد لا يساعدها، ولا التجاذب الحاد بين موالاة ومعارضة. فضلا عن المناخ المروّع للحرب على غزة. فالوقت الآن للـ«مع» او الـ«ضد». انت ضد الدولة القامعة الفاسدة؟ اي مع فتح الحدود للجهاد؟ ام انك مع هذا النظام القامع الفاسد المتهالك، مع المشاركة في ذبح اهل غزة؟
«حسنا» يحيب احدهم «ولكن من قرر الحرب او السلم؟ الدولة تقرر السلم؟ والمعارضة تقرر الحرب؟ وانا؟ هل سألني احد رأيي؟ رأيي بالحروب السابقة؟ بإخفاقاتها؟ بالسلام الراهن؟ وبالحرب المقبلة؟ ثم هل سئل احد عن اخفاقات الحروب والسلام؟ اين هم مثلا من تسبّبوا بهزيمة حزيران (يونيو) 1967؟».
اذا كان الثمن الذي دفعته مصر من لحم ابنائها غير كاف، فما هو الكافي؟ ما هي اذاً العلاقة التي يراها المصريون غير المتحزّبين، والمتحزّبون، بين بلادهم وبين القضية الفلسطينية؟ على ماذا يتوافق المصريون من اجل فلسطين ودعوتهم للاختيار؟ اسئلة تفجرها الحرب على غزة، بقدر ما تفجر الاحزان.
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة