ماذا الذي ستفعله “حماس” بانتصارها على غزّة؟ كان في استطاعتها عمل الكثير بهذا الإنتصار، لو كان الإنتصار على غزة انتصارا حقيقيا يؤمن شيئا آخر غير توفير مجرّد استراحة لـلحركة الهاربة من أزمتها الداخلية المستفحلة.
استنادا إلى موازين القوى، ليس في استطاعة “حماس” تحقيق أي مطلب من مطالبها من دون وساطة مصر. كلّ ما في الأمر، أن الحركة التي خاضت حربا استمرّت خمسين يوما مع اسرائيل ستجد نفسها عاجلا أم آجلا مضطرة إلى مراجعة حساباتها وإلى الإعتراف بالواقع المتمثّل في سقوط مشروعها الذي لا أفق من أي نوع كان له.
مثل هذه المراجعة أكثر من ضرورية في ضوء الدمار الكبير الذي لحق بالقطاع وعدد القتلى الذي تجاوز الألفين، إضافة إلى أنّ الحركة كانت قادرة على وقف الحرب لو التزمت المبادرة المصرية منذ البداية. لم تقبل “حماس” بالمبادرة إلّا بعدما تبيّن أن لا لعبة أخرى غيرها في المدينة وأنّ ليس أمامها غير العودة إلى القاهرة، شاء من شاء وأبى من أبى من بين الذين يقفون خلفها…
كان هدف “حماس” من حرب غزّة الأخيرة نقل الأزمة التي تعاني منها الحركة، التي هي جزء لا يتجزّأ من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، إلى مكان آخر، إلى مصر تحديدا.
خسرت “حماس” رهانها الأوّل الذي قام على حدوث تغيير في مصر انطلاقا من غزّة. لم يكن لدى الإخوان المسلمين في مصر سوى نموذج واحد يقتدون به. هذا النموذج هو طريقة حكم “حماس” لغزّة منذ منتصف العام ٢٠٠٧ تاريخ انقلابها المشؤوم على السلطة الوطنية الفلسطينية. سيظلّ الإنقلاب يوما أسود في تاريخ النضال الفلسطيني من أجل إقامة الدولة المستقلّة نظرا إلى أن ما حصل كان محاولة لتكريس الإنفصال بين الضفّة الغربية وقطاع غزّة، وهو أمر لم تعترض عليه اسرائيل يوما.
لسوء حظّ “حماس”، لم يستمرّ حكم الأخوان لمصر سوى سنة واحدة. سقط مشروعها في مصر قبل سقوطه في غزّة. وهذا ما لم تفهمه أو تستوعبه. انتفض الشعب المصري على الإخوان في “ثورة الثلاثين من يونيو” ٢٠١٣. لم تقدّر “حماس” معنى خروج الإخوان من السلطة بعدما لفظهم المصريون وبعدما صار لمصر رئيس جديد منتخب من الشعب هو عبد الفتّاح السيسي.
لم تستوعب “حماس” خصوصا أنّ غزّة لا يمكن أن تُحرج مصر. كان رهانها على أنّ مصر ستتغيّر من داخل في ضوء ما يجري في غزّة. لذلك، كانت هناك رغبة قويّة في اطالة الحرب بغض النظر عن الخسائر التي تلحق بأهل القطاع الذين ما زالوا يعانون من نتائج حرب نهاية السنة ٢٠٠٨ وبداية ٢٠٠٩ وحرب ٢٠١٢ التي أشرف الأخوان في مصر على وقفها. توقفت حرب ٢٠١٢ لسببين. يتمثّل الأوّل في الرغبة القائمة لدى الإخوان بإسترضاء الإدارة الأميركية. أما السبب الآخر، فهو عائد إلى أنّ الإخوان المسلمين في مصر ارادوا تقديم أوراق اعتمادهم إلى اسرائيل. كانت غزّة مدخلا لتقديم أوراق الإعتماد الإخوانية إلى اسرائيل بهدف إظهار حسن النيّة تجاهها.
كان الرهان على احراج مصر الورقة الأخيرة لدى “حماس” التي لم تدرك يوما أن تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني نحو مزيد من التخلّف والبؤس ليس مشروعل قابلا للحياة. نسيت “حماس” أن الفلسطينيين قاوموا الإحتلال عن طريق العلم والإنفتاح على العالم. كانت مقاومتهم هذه في اساس بقاء القضية الفلسطينية حيّة طوال ما يزيد على خمسة وستين عاما.
جاء المشروع الوطني الفلسطيني القائم على حلّ الدولتين بمثابة تكريس لسنوات طويلة من النضال السياسي والعسكري اثبت وجود هويّة فلسطينية لا يمكن أن تُمحى. أثبت هذا النضال أن الفلسطينيين، كشعب، موجودون على الخريطة السياسية للشرق الأوسط.
كان الخطأ القاتل لـ”حماس” منذ ما قبل سيطرتها على غزّة مزدوجا. وفّرت لإسرائيل فرصة لتقول أنّ ليس هناك شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. كذلك، عملت كلّ ما تستطيع من أجل توظيف سيطرتها على القطاع في خدمة مشروع مرتبط بالخارج. المشروع مرتبط بجعل غزّة منطلقا للتغيير الداخلي في مصر من جهة وتحقيق الطموحات الإيرانية من جهة أخرى.
سقطت “حماس” في مصر قبل أن تسقط في غزّة. بدل أن تعترف بإفلاسها وسقوطها، تسعى حاليا إلى ممارسة عملية هروب من نوع آخر. تقوم هذه العملية على تحميل السلطة الوطنية مسؤولية الكارثة الأخيرة. من سوء حظّ “حماس” أنّه لم يكن هناك أي تجاوب فلسطيني، على الصعيد الشعبي، معها. كان هناك تعاطف مع عذابات أهل غزّة، ولكن لم تكن هناك أيّ رغبة الإنضمام إلى الحرب. رفض أهل الضفّة الإنضمام إلى حرب لا أفق لها بعدما تعلّموا من تجارب الماضي القريب. تعلّموا من هذه التجارب أن اسرائيل تلتقط أي فرصة لممارسة ارهاب الدولة وذلك بفضل ما تمتلكه من اسلحة متطورة…فيما العالم يقف موقف المتفرّج!
لم يعد لدى “حماس” ما تقدّمه للشعب الفلسطيني ولأهل غزّة. كانت الحركة ترفض في كلّ وقت أي مفاوضات مع اسرائيل، ما الذي تغيّر الآن كي يصرّح السيّد موسى أبو مرزوق، وهو من قادة “حماس”، بأن في الإمكان التفاوض مع “العدو الإسرائيلي” وأن الشرع لا يحرّم ذلك؟ هل دماء الشعب الفلسطيني رخيصة إلى هذا الحد؟ تنصّلت “حماس” من تصريحات أبو مرزوق، علما أنّه موجود بالصوت والصورة. هل يعكس هذا التنصّل مناورة أخرى ذات طابع سياسي هذه المرّة؟
تبيّن في نهاية المطاف أن مصر صامدة وأن مشروع استعادة الإخوان لمصر ليس واردا بعدما اتخذ الشعب المصري قراره بدعم من العرب الواعين على رأسهم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت والأردن.
في مصر سقط المشروع الإخواني. في مصر سقطت “حماس” التي تسعى حاليا إلى تغطية سقوطها المدوي عن طريق ابتزاز السلطة الوطنية، بما في ذلك التلويح بالدخول في مفاوضات مع اسرائيل. معنى ذلك أن “حماس” مستعدة لتجاوز منظمة التحرير الفلسطينية التي هي الواجهة التي تتفاوض السلطة الوطنية عبرها من أجل الإنتهاء من الإحتلال…
هل يمكن فهم كلام أبو مرزوق، ثمّ التنصّل منه، خارج هذا الإطار وخارج إطار اجبار السلطة الوطنية على دفع رواتب موظفي “حماس”؟ هؤلاء الموظفون هم أفضل تعبير عن مدى فشل الحركة في القطاع. إنّه فشل يقوم على منع الفلسطينيين من إقامة اقتصاد منتج ومجتمع حيّ.
تعتقد الحركة أنّ البؤس والعنف كفيلان بتحويل الفلسطينيين عبيدا لديها وأن شعبا بكامله يستطيع العيش على المساعدات الخارجية والتهريب. هل من أفلاس أكبر من هذا الإفلاس؟