جميلة هي القاهرة بتلوث هوائها ونفاياتها التي تصادفك أنى توجهت، وبآثارها العريقة المهملة والتي تفتقر لابسط شروط البنى التحتية للمعالم الأثرية السياحية، الى درجة ان احد الظرفاء المصريين قال لي “إن ما قاله الدليل السياحي من ان الامبراطور الفرنسي نابوليون اراد جدع أنف المصريين بجدع أنف احد ابرز رموزهم تمثال (ابو الهول)، ليس صحيحا، بل الصحيح ان ابو الهول جدع انفه بنفسه إحتجاجا على الروائح الكريهة المنبعثة في محيطه”.
ومع ذلك للقاهرة نكهة مميزة تشدك اليها والى الشعب المصري فتجد نفسك بين اهل وشعب ودود يحسن وفادتك على طريقته وبما ملكت الايدي، مع تأكيده ان التذمر الذي تشكو منه انت كسائح يبكي هو منه كمواطن.
فما يفاجيء في القاهرة جمعها متناقضات لا يمكن ان تجدها إلا في القاهرة!
فمنذ السادسة فجرا تكون الرؤية محجوبة بسبب غمامة الدخان المنبعث من عوادم السيارات، وهي غمامة يمكن ملاحظتها بالعين المجردة التي تحجب رؤية النيل المنساب بهدوئه التاريخي بين الابنية كما يمكن تنشقها في الطبقة السادسة عشرة من الفندق؟!
اما يوم الجمعة فهو نعيم حيث تحتجب السيارات (نسبيا) ما يسمح برؤية صافية لانعكاس ظلال الابنية في زرقة النيل كما تنحسر غمامة الروائح لتشتد لاحقا عندما تعود السيارات لانتهاك حرمة الشوارع والجو.
وكلما توغلت في القاهرة كلما اكتشفت اماكن واماكن تتفاوت تاريخيتها من ألآف السنوات قبل الميلاد حتى يومنا هذا مرورا بجميع العصور المسيحية منها والاسلامية بفروعها المختلفة الى الحملة الفرنسية الى الاستعمار الانكليزي مروروا بالخديوي اسماعيل حتى يومنا هذا فالكل ترك بصماته في القاهرة ولا تزال معالمها شاخصة للعيان ولكن …
أماكن عدة لا تقل اهميتها التاريخية عن بعضها البعض من الاهرامات التي لا تزال هندستها وسر بنيانها من أسرار العجائب السبع، الى المتحف القبطي الذي يضم المغارة التي لجأ اليها السيد المسيح والسيدة مريم العذراء ويوسف النجار عندما فروا من اورشليم هربا من هيرودس، الى المكان الذي صلى فيه النبي موسى آخر صلاة قبل ان يفر من مصر الفراعنة الى جامع محمد علي وقلعة صلاح الدين الى الحسين حيث يقال أن رأس الامام الحسين مدفون في المكان الى المتحف المصري الذي يختزن كنوزا لا تقدر بأهميتها التاريخية والثقافية وإسهامها الكبير في الإرث الحضاري للإنسانية، الى الفاطمية وابواب القاهرة السبعة الى خان الخليلي ومقهى الفيشاوي الى الى الى …….
اماكن واماكن زرتها واخرى لم يتسنّ لي الوقت لزيارتها تجمعها هموم واحدة سوء التنظيم وعدم الاهتمام كي لا اقول الاهمال الذي يبدو وكأنه متعمدا، إذ لا يعقل ان يكون جامع محمد علي الاثري الذي يضاهي “أيا صوفيا” متروكا على حاله كما تركه محمد علي تتآكله الغبار المتراكمة وأرضيته المتكسرة وإنارته المتداعية. ولا يعقل ان تفوح الروائح الكريهة من جوار الاهرام فتشكل عامل طرد للسواح وليس عامل جذب، ولا يعقل ان لا يكون جوار الاهرام سوى رمال من دون ارصفة وملعبا للخيل والجمال والباعة.
اما شوارع القاهرة فهي مكبات نفايات تنتشر فيها اضافة الى روائح المازوت ووقود السيارت رديء النوعية والإزدحام المروري الخانق إضافة الى العربات التي تجرها الحمير والتي تنقل ما تيسر من السواح وصولا الى النفايات.
اما في “الحسين” و”خان الخليلي”، فإذا وفقت بمكان للجلوس فإنك من دون أدنى شك لن تهنأ بجلسة، حيث سيداهمك الباعة ببضائع متنوعة وبوقاحة لطيفة على الطريقة المصرية يريدون فرض اتاوة عليك مقابل شراء بضاعة في معزل عن حاجتك لها؟!
والى ما سبق فلا تتفاجأ، اذا أوقفت سيارة تاكسي، بأحد المارة يفتح لك الباب مرحبا وبلطافة وكياسة مصرية فائقة التهذيب والاحترام مصحوبة بأدعية متنوعة من نوع (تفضل سيادتك، نورت مصر يا بيه، اهلا وسهلا حضرتك، كل سنة وانت طيب ….) والمطلوب واحد بقشيش غير مبرر لقاء فتح الباب من دون دعوة.
اما حكاية “كل سنة وانت طيب” فهي لسان حال طالبي المساعدة بطريقة لطيفة ومحببة ولكنها تصبح ممجوجة ولا تغري السياح الذين سيجدون انفسهم امام مئات الدعوات بطول العمر و…. الى درجة ان رفيقي في الرحلة قال لي ممازحا لا شك انك تشعر بفيض من الاحترام وتقدير الذات في القاهرة فانت طوال اليوم تسمع عبارات المديح وآيات الاحترام مقابل النذر اليسير من الجنيهات.
اما المشتريات السياحية منها وغير السياحية فهي تفتقر الى الضوابط بحيث تتبدل الاسعار كل متر حيث تتوجه في الشوارع او معظم المحال التجارية التي قد ترغب بالشراء منها، وهذا الامر له انعكاس سلبي على مشتريات السواح إذ أنه بالامكان ان تغش السائح مرة وليس كل مرة، وهذا ما يجعل السائح يفكر مئة مرة قبل ان يقدم على الشراء من جديد بعد ان يكتشف حجم الخديعة التي تعرض لها اول مرة.
اما نظام السير فهو يختص بالسواقين في القاهرة، ومن الافضل ان لا تكون سائقا او ان تجيد قيادة السيارة من الاصل، لانه في معزل عن الحالتين السابقتين ستصاب بنوبة قلبية كل دقيقة.
احد الظرفاء المصريين قال لي ان الوضع الذي وصفه بالمأساوي قد يكون متعمدا لجعل المصريين ينشغلون بيومياتهم بدل الاهتمام بالشؤون السياسية مستشهدا بما اوصى به نابوليون قادة جيشه حين قال لهم “من الافضل ان تجعلوا المصريين اكثر فقرا فتسودون عليهم فهم اذا ارتاحوا وشبعوا ثاروا”.
ومع ذلك للقاهرة نكهة خاصة فمقهى الفيشاوي والحسين والنيل وكل الاماكن التي زرتها وتلك التي لم ازرها أرغب بزيارتها من جديد مع الفارق انني في الزيارة المقبلة لن اكون فريسة سهلة.
في رحاب القاهرة
م. علي الشامي — aa.chami@hotmail.com
شكراً يا أستاذ كمال على هذه الكلمات المعبرة والتي تختصر الكثير، فكنت لبقاً وأوصلت الفكرة منمقةً ودونما تجن. ولنا لقاء