عرفتُ ماري كولفن في أواخر الثمانينيات. كانت ما تزال في بداية حياتها المهنية، وقد أرادت التخصص في شؤون العالم العربي. بيد أن دراستها في جامعة أميركية مرموقة لم تكن بالمؤهل المهني الكافي، كان عليها أن تمسك الثور من قرنيه، أي أن ترى الواقع عن كثب، قبل الاطمئنان إلى سلامة المعرفة.
وفي هذا السياق كان من المنطقي تماماً أن تقترب من الفلسطينيين، ففي حينها كانوا أحد اللاعبين الكبار في المنطقة، وكان في الاقتراب منهم ما يشبه “دورة الكادر” للباحثين عن معرفة أعمق بشؤون العالم العربي وشجونه.
صحيح أن منظمة التحرير الفلسطينية فقدت بعد الخروج من لبنان ورقة إستراتيجية (دفع ثمن الحفاظ عليها اللبنانيون والفلسطينيون، وعادت عليهم بويلات كثيرة) إلا أن الهالة التي ظللت رؤوس هؤلاء في معارك بيروت لم تكن قد بهتت بعد، كما عوّضت الانتفاضة الأولى، بالمعنى الاستراتيجي، خسارة بيروت.
في تلك الأيام أصبحت ماري كولفن وجهاً مألوفاً في مكتب الرئيس ياسر عرفات والأوساط القريبة منه. وكان عليها أن تدفع ثمناً متواضعاً مقارنة بما دفعته من ثمن في حمص يوم الأربعاء الماضي. ففي زيارة إلى الأرض المحتلة لتغطية أحداث الانتفاضة هشم حجر أنفها. وعل الرغم من انشغالها بتغطية أحداث أخرى في المنطقة والعالم، إلا أن شخصية ياسر عرفات ظلت جزءاً من اهتماماتها المهنية، وقد أنتجت فيلماً وثائقياً عنه قبل سنوات.
حتى هذا الحد لا شيء في سيرتها يميزّها عن صحافيين آخرين اقتربوا من العالم العربي، بهذا القدر أو ذاك. ولكن ربما نتكلّم عن مكانتها بطريقة أفضل، إذا استرشدنا بأفكار جوزف كامبل عن النماذج المشتركة لرحلة البطل في الميثولوجيا القديمة.
في سياق كهذا (وأود، هنا، التأكيد، أن البطل ليس الرجل بالضرورة، فالمرأة تتحلى بالصفات نفسها). يتلقى البطل، الذي يعيش حياة عادية، نداء المغامرة، ويمر بمرحلة إعداد initiation كما يقول كامبل، ومن المؤسف أننا لا نملك في العربية كلمة واحدة تفي بهذا الغرض، فهي تعني الإعداد، أو التدريب أو التكريس، للقيام بأمر جلل. ربما يحدث ذلك عن طريق المصادفة، ولكن في جميع الأحوال يكون الاستعداد لتلقي النداء، وسماع “صوت المنادي” حاضراً لدى المعني.
وقد يرفض النداء، ولكن إذا قبله انفتحت أمام ناظريه طريق تسكنها المفاجآت، والأهوال، والعجائب. وفي كل منها اختبار لقدرته على تذليلها، فإذا فعل وقطع الطريق سالماً تحقق الهدف، وقطف الجائزة، التي تعني معرفة أفضل بالنفس وبالعالم، وتعود على بني البشر بالنفع إذا سلك الطريق عائداً، رغم أن الإياب لا يقل مشقة عن الذهاب. وفي حالات بعينها يرفض العودة، أو تصبح مستحيلة، ليبقى أسير المغامرة، وعالقاً في الأسطورة.
ربما، في وقت ما في النصف الثاني من الثمانينيات، سمعت ماري كولفن “صوت المنادي” في تونس، وبيروت، أو في فلسطين، فأغواها النداء، وهي الفاتنة اللعوب الباحثة عن الجدارة والنجاح. لا أحد يسمع ذلك الصوت بطريقة واعية تماماً، وغالباً ما يأتي مشوّشاً ومسكوناً باحتمالات كسر رتابة اليومي والعادي لا غير. ولكن شيئاً فشيئاً يصبح الخروج على العادي واليومي مشروطاً باحتمال الخارق والاستثنائي. وهنا، بالذات، يتم قبول النداء أو رفضه.
في التسعينيات انفتحت الطريق التي مشت عليها ماري كولفن إلى الشيشان (الصورة)، وكوسفو، وزيمبابوي، وسيريلانكا، وسيراليون، وتيمور الشرقية. كان عليها مراقبة مشاهد القتل في حروب أهلية تتجلى فيها أبشع ما في سيرة بني البشر من كفاءة الشر.
والاختبار، هنا، مزدوج، لا يقتصر على حقيقة أن المراسل الحربي قد يتعرّض للقتل (وهذا ثمن باهظ في حد ذاته) بل يتجاوزها أحياناً إلى ألم الصدمات العصبية، والأرق والاكتئاب والكوابيس، وحتى كراهية الجنس البشري برمته. ومع هذا وذاك، ضرورة تحويل عويل الأمهات، وذعر الأطفال، وأنين الجرحى، ومشاهد جثث مقطعة الأوصال، وأصوات القصف، واليأس والبؤس، إلى موضوع للكتابة بمعايير مهنية صارمة.
عاشت ماري كولفن ذلك كله، وأكثر منه، وصولا إلى لحظة جابهت فيها اختبارها الحاسم في سيريلانكا قبل عشر سنوات، عندما قذف في اتجاهها جندي من القوات النظامية قنبلة يدوية تسببت في إعطاب إحدى عينيها. بيد أن فقدان العين لم يكن الثمن الأكثر فداحة، بل الصدمات النفسية، التي تستدعي تدخلاً طبياً من وقت إلى آخر.
اتخذت بعد تلك الحادثة قراراً لا يخطر على البال: اختارت بدلاً من عين زجاجية، أو نظارة تحجب العين المعطوبة، عُصابة سوداء وضعتها على عينها، كتلك التي اشتهر بها موشي دايان، والتي تظهر أحياناً في أفلام القراصنة.
شاءت الظروف أن نلتقي في السنوات الأخيرة في عواصم أوروبية مختلفة. ولم يكن من اللائق طرح أسئلة من نوع لماذا اختارت تلك العلامة. لا أحد يعرف كيف تتصلّب وتقسو ملامح الشاهد على كفاءة الشر لدى بني البشر إلا إذا عاشها. ثمة ما يشبه كتابة يخطها الزمن بحبره السري على الوجه، وفي اللغة، والذكريات، والنسيان، وسحابات غامضة تلوح في العين وتختفي، وفي الحيّز المكاني الذي يحتله الجسد يشع إحساس مُبهم يعيد التذكير بأسطورة قديمة. الشخص نفسه! ليس تماماً، فيه كل ما كان فيه، وليس تماماً.
ويمكن اليوم تفسير انطباع أوّل في لقاء بعد غياب:
ماري كولفن علقت في الأسطورة، وطريق العودة أصبحت مستحيلة، فالوجه والقناع أصبحا حارسين وشاهدين، يحمي أحدهما الأخر، يشهد له وعليه، لأن اللحم، كما يقول يسوع، ضعيفٌ أما الروح فقوية.
أخيراً، قطعت الأسطورة شوطها الأخير عندما تسللت ماري كولفن إلى حمص ـ التي يرتبط مصير الثورة السورية بمصيرها ـ ومنها أرسلت تقاريرها المكتوبة والمصوّرة والمسموعة عن كفاءة الشر لدى بني البشر، قبل أن تقتص منها مدافع بشّار الأسد.
بالمعنى الشخصي كان للخبر وقع الصاعقة، وبالمعنى العام أخذها “صوت المنادي” ولم يُعدها، لكن المغامرة عادت على بني البشر بالنفع العميم. ثمة صحافية اسمها ماري كولفن، سيسعى ما لا يحصى من المراسلين لاستلهام الشجاعة من سيرتها، فالحروب لن تتوقف غداً.
وفي يوم نرجو أن يكون قريباً، عندما يحرر السوريون بلادهم من آل الأسد، لن ينسى أحد أن امرأة اسمها ماري كولفن جاءت ورأت وشهدت، ومعها زميلات وزملاء شجعان، وأن العالم سمع ورأى. وهذا في حد ذاته، كما قالت، يستحق التضحية. وهذا، أيضاً، بعضٌ مما يُقال في رثاء ماري كولفن.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
Khaderhas1@hotmail.com
في رثاء ماري كولفن..!!
رثاء عاهر دخلت تهريب وماتت تهريب لا يرحمه الله والى الحجيم