لطالما شكلت الفيحاء الشمالية مادة دسمة للإعلام خصوصاً في أعقاب أحداث 7 أيار وإعادة تخصيب الصاعق المذهبي بين التبانة وبعل محسن والذي تصاعد على وقع الإنتفاضة السورية وتداعياتها قبل أن يتفق على تهدئة في إطار حكومة ربط النزاع بين القوى السياسية المنشطرة في البلد.
والطرابلسيون الذين استراحوا من تعداد جولات العنف، تأملوا طبعاً أن يتعرضوا لجولات تنموية بالمقابل تعوض المدينة جزءاً مما خسرته بعد أن بدأت أزمتها الاقتصادية تنعكس إغلاقا لمزيد من المؤسسات التجارية وتراجعاً مذهلاً في الإستثمار داخل المدينة، خصوصاً بعد خسارتها الجزء الأكبر من مرتاديها من الأقضية وأستمرار هجرة ونزوح فئات من شرائح الطبقة الوسطى، خصوصاً من الطوائف المسيحية، ونزوح بعض العلويين للضواحي في قضائي زغرتا والكورة، وبالمقابل فإن المدينة فاضت باللاجئين الهاربين من الأبوكاليبس السوري.
وإذ إستعادت أسواق المدينة بعضا من حركتها مع توقف العنف، فإنها ظلت قاصرة عن استعادة الأدوار التي خسرتها على مرالسنين، خصوصاً أن السنوات الأخيرة كانت قاسية بشكل استثنائي، إذ زادت نسبة الفقر والبؤس والبطالة وتدهورت الخدمات والبنى التحتية بشكل دراماتيكي، وخسر بعض الشباب في مناطق التوتر بعض “المداخيل الأمنية”.
لم يكن الهدوء شاملاً في المدينة، إذ إخترقته حوادث بين الجيش والمسلحين ووقعت عملية انتحارية مزدوجة في بعل محسن، كما رافق التدابير الأمنية بعض التشجنات وظهرت مشكلة ساحة كرامى- النورمجددا والتي تكاد تختزل الصورة النمطية للمدينة، حيث تستثمر بعض الفئات والمجموعات المتشددة في قضية المظلومية السنية المتصاعدة على وقع أزمات المنطقة، خصوصاً على وقع تعاظم الدور الإيراني وإيغال حزب الله في القتال ضد السوريين وفي منع إنتخاب رئيس للجمهورية وفي توزيع السلاح على المتزلمين تحت ستار سرايا مقاومة مزعومة باتت تقاوم رغبة الشعب السوري بالتحرر من الإستبداد وتساعد في دغدغة أحلام التوسع الإيراني. وفي المحصلة فإن حركة الساحة شكلت انتكاسة جديدة للمدينة التي كانت تأمل مزيداً من الحزم في تنفيذ قرارات رفع الصور والشعارات مقابل تخفيف التجاوزات الملازمة لشعار مكافحة الإرهاب الملتبس والتي تزيد من نسبة المظومية، ما يجعل المدينة تدفع ثمن هذا الإلتباس ضعفا في مناعتها المكتسبة، حيث يتعرض نسيجها الإجتماعي للتفتق عند كل هزة، كما يحصل في قضية إدارة الأعمال المستمرة فصولا والتي تأخذ طابعا طائفيا بغيضا وتؤدي لخسائر فادحة في بنية المدينة والجامعة، ولن ينفع كثيراً أن يردد البعض، بخبث أو بسذاجة، أن المدينة تحتضن شوراع المطران والكنائس ومار مارون وغيرها، فقد خلت هذه الشوراع من الجزء الأكبر من ساكنيها المتنوعين والذين شكلوا مكونا أساسيا في بداية خروج المدينة من مجتمع النهر نحو ساحة التل وإمتدادته وصولا للميناء.
وللمفارقة فإن”شعار قلعة المسلمين طرابلس”وضعته حركة التوحيد إلى جانب نصب الجلالة بعد أن تعاقب على نزع تمثال عبد الحميد كرامي يساريون وبعثيون عراقيون وصولاً لإسلاميي التوحيد الذين استفادوا من الصراع السوري الفلسطيني مظللين المدينة بغمامة سوداء نقلتها من المدينة المفتوحة على الآفاق إلى القلعة المشلعة على الفيالق والإهتزازات. والمفارقة الثانية أن النظام السوري الذي أسقط هذه القلعة واستتبع حركة التوحيد بالتعاون مع الجمهورية الإسلامية وأطبق على المدينة المقهورة قد حافظ على الشعار، وكأنه يقول هناك نموذجان، الإستبداد البعثي الفئوي وملحقاته أو التطرف الإسلامي ومنوعاته، وهذا ما ساهم بتشتيت القوى اليسارية قبل اندثارها شبه الكلي لأسباب متنوعة.
وإذا كانت مشهدية ساحة كرامي-النور قد سارت على إيقاع المظلومية السنية، فإن مشهدية المرآب- ساحة التل قد سارت على إيقاع البارانويا الطرابلسية، رغم اختلاف بعض العناصر التي شاركت في رسم المشهدين، إذ بدت الثانية أكثر قربا من حركة المجتمع المدني، بينما بدت الأولى أكثر إشهارا للعصبية السنية.
ورغم الطابع المدني الإجمالي الذي طبع حركة الإعتراض على مشروع المرآب والذي امتاز بحيوية ملحوظة استطاعت استدراج فئات واسعة من المهتمين وفاضت إلى حد كبير عن هدف وحدود الموضوع المطروح، إلا أن اختلاط المدني بالأهلي بالسياسي بالنقابي بالمهني بالشخصي شكل السمة الأبرز للتحرك، وعلى خلفية تنافس سياسي على الطريقة الطراابلسية!وهذا ما يساهم في عدم تحويل الحركة الإعتراضية إلى قوة دفع إيجابية لتحسين المشروع المطروح(تنفيذا وإدارة وتمددا نحو الواجهات والأبنية) وللدفع بالمطالب والمشاكل الإنمائية الأساسية التي لطالما تحلق حولها الطرابلسيون من كل المشارب والتي يحلو لهم أن يلخصوها بالميمات.
مرفاً- مصفاة- مطار- معرض- منطقة إقتصادية – مدينة جامعية- مطمر–محطة التكرير– محطة القطار- محطات التسفير.
ورغم تلمسنا للشخصانية والتسييس التي شابت التحرك، إلا أننا نبدي إعجابنا بهذه الحيوية الطرابلسية التي تترافق مع فيض من النشاطات الثقافية والعلمية والفنية والنقابية والرياضية والتي تشكل جاذباً لشرائح طرابلسية وشمالية ولبنانية وتعيد الأمل للطرابلسيين بإمكان كسر صورتهم النمطية التي عززتها جولات العنف والمناكفات العبثية، مما يذكرني بحجم الجهد الذي بذلناه حين أطلقنا حركة المدينة الجامعية في المون ميشال. إذ كان علينا أن نجتاز حقول الألغام على أنواعها من أجل جذب وتوحيد كل المكونات والأطياف وهذا ما نعتقد أن المدينة تحتاج له هذه الأيام. علماً أننا لا نلوم البعض كثيرا على مقاربتهم العدمية لمشروع المرآب إذ أن الحرمان والمظلومية يضربان جذورهما عميقاً في علاقة المدينة بالوطن منذ تأسيس الكيان ويتحولات إلى رهاب البانورايا، ذلك أنها خسرت دورها تدريجياً لصالح بيروت و جبل لبنان خلا بعض النهوض في عهد فؤاد شهاب.
ومع خسارتها للمصفاة وتحول المعرض الفريد عمرانيا إلى شبه خردة، وتراجع حركة المطالبة بمطار القليعات، ومع التنفيذ المريع لبعض المشاريع كالإرث الثقافي والبنى التحتية وعدم تشغيل محطة التكرير وتحول المطمر إلى قنبلة موقوته ومع الحركة السلحفاتية في البناء الجامعي وعدم تعيين مجلس إدارة للمنطقة الإقتصادية وتفعيلها، فضلاً عن تراجع هائل في الخدمات الإدارية و البلدية وتراجع في بنى المدينة، كالطرقات والنظافة والسير والصحة والغذاء والتعليم، نكون أمام لوحة سوريالية من اعوامل الإحباط، خصوصا في الأحياء الفقيرة، إذ أن المدينة تكاد تصبح عدة مدن تفصل بينها خطوط تماس إجتماعية، علما أن حركات الإعتراض المدنية والأهلية تحمل في داخلها جزءاً من أمراض النخب الطرابلسية المتوارثة والمتفاقمة بعد تفكك الحركات الحزبية والسياسية العابرة للمذاهب، رغم أن بعض الفئات اليسارية قفزت لمراكب المجتمع المدني.
وأخير أرى تسجيل الملاحظات والإشكاليات التالية:
أولاً: كل المكونات و المنوعات تجمع على أنه لا عودة جدية للمدينة دون عودة قلبها للخفقان الطبيعي، و”التل” ومتفرعاته الكثيرة وصولاً للمدينة المملوكية والأسواق القديمة يشكلون رئة لهذا القلب .
ثانياً: إذ ينفخ البعض على اللبن لأنه مكوي من الحليب، وتزداد شكوك وهواجس البعض الآخر نتيجة
ضعف الثقة بالطبقة السياسية وبالنخب عموما، فإن الجميع مدعوون لوقف هذا النوع من العصف الذي
فاض عن الكوب الطرابلسي حتى وصل الهذيان بجريدة الأخبار “باستصراح” البعض بان المرآب يخدم
الإرهاب! ولم يكن هذا ممكنا لو لم تحول بعض القوى المرآب المسكين متراسا في معركة التناتش السياسي.
ثالثا: لا أحد يعتقد أن نزع شعار قلعة المسلمين طرابلس أو حتى عودة تمثال كرامي إلى ساحته ورفع إسم
الجلالة على أعلى مرتفع في المدينة كما يقترح كثيرون سيغير الكثير، رغم أنه سيؤشر إلى طي صفحة
ملتبسة من تاريخ المدينة. كذلك لا أحد يظن أن تنفيذ المرآب مع كل التحسينات المطلوبة سينتشل
المدينة من القعر، علما أنه قد يشكل خطوة إلى الأمام إذا ما أحسن التنفيذ والصيانة والإدارة وإذا استطاع
شفط السيارات إلى داخله و تحويل بعض الشوارع للمشاة. فحتى “سوليدير”، رمز الإعمار، تترنح تحت ضغط
القوى الحاقدة والتي تتربص شرا بالبلد، علما أن واقع “التل” ومحيطه يختلف عن واقع الوسط التجاري
البيروتي والذي دمر في الحرب الأهلية وأعاد الحريري بناءه عبر “سوليدير”، بينما “التل” عامر بما تبقى من
أهله، ولكنه متداعٍ بسبب الأحداث والتجاوزات والمخالفات ونزوح المؤسسات والقطاعات الوازنة إلى أمكنة
أخرى، ما يطرح أسئلة جدية حول قضية إعادة النهوض في التل، بما يتجاوز قدرة أي مخطط توجيهي على
الإجابة الشاملة.
رابعا: ربما وجب علينا التواضع والإعتراف بواقع الحال حيث أننا نشكل جزءا من الأزمة، إذ نعتمد
المقارنات ورهاب المؤامرة، عوض تظهير مكامن القوة التي تعيد توحيد المدينة باعتبارها العاصمة
الشمالية التي لا يمكن أن تستغني عنها أقضيتها التي تظل محدودة القدرات والطموحات، ما يعني أن
مصيرها مرتبط عضويا بمصير المدينة. وهذا يطرح قضية تمدد طرابلس الكبرى،خصوصا باتجاه رأس
مسقا حاضنة المدينة الجامعية وصولا للقلمون ساحلا. وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى تطوير (أو بالأحرى
إلى وقف انحدار) منطقة الوسط عبر وقف التجاوزات على أنواعها وتفعيل وتوسيع قصر نوفل الثقافي في
التل باستملاك كل المحلات الملاصقة ووضع مشاريع ونشاطات متواضعة ولكن جاذبة للسير وللمشاة
عوض استحضار روح السرايا التي هدمت والنفخ فيها كبديل وهمي لن يكون سوى كتلة باطون دون أي
قيمة تراثية.
لا نضمر بالطبع رغبة في تخفيف إيقاع حركة المجتمعين المدني والأهلي، بل نتمنى أن تصب حركتهما في
المجرى المؤدي للمصب الإيجابي لكل القضايا التي ذكرناها، خصوصا اننا ممن يؤمنون بميزات اقتصادية
تفاضلية للفيحاء تؤهلها لأداور مهمة، بما فيها التكنولوجيا الناعمة، لوجود مركزالألياف البحرية فيها. ويمكن
أن تتهيأ أيضا، إذا أحسنا الإستعداد لدور في إعادة إعمار سوريا “حين يتوقف هدمها”، فضلا عن ميزاتها
الجغرافية والتراثية والآثارية باعتبارها حاضة المدينة المملوكية، علما أنها تتمدد في بقعة جميلة على المتوسط
وتكاد تلامس الجبال الشمالية الفائقة الروعة.
وربما ننهي مقالنا بدعوة القوى السياسية إلى وقف استعمال
المدينة ومشاكلها وقضاياها متاريسا في معاركها العبثية، إذ لم ترتح بعد كثيرا من المتاريس العسكرية
والأمنية وتداعياتها المستمرة حزنا ودمارا وتوقيفات، علما أن التنافس السياسي غير الموضوعي يؤدي إلى
مزيد من الإرباك والتجاذب داخل المجتمع المدني الطربلسي، وندعوهم كما فعلنا دائما للتعاون الصادق في
قضايا الإنماء والإستقرار في المدينة المأزومة.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس – لبنان