المثقف، في تقديري، هو الشخص الشجاع، الذي لا يخشى أحدا في طرحه الفكري النظري، ولا يتراجع عن ترجمة ذلك إلى واقع عملي في الحياة العامة والخاصة.
ونزع الخوف من نفس الإنسان كفيل بحصوله على جرأة تساعده في طرح مشاكله وقضاياه والبحث عن حلول لها دون رهبة من أحد أو من سلطة. ليس هذا فحسب بل سيصبح الإنسان معتدلا في طرحه بحيث يحسب حساب الآخرين الذين ينافسونه، وهذا هو الذي يساعد على طرح حلول للقضايا والمشاكل بوسائل غير قائمة على التخويف.
والشجاعة في الطرح الفكري تعني التنوير، أي جرأة البحث والتفكر، والخروج من دائرة التقليد الطفولية. وفيما يعتقد البعض أن الشجاعة الفكرية أهم من الشجاعة المرتبطة بترجمة الفكر إلى واقع عملي، يعتقد آخرون عكس ذلك، إذ يرون أن عدم التردد في تنفيذ الأفكار هو دليل بارز على الشجاعة. وفيما يعتقد الطرف الأول أن بعض التنويريين، الذين استطاعوا أن يثوروا على واقعهم الفكري القديم، هم من يستحقون بحق وصف الشجاعة، يرى الطرف الثاني أن التنفيذ هو بمعنى تحمّل الإقصاء والتهميش، والسجن والتعذيب والتهجير.
وإذا كانت الأفكار تعتبر من أهم الأسس التي يستند إليها الشخص التنويري في تحديد هويته الفكرية، تعني الشجاعة النظرية عملية بناء هذه الهوية انطلاقا من التغيير والنفي المستمر لما كان يعتبر “صعبا” من الأفكار القديمة التي كانت في وقتها “عصيّة” على التغيير والنفي.
وإذا كان التنويريون يتبنون أفكارا من عناوينها الرئيسية الدفاع المستميت وبشتى الطرق عن الحريات في المجتمع، ثم “يتسحلف” بعضهم بالسير في هذا الطريق ويتخاذل في دفاعه عن تلك الأهداف، يجب اعتبار هؤلاء غير منتمين إلى التنوير.
ولعل الدفاع عن حرية الرأي والتعبير في مجتمعنا يعتبر من أبرز المسائل الراهنة التي يجب أن تكون همّ التنويريين، إذ من يتقاعس عن اعتبار ذلك همّا، ما عليه إلا الخروج من هذا النادي الفكري وتغيير هويته الفكرية.
وإذا كان هناك من السياسيين، سواء في مجلس الأمة أو في خارجها، من يسعون بكل ما يمتلكون من إرادة وعزم وشجاعة في سبيل إصلاح بعض الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم لا يحركون ساكنا، أو أنهم يتحركون بخجل، إزاء الأوضاع المتعلقة بحرية الرأي والتعبير، وإزاء الحريات بشكل عام، فإنهم بذلك ينفون عن أنفسهم أي صفة تنويرية.
لذلك، على التنويريين مواجهة أي مسعى لجعل حرية الرأي والتعبير “ممصلحة”، بمعنى معارضة أن تصبح تلك الحرية “أسيرة” لظروف سياسية معينة، أو أن يوصف ناقدو الأوضاع السياسية والاجتماعية بأنهم “تمادوا” في طرحهم، أو أن يرهن البعض موقفه المعارض لحرية الرأي والتعبير – كبعض المواقف المتعلقة باعتقال الكاتب محمد عبد القادر الجاسم الذي أطلق سراحه بكفالة مالية الاثنين – إلى “الدستور” بوصفه هدفا لا يجب أن يمس، لا بوصفه وسيلة لتحقيق مزيد من الحريات، إذ لو لم يتحقق هذا المزيد من الحريات فإن السعي لتنقيح الدستور هو المسؤولية الأولى التي يجب أن تلقى على عاتقنا.
ومن المسؤوليات الأخرى أيضا، مواجهة أي مسعى لـ”أدلجة” قضايا الحريات، إذ الأدلجة ستكون باعثا للدفاع “بشروط” عن تلك القضايا، ومن أبرز تلك الشروط ألا تتصادم قضايا الحريات مع الثقافة الشعبوية السياسية والاجتماعية والدينية المسيطرة على المجتمع، إذ ستنتهك الحريات باسم الدفاع عن العادات والتقاليد (أدلجة اجتماعية) أو باسم الدفاع عن الدين (أدلجة دينية) أو باسم الدفاع عن الدستور (أدلجة سياسية). فالتنويري يتحمل مسؤولية ألا تكون رؤيته للقضايا النابعة من فكره النظري، ومنها نظرته إلى مسألة الحريات، قائمة على الخوف والخنوع والمصلحة والأيديولوجيا، وإلا سيفقد أحد شروط التنوير وهي الشجاعة.
ولا يمكن أن نصف الأكاديميين المنتمين إلى الكليات والمعاهد العلمية في المجتمع بأنهم تنويريون في حين لم يتحركوا ولو خطوة جريئة واحدة للدفاع عن حرية الرأي والتعبير. فلم نسمع عن اعتصام جرى أو بيان واضح وقوي صدر من قبل الجمعيات الناطقة باسم هؤلاء الأكاديميين يدافع بشفافية ومن دون أي لبس عن الأهمية الإستراتيجية لحرية الرأي والتعبير في البلد. لذلك فإن هذه الجمعيات قد لا تعتقد بأن الحرية هي السلاح الذي لابد أن تعتمد عليه في إبراز دورها العلمي الجريء والشفاف وغير الخاضع لأي ظروف. فنتائج البحوث العلمية لا يمكن أن تكون ذات تأثير على المجتمع من دون حرية رأي وتعبير واضحة وجريئة وشفافة.
كذلك، جمعيات النفع العام، وعلى الخصوص جمعية الصحافيين وجمعية حقوق الإنسان، تتحمل مسؤولية أي تراجع لأوضاع حرية الرأي والتعبير في البلد. لكن تلك الجمعيتين، على الخصوص، أثبتتا من خلال بياناتهما ومواقف أعضائها وكتاباتهم في الصحف، أنهما خارج إطار الدفاع عن هذا النوع من الحرية، ومواقفهما المتذبذبة تشير إلى أنهما بعيدتان عن أي شجاعة يتطلبها شأن الدفاع، لذلك لا يمكن وصف مواقف أعضائها بأنها مسؤولة وجريئة وشفافة في دفاعها عن قضايا الحريات.
إن الدفاع عن حرية الرأي والتعبير لابد أن يظل أحد أسس السير في طريق الديموقراطية، ومن يريد أن يحيد عن هذا الطريق يبدو كأنه لا يريد للديموقراطية أن تكمل مشوارها في البلد. فعلى النخب المثقفة أن تكون مدافعا صلبا عن مبدأ حرية الرأي والتعبير وأن تقف في وجه بعض الممارسات، الحكومية وغير الحكومية، الهادفة لخدش هذا المبدأ. فبعض تلك الممارسات، الصادرة على وجه الخصوص من بعض الصحف المحسوبة مواقفها على الحكومة، تلعب دورا خطيرا في ضرب هذا المبدأ من حيث تدري ومن حيث لا تدري. فنجدها تدافع عن الموقف الحكومي في إطار “سيناريو” يتصادم مع الدستور، ما يجعل الطرف الآخر المختلف عاجزا عن لعب دوره الناقد. كما أنها تؤجج الوضع السياسي، طائفيا وقبليا، بحيث يؤدى ذلك إلى التحذير من “الفتن”، في حين أن أحد سبل العلاج من “الفتن” يكمن في كيفية طرح القضايا والمسائل موضع الاختلاف بحيث لا يؤثر ذلك على مبدأ حرية الرأي والتعبير ولا يؤدي بنا إلى التحذير من “الفتن”. لذلك، فإن تضعيف موقع هذا المبدأ في المجتمع من شأنه أن يقوي من فرص صعود بنى خطيرة إلى الواجهة باعتبار أنها نتاج لحرية الرأي والتعبير، في حين أنها لن تكون إلا عدوة للحريات، كالبنى الطائفية والقبلية، إذ من شأنها أن تهدد مسعى تشكيل المجتمع المدني التعايشي.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
في الدفاع عن حرية التعبير في الكويت
Mohammed — momorning.breezekw@gmail.com
أفهم جيداً الخيارات المنحازة للعادات أو الدين، ولكن لا أفهم كيف يمكن للاستناد لدستور، الذي في جوهره يدافع عن الحريات يعتبر ذلك إنحيازاً ايديولوجيا؟! الموضوع الآخر الذي لا أفهمه هو الصمت المطبق في المقالة، أو السكوت عن قضية الرأي الكبرى اليوم في الكويت، ألا وهي قضية الكاتب محمد الجاسم! والتي كان يمكن الاستناد إليها بإمتياز للتدليل على عدد من القضايا التي تم طرحها. مقالة ممتازة تنقصها بعض الشجاعة
في الدفاع عن حرية التعبير في الكويت معين تليس — kata962@hotmail.com عزيزي الكاتب, “المثقف، في تقديري، هو الشخص الشجاع، الذي لا يخشى أحدا في طرحه الفكري النظري، ولا يتراجع عن ترجمة ذلك إلى واقع عملي في الحياة العامة والخاصة” المقدمة هي تحديد خاطىء للمثقَف. لا أعتقد أنك تريد نزع صفة المثقف عن المثقف الجبان… “ونزع الخوف من نفس الإنسان كفيل بحصوله على جرأة تساعده في طرح مشاكله وقضاياه….” هنا أيضا اخطأت في تحديد الجريء أذ أن الشجاع هو من ينتصر على خوفه بالرغم من أني اتفق مع ارائك ألا أن الانطلاق من تحديدات خاطئة تفقد المقال قوة التحليل العلمي. مع… قراءة المزيد ..