عكار (شمال لبنان) – بيسان الشيخ الحياة – 17/08/07
«ما عدنا نريدهم بجوارنا. صار بيننا وبينهم دم وثأر» قال أبو رشيد وهو رجل ستيني من بلدة ببنين الشمالية بحقد وغضب على سكان مخيم نهر البارد من اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا ذات يوم يعيشون في وحدة حال مع أبناء البلدات المحيطة بمخيمهم.
ولا يقتصر رفض إعادة إعمار المخيم وعودة سكانه المتوزعين على مخيم البداوي وبعض المدارس الرسمية في طرابلس على أبي رشيد بل هو شعور عام يتشاطره أبناء المدينة والريف العكاري على حد سواء. حتى أن دور العزاء الكثيرة التي فتحت بعد سقوط شهداء للجيش في تلك القرى رفضت استقبال المعزين من جيران الأمس، وحملتهم مسؤولية المعارك التي تدور على مقربة منهم وتبتلع أبناءهم. وتعود النقمة على الفلسطينيين إلى شعور بالخيبة بعد أن كان مخيم نهر البارد أكثر المخيمات انسجاماً مع محيطه. فهو سوق تجاري رئيسي وخزان يد عاملة في الحرف والزراعة، احتضنه أهالي المنطقة وتصاهروا مع عائلاته، إضافة إلى قتال كثيرين منهم في السابق إلى جانب الفلسطينيين دفاعاً عن قضيتهم. وقال أبو محمد الرفاعي الذي رفض تعريفه بأي تسمية غير والد الشهيد، بعدما استشهد ابنه أسامة، إنه لو «كانت لدى الفلسطينيين نية صادقة بالعيش بسلام معنا لما استقبلوا العصابة ومنحوها ملاذاً آمناً وسلاحاً لتذبح أولادنا وهم نيام». ولدى والد الشهيد ابن آخر يقاتل في المخيم، واثنان مرافقان للواء أشرف ريفي وطفل يناهز العاشرة نقل عنه بفخر أنه «يريد أن يكبر ويصبح جندياً ويحمل بندقية أخيه الشهيد ليكون مثله». وأضاف وهو كان بدوره جندياً ذات يوم «ارتدت مدرسة الاونروا في المخيم، حيث لم يكن عندنا مدارس بعد، وأخذت شهادة البريفيه في 1966 وكنا نعيش معهم كالأخوة. لكنهم خذلونا». واقترح شاب آخر من ببنين رفض الكشف عن اسمه لأنه موظف حكومي أن ينقل المخيم إلى مزارع شبعا. وقال «هناك يصبحون أقرب إلى فلسطين وقد يطمحون بالعودة إليها لأنهم على ما يبدو استغنوا عن هذه الفكرة. فهنا في عكار لا تصلهم رائحتها… والبعيد عن العين بعيد عن القلب!».
أما نقمة أهالي المدينة على اللاجئين الفلسطينيين فمردها سنوات من الحرمان اعتقدوا أن الفلسطينيين لم يعانوا خلالها. ففي منطقة باب التبانة وقف مصطفى الزعبي أمام باب محله المغلق بسبب الظروف وقال: «الفلسطيني ليس في حاجة إلى العمل لأن صناديق المؤن تصله إلى بيته من الأمم المتحدة نفسها، والمدارس فتحت عندهم قبل أن نعرف شكلها، وهم على خلاف ما كنا نعتقد أغنى الأغنياء». وفي حزام البؤس هذا مدرسة ابتدائية استقبلت النازحين من المخيم هرباً من القصف، لكن العداء بلغ بأهل المنطقة مبلغاً جعلهم يمنعون على الوافدين الجدد فتح البوابة أو اعتلاء النوافذ. «مسموح فقط بدخول ما يصلهم من مساعدات أما وجوههم فلا نريد أن نراها» قال صاحب مقهى مقابل للمدرسة.
ولا تجدي نفعاً مع هؤلاء الساخطين محاولة القول إن غالبية مقاتلي «فتح الإسلام» هم من غير الفلسطينيين وغرباء كلياً عن مخيم نهر البارد، فـ «والد الشهيد» يجد أنه «يكفيهم سوءاً أنهم استقبلوهم». ويضيف: «لعل إغراء المال لا يقاوم لدى شبان يعانون البطالة والفقر خصوصاً إذا ترافق مع شعارات دينية رفعوها كتحرير القدس. لكن القدس لا تحرر من عكار». وتلقف أبو رشيد الحديث وقال: «لو أنهم ذهبوا إلى العراق لفهمنا أنهم يريدون قتال قوات محتلة، لكنهم جاءوا ليقتلوا أولادنا». أضاف: «لعل فكرة الجهاد في العراق هي ما أغرت السعوديين بالانضمام إلى العصابة. فهم ليسوا في حاجة إلى المال كغيرهم لنقل أنهم خضعوا لإغراءات مادية، لكنهم ربما في حاجة إلى قضية». وبعد برهة صمت أضاف: «أما السوريون فمرسلون بتكليف رسمي للتخريب».
وإن لم يبد على الرجل أي قدرة على تحليل وضع معقد أو استخلاص حكمة من هذا النوع، إلا أن أقواله لقيت ترحيباً وسط الحاضرين، لما يعرف عنه بينهم من اختلاط بـ «الوجهاء».
وفي حر تلك الظهيرة التي شابها كثير من سخام القصف المدفعي المتعالي من أزقة المخيم، تجمع أهالي ببنين على الشرفات والسطوح يتابعون مجريات الأحداث، كما دأبوا منذ ما يقارب الثلاثة أشهر هي عمر اندلاع المعارك بين الجيش اللبناني وعصابة «كافر العبسي» كما صاروا يطلقون على رأس تنظيم «فتح الإسلام» شاكر العبسي.
ومن هناك، من على تلك السطوح، بالعين المجردة حيناً وبالمناظير أحياناً راح الأهالي يترقبون أخبار الأبناء والأحفاد والأزواج فيما الفتية الصغار يتقافزون من حولهم بلا أي شعور بالخوف من صوت المدافع والطلقات النارية المسموعة بوضوح على امتداد القرى الساحلية. أبو رشيد واحد منهم، فابنه جندي في الجيش اللبناني كحال غالبية شباب ببنين وقرى عكار. فذلك القضاء المترامي بين مدينة طرابلس والحدود السورية، شبه منقطع عن بقية الأراضي اللبنانية لأسباب كثيرة ليس أقلها أن غالبيته السنية عانت تهميشاً سياسياً واجتماعياً متعمداً خلال فترة الوجود السوري. ومنعت عن تلك القرى الزراعية أي خدمات تربطها بـ «الدولة»، إلا المؤسسة العسكرية التي امتصت القوة العاملة فيها، فشكل شبانها غالبية المنتمين أو الطامحين بالانتساب إليها. وإذا ما أعاد ذكر عكار وبلداتها إلى المخيلة الشعبية شيئاً فهو بالدرجة الأولى «الجيش» الذي ينضوي تحت ألويته فرد على الأقل من كل بيت، وصنف من الأجبان اشتهرت به المنطقة يدعى «شنكليش». ولأن الجندية في عكار مهنة تتوارثها الأجيال كأي حرفة أخرى، تعتمد إلى جانب العمل الزراعي، فإن جل ما يتمناه اليافعون هو حجز مكان لهم في طوابير المتقدمين سواء كأنفار أو كضباط صف، مسخرين لتلك الغاية العلاقات والإمكانات والوساطات كافة.
لكن الأهالي الذين صاروا يجاهرون اليوم بعدائهم للحقبة السورية ورموزها ملقين عليها وزر سنوات الحرمان الطويلة، يعترفون لتلك المرحلة أيضاً بقدرتها على شل وإجهاض أي محاولة لنشوء حركات سنية أصولية، أو سلفية جهادية. فبعد قمع حركة التوحيد في طرابلس التي انتمى إليها كثيرون من منطقة باب التبانة المتحدرون أصلاً من قرى عكار، وعلى أثر اعتقال قادة الحركة وشيوخ سلفيين انكفأ ذلك النشاط إلى داخل بعض المساجد والمدارس والمعاهد الدينية. وطغى على المنطقة طابع الأحزاب العلمانية من قومية وشيوعية وقلة من البعثيين. وأخيراً أضيف التيار الوطني الحر الذي تشكل غالبية المنتسبين إليه من قدامى الجيش وأبنائهم ممن شبوا على روحية عسكر نظامي يقاتل ميليشيا القوات اللبنانية. لكن تلك التركيبة المختلطة لم تمنع نشوء عصبية سنية كانت كامنة وظهرت جلية غداة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. فتحولت المنطقة مرة أخرى إلى خزان لـ «تيار المستقبل» يستقي منها جمهوره وحشود تظاهراته بعيداً من نخب رجال الأعمال المدينيين والمهنيين الجدد. ويقدم التيار في المقابل لتلك القاعدة الشعبية، حيزاً في الحياة السياسية ودوراً في «الدولة» حرم منه سابقاً. سوى أن تلك العصبية بقيت على شيء من الاعتدال وريفية البيئة المنسجمة مع اختلافاتها الدينية والمذهبية. فكانت عصبية طارئة على حياة العكاريين، حديثة عليهم وغير متأصلة فيهم. لذا، حتى بعد خروج السوريين من لبنان وارتياح عدد من التيارات المحظورة سابقاً والتصريح الرسمي لبعضها الآخر ممن يسعى إلى قلب النظام المدني من الداخل وإقامة الخلافة الإسلامية، لم تشهد عكار فورة جماعات وحركات كالتي شهدتها مدينة طرابلس مثلاً وضواحيها كأبي سمراء والقلمون والتبانة.
وتجلت تلك العصبية بنوع من التعاضد والتكافل الاجتماعي كأن يشتري المرء حاجياته من متجر «ابن الطائفة»، أو يتطبب لدى أطبائها، من دون أن تتخذ أشكالاً عدائية تفرز بين كافر ومؤمن.
وقد يبدو تبرؤ أهالي بلدة مشمش من شهاب القدور، الرجل الثاني في تنظيم «فتح الإسلام» والمعروف بـ «أبي هريرة» ضرباً من الكليشيه إذا ما قوبل بإعلانهم الصريح عن ولاء مواز للحكومة اللبنانية والجيش. إلا أنه وعلى رغم ما ينطوي عليه من فلكلورية، يبقى واقع الحال في تلك البلدة الجبلية. فالأهالي لا يجهدون كثيراً في إثبات أن شهاب وأهله «مربَى التبانة» كما يقولون بمعنى أنه ولد ونشأ خارجهم. ويبدو ذلك من بديهيات الأمور لديهم حتى أنهم لا يستفيضون كثيراً بالكلام عنه كونهم عملياً يجهلونه ولم يسمعوا عنه قبل اندلاع معركة البارد.
ووسط تلك التحولات كلها لم يتنبه أحد إلى تحولات أخرى طرأت ببطء على مخيم اللاجئين الفلسطينيين المجاور. ففي ذلك الوقت كان المخيم بدأ يعج بمسلحين غرباء عن أبنائه، أطلقوا اللحى ونقبّوا النساء ومنعوا التسريحات العصرية بين الشباب رافعين شعار «نصرة السنة». وجاءت التسمية «فتح الإسلام» مدغدغة لمشاعر غالبية «فتحاوية» سابقاً إسلامية حالياً، فلم تسترع الانزعاج أو الحذر من الوافدين الجدد، خصوصاً مع ما تردد في البداية من بحث عن حالة سنية توازن التسلح الشيعي المتمثل بـ «حزب الله». لذا فإن تلك البيئة بقيت متقبلة «للشباب المؤمن» طالما أن نشاطه لا يطاولها. حتى أن استعادة بسيطة لملاحظات الأهالي في تلك الحقبة غير البعيدة، تفضح اطمئناناً لـ «شباب خجولين لا يرفعون أعينهم إلى امرأة». أما وقد وصلت السكاكين إلى أعناق الجنود، فبدأ العداء المترافق بأقوال أنهم «عصابة» وأنهم هم «الكفار» وصار قتالهم من هذا المنطلق بالذات واجب على الجنود من أبناء المنطقة قبل غيرهم. وليس إصرار «ابو الشهيد» على تأكيد ان ابنه كان يخدم في فاريا عندما اندلعت الاشتباكات وألح على المسؤولين لنقله إلى الجبهة إلا مثالاً بسيطاً على تلك المسؤولية الجديدة.
وفي جولات على قرى كببنين ومشمش والمنية وبرقايل لم يظهر في الشارع السني في عكار أي ميل للبحث عن ذرائع للتنظيم، فبالنسبة إليهم «السنة ليست في حاجة الى من ينصرها» كما قال أبو رشيد. الأمور في الأرياف واضحة وحاسمة. إما مع أو ضد. وهم في هذه المعركة في صف «الدولة» كما يؤكدون وإن كان في كلامهم بعض العتب من إرسال أبنائهم للقتال بـ «اللحم الحي» ومن دون سلاح كاف.
أما في التبانة فالمشهد أكثر تشرذماً وهو يعكس التناقضات التي يعيشها سكان أحزمة البؤس المحيطة بالمدن. فبين ولاء لآل الحريري ومن وراءهم الدولة اللبنانية، وبين شعور عميق بأن هذه الدولة لم تنصفهم يوماً، تعقدت الأمور. فهم اليوم يجدون أنفسهم مؤيدين لجيش لطالما كانت علاقتهم به متوترة وتقتصر على الاعتقالات العشوائية وفض نزاعات الشارع بالسلاح. ووسط صور عملاقة للرئيس رفيق الحريري، وأخرى لـ «شهيد السنة والعرب» الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وأبو مصعب الزرقاوي، تتداخل الانتماءات.
فأيمن مثلاً الذي لم يتجاوز العشرين من عمره يقضي اليوم معظم وقته في مكتب «تيار المستقبل» الواقع وسط الشارع العام في التبانة. هناك يجلس إلى جانب شبان آخرين يرقبون حركة المرور من دون عمل فعلي يقومون به. قال أيمن قبل أن يسكته مسؤول المكتب إنه لو كان «جندياً لما استطاع أن يحارب سنياً آخر. فهؤلاء مجاهدون لكنهم جاءوا في توقيت خاطئ ومكان خاطئ، ومكانهم الحقيقي في العراق». وتسري في التبانة أحاديث كثيرة عن أن عناصر «فتح الإسلام» «جروا إلى معركة لم يريدوها وأن وجهتهم الحقيقية كانت العراق، لكن شركاً نصب لهم». واعتبرت رواية أخرى أنه لم تقع معركة قرب القلمون وإنما أرسل إلى الخلية طعام مسموم مع الراعي بمثابة الغدر بأناس اختبأوا في البرية ولم يؤذوا أحداً.
وإن أعلن أبناء التبانة ولاءهم للجيش اليوم، إلا أنهم لا يزالون يرتابون من أي زي رسمي. فذلك يعني بالنسبة إليهم التوقيف والتعرض للضرب. لذلك يكرر الجالسون في المقاهي رواية عن شهيدين للجيش سقطا في بداية المعارك وأحدهما من منطقة القلمون، تم غسلهما بخلاف ما يعامل الشهداء. وبرأيهم أن العائلة عملت عن حق، بمشورة أحد رجال الدين القائلة إن الجنود «إنما كانوا يقاتلون مؤمنين ولا يجوز غسلهم».
قد لا يكون العداء المستجد ضد الفلسطينيين والرغبة في التخلص منهم القاسم المشترك الوحيد بين مزاج سني مديني وآخر ريفي. فهناك فقد الجميع ثقته بالتصريحات الإعلامية والسياسية القائلة بأن الحسم بات وشيكاً أو ان المعركة ستنتهي قريباً. فوسط غبار زقاق في ببنين ركض عجوز يقبل رأس جندي عائد من الجبهة في أول مأذونية منذ 23 يوماً. راح يهنئه بسلامته ويقبله دامعاً فيما الشاب مذهول لا ينطق بكلمة. ثم استدرك العجوز قائلاً: «يا ابني لا تتعب نفسك… إنهم في أنفاق عرفات التي تقاوم الطيران الإسرائيلي، فكيف تتغلبون عليهم… المهم أنك عدت سالماً». صدح هاتف الجندي برنة «لا إله إلا الله» فأسكته واعتذر ومضى إلى عائلته.