مازلت أفكر فى مفهوم الوطن. أحاول التوصل لتعريف بعيد عن التعريفات الأنانية التي حفظناها من منهج الدراسة وكتب السياسة. ما زلت أقف عند الحدود متمردة على عطائى اللامحدود.. أنتظر عطاء الوطن.. أنتظر أن يعلن عن بذخه وعطاءاته. يذكر جيداً بذخ أبنائه عليه من دمهم وأموالهم. يذكر كيف وافق على نهب ثرواتهم وحصرها داخل طبقات الندرة تاركاً الجوع يلف البقية. ثم وقف مفاخراً بإحصاء أرواحهم مخترعاً تقديس أسمائهم. أتمرد مع علمى بأنى لن أحصد شيئاً منه لسبب بسيط. أنه لم يكن أبدا هناك لأجلى، أو أنه غير موجود. كيف أحاكم متهماً غير موجود؟
من الناس من اعتبر أن مفهوم الوطن مجرد بدعة ثقافية.. إذ هل كان لآدم وطن؟ وهل ارتبط الأنبياء بوطن فلزموه؟ هم المعروفون بهجراتهم وسياحتهم بأرض الله الواسعة بعد أن نبذتهم مجموعاتهم وقبائلهم، لكننا بعد أن رُسمت الحدود العربية، صار مهماً أن نتغذى على قيم الاستقرار المختلفة. أصبحت تنشئتنا على مسألة وجود الوطن وحب الوطن دون غيره مطلباً مهماً لترسيخ قيم الرضوخ والخنوع والانبطاح المطلق أمام الدولة. أما الحدود الجغرافية التى تخالف وتخنق الطبيعة البشرية فصارت أساساً لبسط حدود أخرى فكرية وقانونية ودينية.
مقالى عن خيانة الوطن لأبنائه، أثار بيننا مسألة تعريف الوطن. كان رأيه أن انتقادى يجب أن يكون موجها لأصحاب المسألة، للدولة بمؤسساتها ونظامها السياسى الذى فرض ذلك الخنوع. بمعنى أن أفصل فى حديثى ما بين النظام وما بين الوطن الذى يجسد المكان العريق والأرض والسكان والأصحاب والشارع والجيران وكل شىء جميل. قلت له إن الوطن يشمل كل من بداخله، الأرض والنظام الاجتماعى بأعرافه وتعقيداته. ويشمل أبناءه وقوانينهم ونظمهم وعاداتهم وطرق تفكيرهم وتعاطيهم مع بعضهم البعض. لذا أنتقد الوطن الخائن ككل، لا النظام وحده. مستحيل الفصل بينهما لأن النظام فى النهاية جزء من الوطن، أفراده لم يأتوا من كواكب أخرى، بل من داخل مساكننا. النظام نموذج عن المجتمع كما العائلة نموذج عن النظام، كما الأب الحاكم نموذج عن الحاكم العربى.. أليس كذلك؟
هل يسمح الأب بالمشاركة فى الحكم؟ هل يسمح الأخ بتفرد أخته فى قراراتها؟ الاستبداد يلفنا من النواة حتى رأس السلطة.
حين أصف الوطن وجبروته لن أختصره فى أرض أو تاريخ وكل ما هو بديع، كما لن أختصره فى نظام حكم، بل هو برأيى مجموعة متكاملة مترابطة من أجزاء، ما كان الوطن ليكون عادلاً أو ظالماً لولا تكاتفها سوياً.
سأسألك سؤالا: لمَ انتشرت الطائفية اليوم؟ ولمَ التطرف؟ ولم َعادت العنصرية والقبلية؟
صحيح أن النظام يتدخل أحياناً بدهاليز الثقافة، فيشجع الفرقة القبائلية والدينية والعنصرية والطائفية والفكرية، بصفتها دعامات لاستمراريته، وتقول نظرية المؤامرة إن الفرقة صناعة غربية أو إسرائيلية.. لكن كيف بارك أفراد الوطن ذلك السقوط الثقافى لو لم يكونوا جزءا من تركيبته؟
توصل هو لما سماه وطناً متعدد الخيانات، يفضل قبيلة على أخرى، ويحابى منطقة على بقية المناطق، ويميز بين عرق وآخر، وأفراد عن آخرين. وفكرت فى أن الآخرين لم يشعروا أساساً بالانتماء لذاك الشىء الذى فصّله المستعمر وسماه دولة عربية، لم يشعروا بأن عليهم الإخلاص للمساحة التى حددها الأوروبى. بقيت الجماعات المتوحدة تحت راية الوطن متفرقة بالداخل وتنظر لبعضها بفوقية وازدراء وعنصرية، لكنها مجبرة على الرضوخ للقانون السائد الذى فرض نفسه بالعافية وكل سلاح.. فما إن لاحت بوادر السقوط، فى العراق مثلاً، حتى تكشفت الكراهية وتقاتلت المجموعات التى لم تتوحد يوماً.. فأين وطنها؟
أفراد جدد يرون فى الجماعة وطناً، وفى الطائفة وطناً، وفى العقيدة وطناً، لكن الوطن بمفهومه الدارج فى منهج الدراسة وكتب السياسة لم يشكل لهم أى معنى، بدليل تغليب مصلحة المجموعة أو الفرقة والطائفة والقبيلة على حساب الوطن ككل.
ملايين أخرى آمنت بالوطن وصدّقته واقتنعت به ودافعت عنه، لكنها الآن تبحث بعشوائية عن ملاذ فى قبيلة أو عقيدة بعد أن اكتشفت أن ملاذ الوطن خطر غير آمن.
لم يعد البعض مقتنعا بفكرة الدفاع عن أملاك الدولة، وكما ذكرت بمقالى السابق، فاحتمالات تقسيم السودان وتغيير حدودها الجغرافية يجب أن يعيد تفكيرنا فى مغزى الدفاع عن الأنظمة التى تتعارك اليوم وتتصالح غداً، وعن الحدود العربية التى تتغير وتتبدل. فى النهاية هى مجرد خطوط جغرافية وهمية وجمارك نظامية ونقاط تفتيش سياسية تتفحص المارّين كالمجرمين. فهل تستحق الموت؟
التشتت الذى يحدث فى العالم العربى، بحثاً عن هوية جديدة لأسباب كثيرة منها الاقتصادى ومنها السياسى، أثبت أن ما يسمى الوطنية ينكمش ويتدهور فى العالم العربى حتى يكاد يختفى، وأثبت أن الوطن العربى بذل الكثير لإخراج أبنائه لديار الهجرة، ومنهم من أخرجهم لديار التطرف. لن أشارك بالقول إن كل العيب يقع على أبنائه، فلو أنه كان حاضنة رحيماً لما قرر أحد الانفلات منه وكرهه لدرجة تخريبه وتفجيره.
هناك كاتب يابانى كتب مذكراته بعد أربعين عاما من الحياة فى الشرق الأوسط. حاول بها فك طلاسم أفعال المواطن العربى فى الشارع العام بتجاوزه الأنظمة ورميه القاذورات بالشوارع والحدائق العامة متعمدا. كان استنتاجه أن المواطن يقوم بذلك كوسيلة انتقامية من البلد الناكر، ومن البطالة والفقر، ومن الحكومة، ومن كل ما يغضبه. هكذا تصبح علاقة المواطنة بالأوطان الطاردة.
nadinealbdear@gmail.com
• كاتبة من السعودية
اللوحة: “فوق المدينة” لمارك شاغال
في الأوطان الطاردة (1)علي الخليفي قبل التوصل لمعرفة من الخائن..الوطن ام مواطنه.. يجب ان نسأل اولاً: هل يوجد وطن ومواطن؟هل الصيغ المطروحة حالياً لهذه الاقطاعيات الدينيه والعسكريه تصلح ان تحمل صفة وطن؟ وهل هذا المُهمش الّذي ليس له إلا السمع والطاعة والخضوع لقوانين أرباب هذه الإقطاعيات، هل يصلح هذا المهمش أن يحمل صفة مواطن؟ المواطنة فعل إختياري ينشأ بإرادة حُرة للإنسان عبر إنتسابه إلى وطن يكون هو من ابتكر كل قيمه وقوانينه ومنظومتها الحاكمة وبذلك تكون طاعته لهذه المنظومة هي في المحصلة طاعة لنفسه. نحن لم نتوصل بعد الى هذه الصيغة والصيغ المطروحة في منطقتنا لا تصلح ان تحمل صفة… قراءة المزيد ..