منذ هزيمتها في الحرب العالم الثانية، إخطـّت اليابان لنفسها سياسة خارجية بعيدة عن المغامرات والتشنجات والإثارة، حيث إتصفت مواقفها بالهدؤ والعقلانية حتى فيما يتعلق بنزاعها التاريخي مع روسيا حول جزر الكوريل، وخلافاتها الإيديولوجية مع نظام مشاغب مثل نظام بيونغيانغ الستاليني. وبالمثل، حاول اليابانيون بنجاح ألا يحول تاريخهم المعقد مع الصينيين أو مطالبة كل منهما بالسيادة على جزر “ديايو/ سينانكو” (أرخبيل مكون من ثماني جزر صغيرة في شرق بحر الصين، لا توجد على سطحها سوى الصخور والأحراش، فيما باطنها يحتوي على كميات من النفط والغاز، علما بأن تايوان تطالب بحق السيادة عليها أيضا وتسميها “تياويوتاي”) دون إرتباطهما بعلاقات إقتصادية وتجارية بينية مفيدة للجانبين.
غير أن ما إنفجر مؤخرا من أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين البلدين الجارين، على إثر مطاردة قوات خفر السواحل اليابانية للسفينة الصينية “مينجيو5179” وإحتجاز قبطانها و14 من بحارتها في أوائل سبتمبر الماضي، أثار أسئلة لا نهاية لها حول حقيقة الحادثة، وتوقيتها، ودواعي التصعيد الإعلامي حولها، خصوصا وأن مثل هذه الحوادث تكررت مرارا في الماضي، وخصوصا زمن الحرب الباردة، لكن دون أن تؤدي بالعلاقات اليابانية – الصينية إلى مرحلة التأزم والحروب الإعلامية المتبادلة، وتبادل الاتهامات الشنيعة.
فمن الأسئلة التي أثيرت ولا يعلم أحد أجوبتها الحاسمة سوى طوكيو وبكين: ماذا كان أكثر من 160 سفينة صينية يفعل في المياه المحيطة بجزر “ديايو/ سينانكو” المتنازع عليها بين البلدين منذ عقود طويلة حينما داهمتها قوات خفر السواحل اليابانية؟ وهل كانت تلك السفن مجرد سفن لصيد الأسماك أم أنها كانت سفنا للتجسس وجمع المعلومات عن مسارات الغواصات اليابانية أوالغواصات الأمريكية المتطورة ذات الرؤوس النووية التي نشرتها واشنطون في المياه الآسيوية منذ يونيو الماضي، وشوهدت في مياه خليج “سوبيك” الفلبيني ومياه “دييغو غارسيا” في المحيط الهندي، وميناء بوسان الكوري الجنوبي؟ وهل قامت السلطات اليابانية بتحذير ربابنة تلك السفن قبل مهاجمتها أم خرقت القواعد المتعارف عليها دوليا؟ وماذا كانت ردود أفعال الربابنة، بمعنى هل أنهم تعاونوا مع تحذيرات اليابانيين أم أنهم عرقلوا مهمة قوات خفر السواحل اليابانية كما تدعي الأخيرة؟
ومن الأسئلة أيضا: هل للأزمة علاقة بصراع الأجنحة داخل الحزب الديمقراطي الحاكم في طوكيو، ولاسيما ما بين جناحي رئيس الوزراء الحالي “ناوتو كان”(معروف عنه أنه من أشد المدافعين عن فكرة إضطلاع جيش الدفاع الياباني بدور خارجي – على الأقل في منطقة المحيط الباسفيكي – يتلاءم مع قوة بلاده العلمية والإقتصادية) ورئيس الوزراء الأسبق السياسي المخضرم “أميتشيرو أوزاوا”؟ وبعبارة أخرى هل أن البحرية اليابانية وجدت في هذا الصراع فرصة للتمرد على التقاليد المتعارف عليها، فأخذت زمام المبادرة لخلق أزمة دبلوماسية مع بكين تبعد بها انظار الرأي العام الياباني وإهتماماته عن أزمة الحزب الحاكم؟ وهل أن الصينيين تعمدوا تفجير أزمة مع خصمهم التاريخي مباشرة بعد بلوغ بلادهم المركز الثاني في سلم أقوى الإقتصاديات في العالم بعد الولايات المتحدة، وذلك من أجل إبلاغ رسالة مفادها أنهم قادرون على تحقيق مراتب عالمية متقدمة على الصعيد العسكري أيضا، بمعنى أن هيمنتهم العسكرية على منطقة شمال وجنوب شرق آسيا ليست سوى مسألة وقت؟
بعيدا عما سبق، لكن في السياق ذاته، تساءل البعض قائلين : هل هي مجرد مفارقة أن تنفجر الأزمة بعد وقت قصير جدا من تصريح وزيرة الخارجية الإمريكية “هيلاري كلينتون” الذي قالت فيه أن جزر “سبارتلي” (مجموعة من الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي تدعي بكين وبعض دول جنوب شرق آسيا مثل الفلبين وماليزيا وتايوان وفيتنام وبروناي حق السيادة على كلها او بعضها نظرا لموقعها الاستراتيجي وما تحتويه من ثروات معدنية، علما بأن الصينيين حتى عام 1988 لم يولوا أي إهتمام بها رغم أنها كانت مسرحا لموقعتين حربيتين بينهم وبين الفيتناميين في عامي 1974 و 1988 ) تمثل أهمية إستراتيجية للولايات المتحدة وحليفاتها في المنطقة؟ وهل هي أيضا مجرد مفارقة أن تأتي هذه التطورات مباشرة بعد رفض بكين المشاركة في مناورات بحرية إمريكية – كورية جنوبية في المياه المحاذية لسواحل كوريا الشمالية؟
الأمر الملاحظ في هذه الأزمة أن طوكيو، التي كان بإمكانها ألا تعلن عما حدثت أسوة بما فعلته أيام الحرب الباردة لولا إعتقال قواتها لقبطان السفينة الصينية وبحارتها، حاولت قدر الإمكان تجنب التصعيد، إنطلاقا من المصالح الإقتصادية المتشعبة التي تربطها بالصين (بلغت قيمة التبادلات التجارية بينهما حوالي 147 بليون دولار في النصف الأول من العام الجاري فقط، مع ملاحظة زيادة صادرات اليابان للصين عن صادراتها للولايات المتحدة وبلوغ الأولى نحو 20 بالمئة من إجمالي الصادرات اليابانية للعالم)، وحفاظا على التقدم السريع الذي تحقق مؤخرا على صعيد بناء الثقة بعد توقف قادة طوكيو عن زيارة “ياسوكوني” حيث مقابر جنودهم الذين قضوا في حروب البلاد الإمبريالية. ويشهد على محاولات طوكيو تجنب التصعيد، عدم تحمسها لمحاكمة القبطان الصيني، ومسارعتها إلى إطلاق البحارة الأربع عشرة، ناهيك عن إطلاق سراح القبطان لاحقا، ودعوتها الصين إلى الروية والتصرف بحكمة خوفا من فلتان العواطف والمشاعر القومية، على نحو ما فعله “نورييكي شيكاتا” المتحدث الرسمي بإسم رئيس الحكومة، وعلى نحو ما أجمعت عليه مختلف الصحف اليابانية الكبرى في إفتتاحياتها المعتدلة.
غير أن الصينيين لأسباب غير معروفة، أو ذات علاقة بتزايد الشعور القومي المضاد لليابانيين، أو ذات علاقة بنفوذ متزايد لقادة الجيش الأحمر داخل دوائر صنع القرار الصيني، مارسوا التصعيد منذ اليوم الأول للأزمة. فمن تعليقهم للإتصالات البينية رفيعة المستوى، إلى تأجيلهم محادثات كانت مقررة في منتصف سبتمبر المنصرم حول الإستغلال المشترك لحقول الغاز الطبيعي في بحر الصين الشرقي، إلى إلغائهم لمناورات مشتركة مقررة غرب جزيرة أوكيناوا، إلى إتهامهم اليابان بخرق قانون البحار الدولي، إلى تهديدهم بإتخاذ إجراءات حازمة وشديدة ضد طوكيو تشمل قطع التعاون في مجالات حماية البيئة والإنتشار النووي والطاقة، وإعاقة طموحات طوكيو في لعب دور دولي أكبر من خلال مجلس الأمن الدولي، إلى إلغائهم إستقبال ألف شاب ياباني في معرض “إكسبو” الدولي في شنغهاي، إلى إستدعائهم للسفير الياباني في بكين “يو إيتشيرو نيوا” ست مرات إلى مقر وزارة الخارجية الصينية، إلى تكليف صحفهم الرسمية بشن حملة تحريض ضد المسئولين اليابانيين والبضائع ذات المنشأ الياباني، إلى إنتهازهم ذكرى الغزو الياباني لمنشوريا في عام 1931 لدفع الجماهير إلى تظاهرات قومية الطابع في بكين وشنغهاي وهونغ كونغ وشينغيانغ، إلى ترديدهم مقولات لا تستند إلى حقائق مثل: أنه لولا الأسواق الصينية لبارت الصناعة اليابانية، فيما الحقيقة هي أنه لولا التكنولوجيا اليابانية لما حققت الصين تقدمها الصناعي الراهن، وصولا إلى إعلانهم عن عدم نية رئيس الحكومة الصينية “وين جياباو” الإلتقاء بنظيره الياباني “ناوتو كان” على هامش الإجتماعات السنوية الحالية للأمم المتحدة، معللين السبب بعدم ملاءمة الأجواء حاليا للدخول في حوار مع جيرانهم.
ويقول بعض الخبراء والمحللين تعقيبا وتعليقا على ردود الفعل الصينية الحادة، أن قادة بكين بهكذا تصعيد أثبتوا ضعفهم في مواجهة صقور الحزب الشيوعي الحاكم والجيش الأحمر الذين يفضلون المواجهة مع الولايات المتحدة الإمريكية وحليفاتها الآسيويات، وعلى الأخص منهن اليابان، وذلك على خلاف من يسمون بالحمائم بقيادة الرئيس “هو جنتاو” ورئيس حكومته “وين جياباو”، والذين يرغبون في التوصل إلى حلول منطقية وعقلانية مع كل دول الجوار، بل لا يمانعون حتى في تقديم بعض التنازلات للأمريكيين على أمل جني مكاسب أعظم في المستقبل.
وعلى حين يؤكد هؤلاء الخبراء أنه من الصعب قياس مدى قوة الصقور والحمائم داخل دوائر صنع القرار في بكين بسبب التعتيم والطبيعة الشمولية للنظام الصيني، فإنهم من جهة أخرى لا يترددون في القول أن الكفة مائلة لصالح الصقور، وخاصة حينما يتعلق الأمر بقضية طرفها الآخر هو اليابان. ولا حاجة لنا في هذا السياق التذكير بأن أهم ما جعل “ماوتسي تونغ” بطلا شعبيا في نظر الجماهير، رغم عنفه وشراسته، هو مواجهته وتصديه لليابانيين، وأن أكثر ما جعل الصينيين ينظرون إلى الزعيم الوطني الماريشال “تشيانغ كاي شيك” (مؤسس تايوان) كرجل متخاذل وجبان هو تعاونه مع اليابانيين.
إن الحقيقة التي لا جدال فيها أن كل المنطقة المواجهة لسواحل للصين تتداخل فيها الحدود البحرية وتنام على وقع إدعاءات أطراف عدة للسيادة عليها، إلى درجة أن أي دولة من دول المنطقة بإمكانها إطلاق مطالب أو إتخاذ إجراءات عملية لتعزيز تلك المطالب مثل إرسال طائرات للتحليق أو غواصات للتجسس أو سفن صيد لرفع الأعلام، وهو ما تم التحذير منه مرارا خوفا من إشعال أزمات ذات تداعيات وخيمة على السلام، أو تجييش عواطف الجماهير المشحونة سلفا بمظالم تاريخية تعرضت لها.
والحقيقة الأخرى غير الخافية على متابعي شئون شمال شرق آسيا هي أنه في حقبة الحرب الباردة كان بالمقدور، من خلال توازن القوى في العالم، منع وقوع مثل هذه الأزمات أو التصدي السريع لتداعياتها، أو على الأقل تعمد إخفاء تفاصيلها عن الرأي العام.
elmadani@batelco.com.bh
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين