تحت عنوان “صنع في الصين يواجه تحديات صعبة” كتبنا قبل فترة مقالا خلصنا فيه إلى أن انتشار الفساد الإداري وأساليب الغش التجاري وصور الاحتيال الصناعي في المستويات المتعددة لأجهزة الدولة ومؤسساتها وفي شركات القطاعين العام والخاص، إضافة إلى البحث عن الثراء السريع في أوساط رجال المال والأعمال الصينيين، تسبب في ضرر كبير للمنتج الصيني وأدى إلى تشويه سمعته وظهوره في الأسواق العالمية كرديف لكل ما هو سيء وسريع العطب وغير معمر. وفي هذا السياق ضربنا أمثلة من واقع ما حدث لمنتجات مصنعة في الصين استوردتها دولا عالمثالثية مثل إطارات السيارات التي تسببت في حوادث مميتة على الطرق، وبطاريات الهواتف الجوالة التي انفجرت في وجوه أصحابها، والرافيولي والأرز الملوثين بمبيدات الحشرات، ومعجون الأسنان المخلوط بمواد مضادة للجليد، وأدوية السعال سيئة التركيب، ومواد التجميل التي تسببت في ظهور البثور والالتهابات على الأجساد، والتوصيلات الكهربائية التي فجرت مبان وبيوت أولئك الذين استخدموها.
جودة الصناعة الصينية إلى السطح مرة أخرى
واليوم تأتي فضيحة وفاة أكثر من رضيعين صينيين ومرض 1253 رضيعا بل إصابة أكثر من 12 ألف طفل – بحسب إحدى الروايات – بأعراض تتراوح ما بين وجود حصى في الكلى وعسر البول والقيء، جراء تناولهم لحليب مجفف ملوث بمادة الميلامين من إنتاج شركات صينية (22 شركة منتجة للألبان أبرزها شركات منغيو وييلي وغوانغ مينغ) لتعيد موضوع جودة الصناعة الصينية إلى السطح ومعها مدى مسئولية الدولة في الضرب على يد المفسدين والباحثين عن الثراء السريع، بل مدى دورها الرقابي والإشرافي على القطاع الصناعي بمجمله. والمعروف أن الميلامين عنصر كيميائي يستخدم في صناعة المواد البلاستيكية واللاصقة، وهناك مادة تشتق منه ويشيع استخدامها في صناعة المبيدات الحشرية تحت اسم “سيرومازين”، غير أن الميلامين يحظر استخدامه في صناعة المواد الغذائية سواء تلك الموجهة لاستخدامات البشر أو الحيوان، لأنه بحسب الدكتور بيتر يو أستاذ علم الأحياء التطبيقي والتكنولوجيا الكيميائية في جامعة هونغ كونغ التقنية يسبب حصوات الكلى ومشاكل كلوية أخرى على المدى الطويل، لكن ممتهني الغش والاحتيال في القطاع الصناعي كثيرا ما يلجأون إلى استخدامه لإخفاء الحليب المخفف ولإعطاء انطباع للمستهلك بأن المنتج غني بالبروتين، وذلك على نحو ما تم في العام الماضي حينما استخدمت شركات صينية هذه المادة في صناعة أغذية للكلاب والقطط مخصصة للتصدير إلى السوق الأمريكية، فكانت النتيجة نفوق آلاف الكلاب في الولايات المتحدة جراء إصابتها بفشل كلوي حاد. وكذلك على نحو ما حدث في عام 2004 حينما توفي 13 رضيعا على الأقل في إقليم هيبي بشمال الصين بعد تناولهم لحليب مجفف مزيف من إنتاج شركة “سانلو غروب”. الأمر الذي أثار المواطنين، فلم تجد السلطات حلا لتطييب خواطر الأمهات اللواتي رفعن أصواتهن بضرورة محاكمة وإعدام المتسببين في الفضيحة سوى إقالة أربعة مسئولين محليين بعد اتهامهم بالإهمال والتسيب.
إنجازات صناعية يشهد لها العدو قبل الصديق
وبطبيعة الحال، لا أحد هنا يجادل في ما بلغته هذه البلاد منذ قيام جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر/تشرين الأول 1949 من تقدم صناعي وما حققته من إنجازات يشهد لها العدو قبل الصديق في تصنيع كل ما يمكن أن يخطر على بال المراقب، من الكماليات والأثاث إلى الملابس، ومن الأغذية والدواء إلى الأجهزة الكهربائية المنزلية والالكترونيات، ومن وسائط الاتصالات و وسائل المواصلات إلى الأسلحة وألعاب الأطفال، غير أن بكين مطالبة اليوم أن تحافظ على هذا الرصيد من الإنجازات، ليس عن طريق معاقبة بعض البيروقراطيين بالسجن أو الفصل الوظيفي أو الإعدام. فمثل هذه العقوبات جربت ولم تثمر عن نتائج فعالة. وإنما عن طريق إتاحة قدر اكبر من الشفافية والحريات التي إذا ما تم منحها للصينيين، لما تأخرت أخبار الفضائح والفساد في الوصول إلى المستويات القيادية العليا في الدولة أو في الحزب الشيوعي الحاكم في بكين، ولتجنبت بكين تقريع ولوم المنظمات الدولية مثل منظمتي الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) اللتين طالبتا الصين بإجراء تحقيق شامل و بتقديم بيانات كاملة عن الحدث المأساوي الأخير، خاصة في ظل ورود تقارير أفادت بأن التاريخ الدقيق للتسمم الناجم عن تلوث الحليب غير معروف، وربما يعود إلى أشهر خلت، الأمر الذي يحمل اتهاما ضمنيا لبكين بحجب معلومات خطيرة عن العالم على النحو الذي فعلته السلطات الصينية سابقا أثناء انتشار وباء الطيور.
خسائر مالية جمة للشركات الاستثمارية الموظفة للعاطلين
والحقيقة أن فضيحة الحليب المجفف لم تضرب فقط الصناعة الصينية في مقتل، ولم تشوه المنتج الصيني أكثر مما شوهته الفضائح المتتالية منذ عام 2004 ، ولم تحرم آلاف الأمهات الصينيات من فلذات أكبادهن في بلد يحدد النسل بقوة القانون، ويجعل أمر حمل المرأة لطفل ذكر حلما يراود الأسرة لسنوات. وإنما تسببت أيضا في خسائر مالية لشركات استثمارية كبرى من تلك التي تساهم في توظيف الآلاف من العاطلين مثل شركة “ستارباكس” الأمريكية التي قالت أنها أجبرت على إغلاق العديد من فروعها أو أجبرت على تقديم قهوتها المتميزة دون حليب بسبب إعلان الحكومة الصينية أن الحليب الذي تستخدمه الشركة هو من منتجات شركة ” منغيو” – إحدى الشركات المتهمة بالجريمة. إلى ذلك تسببت الفضيحة في تبادل الاتهامات ما بين حكومتي بكين و ولينغتون، حيث قالت الأخيرة التي تملك – عبر مجموعة فونتيرا النيوزيلندية – نسبة 43 بالمئة من أسهم شركة “سانلو غروب” الصينية المتورطة في إنتاج الحليب السائل والمجفف واللبن الزبادي والمثلجات الملوثة، أنها هي التي تدخلت لسحب الحليب الملوث في تاريخ مبكر، لكن السلطات الصينية لم تكترث وتباطأت، بل وسعت للتغطية على الأمر على مدى أسابيع، مما ساعد في ارتفاع أعداد الضحايا.
فضيحة الحليب تسلب الصين بعض بريق إنجازها الاولمبي
الأمر الآخر الذي لا بد من الإشارة إليه، هو أن هذه الفضيحة تأتي مباشرة بعد ما حققه الصينيون من سمعة مذهلة وريادة في مجال الرياضة والتنظيم اللتين تجسدتا في ما قدموه من عروض وما حققوه من انتصارات خلال دورة 2008 الاولمبية، فبدا كما لو أن فضائح الجودة الصناعية تسلب البلاد وشعبها ما يحصدونه من بريق في المجالات الأخرى، لكن دون دعمنا لنظرية المؤامرة التي يحلو للبعض ترويجها في هذا السياق، ومفادها أن الغرب يقف وراء كل عملية تستهدف النيل من الصين. حيث ثبت من هذه الفضيحة وما شابهها طوال السنوات الماضية أن جشع بعض رجال المال والأعمال في الصين وتحايلهم على القانون والمعايير أو عدم التزامهم بالضوابط المهنية – إضافة إلى تهاون وفساد بعض المسئولين – هو السبب لا أكثر ولا أقل!
عمليات القرصنة الصناعية هي المسئولة!
وبكلام آخر يلعب ما يسمى بعمليات القرصنة الصناعية دورا محوريا هنا. وهذه العمليات ليست سوى قيام شركات متعددة الجنسيات باستئجار مؤسسات صناعية صينية من ملاكها لأجال محددة وبغية تصنيع سلعة ما كأن تكون مئة هاتف خليوي في اليوم مثلا. وهنا بدلا من تشغيل المصنع على ورديتين كل واحدة منها لمدة ثمان ساعات لإنتاج السلعة المرغوبة بالكمية المحددة، يلجأ المستأجرون إلى تشغيل المصنع وردية إضافية ثالثة لإنتاج المزيد من السلعة المذكورة وان كانت بمواصفات اقل جودة ومتانة، ثم يقومون بتصدير تلك الكمية الإضافية إلى الخارج من الأبواب الخلفية وعن طريق شراء ذمم بعض المسئولين في المنافذ البحرية والجوية.
الصين تساهم في تصنيع 65 بالمئة من الإنتاج العالمي للسجائر
ويقال أن أكثر المنتوجات الصينية المزيفة بهذه الطريقة هي السجائر التي تساهم الصين فيها بنسبة 65 بالمئة من إنتاجها العالمي، أو بعبارة أخرى تنتج 35 بليون سيجارة، تصدر منها إلى الخارج نحو 30 بليون سيجارة. فهذه السلعة، فضلا عن كونها مميتة أصلا ومسببة للسرطان وأمراض الرئة، فان الغش في عملية صنعها التي غالبا ما تحدث في مصانع منزلية بدائية وقذرة وبعيدة عن رقابة السلطات، يؤدي إلى مضاعفة خطورتها.
بعد السجائر المزيفة، تأتي قطع غيار المركبات المقلدة
وفي الدرجة الثانية، بعد السجائر المزيفة، تأتي قطع غيار السيارات المزيفة التي تستحوذ على نحو 70 بالمئة من عمليات القرصنة الصناعية على النحو الذي أوضحناه آنفا. وهذه القطع تشمل كل شيء في المركبة ابتداء من أجزاء الفرامل و مرشحات الزيت و سيور الموتور إلى مساحات الزجاج و المصابيح والتوصيلات الكهربائية. وتلقى مثل هذه السلع المقلدة رواجا كبيرا في العالم، ولاسيما عند من يستخدمون المركبات ذات المنشأ الياباني أو الكوري، بسبب رخص ثمنها مقارنة بمثيلاتها الأصليات.
تقليد الدواء وتصديره هما الأكثر إجراما
وإذا كان البعض يرى في عمليات القرصنة الصناعية الخاصة بالغذاء أو السجائر أو قطع غيار المركبات هي الأكثر إجراما وخطورة، فان هناك من يستهين بها في مقابل تلك العمليات الخاصة بصناعة الدواء والتي امتدت إليها أيضا أيادي التزييف والتقليد، بدليل تزايد حالات الوفيات في أوساط الفقراء في جمهوريات أمريكا الوسطى التي دأبت على استيراد أدوية السعال والحقن والمضادات الحيوية والفياغرا الرخيصة من الصين.
العوامل التي تحول دون قيام الدولة بدور حاسم لضبط الأمور
ويرى هؤلاء أن ما يمنع الدولة والحزب من التصدي الحازم لهذه الأطراف التي باتت تتلاعب بسمعة الصين الصناعية، أن الأخيرة بلغت من القوة والنفوذ والشأن ما يستحيل القضاء عليها بسهولة، ناهيك عن أن ضربها يعني ضرب الصناعة الصينية وبالتالي خسارة أسواق عالمية ببلايين الدولارات وخسارة ملايين الفرص الوظيفية، والتسبب في تدهور مستويات المعيشة لشريحة واسعة من المواطنين الذين تحسنت ظروفهم الاقتصادية منذ الانفتاح الذي دشنه الزعيم الراحل ” دينغ هيسياو بينغ ” في سبعينات القرن الماضي، والذي بدوره أرخ لحقبة جديدة ومختلفة عن الحقبة الماوية لجهة العزلة الدولية وكثرة الشعارات الفضفاضة وتبني المواقف المتشنجة وتطبيق الاشتراكية الفجة. وبعبارة أخرى، فان مئات الملايين من المواطنين ممن استفادوا بطريقة أو بأخرى من الانفتاح الاقتصادي، لن يرضوا أن تمس مكتسباتهم المعيشية تحت أي مسمى.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
فضيحة الحليب الملوث تضع “صنع في الصين” أمام تحديات جديدة
فضيحة الحليب الملوث تضع “صنع في الصين” أمام تحديات جديدة
عبدالرحمن اللهبي
allehbi@gmail.com06:3929 أيلول (سبتمبر) 2008 –
استاذي الدكتور:نحن نعرف أن الصين والهند هما الدولتان اللتان تزاحمان الدول الكبرى وتحاول زحزحتها عن مكانها أو مشاركتها فيه ولقد شاهدت برنامجا وأخبرني صديق متخصص عن كمية الدواء المقلد السئ القادم من الهند, الفساد على ما أحسب أصبح هو القاعدة في كل أرجاء الأرض ولكن سؤالي لمقامكم: أليس هناك أيد خفية وأمر دبر بليل لإسقاط سمعة الصين والهند في الوحل لا سيما والمصانع من الدول الغنية تنتقل يوميا من موطنها الى هاتين الدولتين؟