الأسبوع الماضي وجدت فردة شراب (لون رمادي حولها دائرة حمراء في الصورة)، وحاولت أن أبحث عن الفردة الثانية لكي ألبس هذا الشراب (لوني المفضل في الشرابات) وفشلت في أن أجد الفردة الثانية. لذلك قررت أن أقلب درج الدولاب المخصص للشرابات رأسا على عقب، يعني بلغة العصر عملت “انقلاب”، ووجدتني أتساءل: لماذا أملك درج مخصص للشرابات؟ ليس هذا فقط (بعد الجرد الكامل لدرج الشرابات) وجدت أن عندي 55 جوز شرابات و3 فردة شراب بدون فردة ثانية (فردة عزباء)، ولست أدري لماذا الشراب (مذكر) وفردة الشراب (مؤنث) هل لأن للذكر مثل حظ اثنين أنثى؟
المهم أنا ذهلت لعدد الشرابات التي جمعتها عبر السنوات الطويلة، واكتشفت بأني أتعرف على بعض هذه الشرابات للمرة الأولى،
وعندما كنت صبيا صغيرا أعيش في أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة كان لدي فقط ثلاث شرابات، واحد أسود وواحد بني وواحد أبيض (لحصّة الرياضة). وعندما كنت مجندا في الجيش المصري كان لدي شراب واحد (رمادي اللون)، وعندما كان يتسخ كنت أغسله يوم الجمعة وأنتظر حتى يجف تحت حرارة الشمس.
وكان لدي وأنا صبي بنطلون أسود وبنطلون بني وشورت أبيض لحصة الرياضة، وكذلك كان لدي قميص أبيض وقميص رمادي وقميص لحصة الرياضة. الآن غرفة الملابس عندي تنوء بعدد هائل من الملابس التي لا ألبس معظمها، وخاصة ارافتات البدلات الرسمية التي قلما ألبسها لأن كل الملابس الآن أصبحت (“كاجيوال”).
الميزة الرئيسية لإكتشاف هذا العدد من الشرابات أنني قررت التبرع بمعظمها مع قرار رئاسي بأني لن أشتري شرابات مرة أخرى ما حييت!
ولكني تساءلت بيني وبين نفسي بأن شراء عدد كبير من الشرابات والملابس وغيرها (حتى لو نلبس معظمها) له فوائد اقتصادية عظيمة أ.خذت أتحيل فردة الشراب المفقودة وأثرها على الاقتصاد العالمي منذ أن كانت فردة الشراب تلك مجرد بذرة قطن تم زرعها في حقل في دلتا النيل أو في الهند أو باكستان، وتمت رعايتها وريها ومقاومة دودة القطن ثم تم جني القطن ونقله أحيانا بواسطة الجمير (حتى الحمير ربما اشتركت في صناعة فردة الشراب المفقودة). ثم تمت تعبئته وشحنه إلى أماكن تجميعه بواسطة سيارات نصف نقل دفعت “المعلوم” عند كمائن الشرطة المصرية والباكستانية على حد سواء، وتم نقلها بعد ذلك إلى مصانع النسيج في الصين وفيتنام وبنجلاديش وغيرها، ثم رجعت مرة أخرى في سفن الشحن وربما عبرت قناة السويس ودفعت رسوم المرور بالدولار (العزيز الغالي) حتى وصلت إلى الموانئ الأمريكية ومنها إلى مراكز التوزيع ومنها للمراكز التجارية. يعني فردة الشراب المفقودة هذه ربما مرت على آلاف الأشخاص والمركبات والبواخر والسيارات والحمير، حتى وصلت إلى قدم العبد لله.
لذلك كلما وجدت فائض استهلاكي عندي في البيت مركون بدون أي لازمة ولا يستخدم أفكر في هؤلاء الأشخاص اللذين استفادوا من تلك الأشياء غير المستخدمة وأنني كنت سببا في أن لهم وظائف وفتحوا بيوتا لأسر جديدة حول العالم.
نفس الشيء يحدث في الطعام. فقديما كنا نشتري أكلنا بصفة شبه يومية. كان بائع الخضار يمر أمام البيت فتقوم أمي بأن “تدلدل” للخضري سبت الخضار المصنوع محليا من البوص، وتطلب كيلو طماطم وكيلو سبانخ لزوم أكلة الغداء في ذلك اليوم فقط.
أما اليوم فالموضوع مختلف وخاصة بعد اختراع الديب فريزر والسوبر ماركت، السوبر ماركت أساسا فكرة الهدف منها هو أن تشتري أشياء أكثر من احتياجاتك، أذكر من يومين كنت أبحث عن شيء آكله في الديب فريزر الخاص بنا، ووجدت نفسي أقوم بالحفريات داخل الديب فريزر، وكأني أقوم بحفريات البحث عن موميات فرعونية، وبالفعل وجدت مومياء لفرخة مجمدة منذ أيام رمسيس الثاني.. وكلما ألقيت في الزبالة أي أغذية فسدت من عدم الأكل أشعر بتأنيب ضمير شديد، ولكني أخذت افلسف لنفسي الأمر بأن هذا الأكل الذي ألقيه في الزبالة قد فتح بيوت ناس كثيرة وفتح بيوت بعض الحمير أيضا.
…
أدت الثورة الصناعية الهائلة إلى تحول المصانع إلى الإنتاج الهائل المنتظم، هذا أدى إلى ضرورة تسويق تلك المنتجات إلى كل أنحاء العالم، حتى تحولت كل مجتمعات العالم إلى مجتمعات استهلاكية، وبدون هذا الاستهلاك الهائل حول العالم لرأينا أرقام البطالة حول العالم تصل إلى أرقام مدمرة للمجتمعات.
فإذا فقدت فردة شراب، لا تحزن! إذهب وأشتري نصف دستة شرابات لكي تقلل من البطالة حول العالم.