في مقطع الفيديو، الذي تناقلته منابر مختلفة، نَشهدُ إعدام ثلاثة عسكريين سوريين، في مدينة الرقة، ركلاً بالأقدام. قبل الاستفاضة يجدر القول إنني استخدم مفردة “نَشهدُ” عن سابق تصميم، خاصة قبل معرفة مَنْ قتل مَنْ، ولماذا. فبمجرد الإيحاء بالمضمون (القتل)، واستخدام صيغة نحن، الجمعية، يتحقق أمران هما: المشهد، والشهود، وكلاهما شرط بنيوي من شروط الفرجة، وهي قديمة قدم الإنسان على الأرض.
ومن بين أنواع الفرجة لم يثر مشهد، على مر العصور، قدراً من المشاعر المتضاربة، ما بين الافتتان، والذعر، والاشمئزاز، كما فعل العنف المُتوَّج بالقتل، ومنها استمد مبررات وجوده، كسلعة لا تُعطب ولا تبور، مهما ارتقى بنو البشر في مدارج الحضارة.
ولنفكر، دائماً، في ألعاب الفيديو، وأفلام الحرب والرعب، ومصارعة الثيران، والملاكمة والمصارعة، باعتبارها نوعاً من التعويض، ومحاولة للالتفاف على “تابو” العنف في مجتمعات مختلفة. ولنفكر، أيضاً، في المشاهد المصوّرة في نشرات الأخبار باعتبارها تؤدي الغرض نفسه. وحتى في ظل قوانين حديثة تحظر نشر صور واضحة للمقتولين، تتكفل التفاصيل المكتوبة، التي ينبغي أن تكون وصفية ومستفيضة، بالغرض نفسه. أما الحرب فهي “أم المشاهد” كلها.
على أية حال، في الفيديو المذكور ثلاثة عسكريين يجلسون على الأرض، وأيديهم مكتوفة وراء ظهورهم، وسط كتلة بشرية تحيط بهم، وتضيق عليهم، وهناك حشد على الرصيف. تتكون الكتلة من أطفال وشبّان، ولا تظهر بينهم بنات أو نساء. وكما في كل كتلة، أو كومة بشرية، يخلق التدافع والتسلل إلى المقدمة، ومد الأعناق لرؤية ما يدور في الوسط ما يشبه التموّجات، وما يضفي على الكتلة طابعاً عضوياً. فهي جسم واحد لمخلوق خرافي حي بألف عين وذراع يتحرّك، ويدمدم، ويلهث، ويصرخ.
وسط هذا كله، يدوي صوت نسمعه قبل أن نرى الداعشي طليق اللحية، حليق الشارب، الذي يرتدي قميصاً باكستانياً طويلاً، ويمسك بمكبر للصوت منادياً (بلهجة من الواضح أنها غير سورية) الكتلة البشرية للمشاركة في فعل القتل. في هذه اللحظة الاستثنائية المشحونة بمشاعر متضاربة، يمثّل المنادي دماغَ الكتلة الخرافية، ولسانَها، وبما أنه كذلك، ولأنه كذلك، فهو حريص على عدم التفريط بالتراتبية، أي تمييز نفسه عن الكتلة، ولا بالوظيفة التربوية لفعل القتل، أي تبريره وتفسيره.
يعدّد، في البداية، جرائم النصيريين الثلاثة، الذين انتهكوا أعراض “أخواتكم المسلمات”، وقتلوا “إخوانكم المسلمين” (رابطة الأخوّة، هنا، تزيل الحدود الطبقية، والقومية، والجنسية، واللغوية، والأيديولوجية، والمهنية، والعمرية، لتصبح الكتلة بالغة الانسجام، وتمثل امتداداً عضوياً لكتلة متخيّلة أكبر تشبهها في كل شيء). وهي الرابطة نفسها التي تسوّغ له أن يحكم سوريين ويقتلهم.
وفعلُ القتل، هنا، يطال ثلاثة نصيريين، لا ثلاثة شبّان، أو جنود، أو سوريين، أو من بني البشر، بل ثلاثة نصيريين. وبما أنهم كذلك، ولأنهم كذلك، فهم لم يعودا بشراً مثلنا، بل أصبحوا وسيلة إيضاح للعدو اللاهوتي، الذي يتجلى قتله كفعل من أفعال الإيمان. (وطالما أن الكتلة تملك هدفاً يكتسي القتل، الذي أصبح ممارسة للإيمان، طابعاً شعائرياً).
يقول الداعشي للمتحلقين حول “النصيريين” الثلاثة : “لن نحرم إخواننا أن يربحوا هذا الأَجر العظيم” (المشاركة في القتل). ومع ذلك، لا ينسى في سياق تمييز دماغ الكتلة ولسانها عن جسدها، تذكيرَ الحاضرين بأنهم من عوام المسلمين. يقول “نسمح لإخواننا عوام المسلمين” المشاركة في القتل، ويقترح قتلهم ركلاً بالأرجل والأقدام. وفي نهاية الفيديو نرى مسلحين على دراجات نارية يجرّون ما تبقى من أجساد الثلاثة في شارع مزدحم بالسيارات، ويركض في كل اتجاه أطفال لم “يشبعوا” بعد من مشهد القتل.
ولنلاحظ، هنا، أن للعنف المُتوّج بالقتل طاقة بورنوغرافية قد تفيض أو تنضب. فكلما أصبح مألوفاً، وشائعاً، وقابلاً للتوّقع، عجز عن تحقيق الإثارة، لذا ينبغي إعادة ابتكاره بقدر ما تسمح المُخيّلة، وهذا ما تحققه، وما تعنيه، لعبة التفنن في القتل (وسم أجساد المُعذّبين بميسم السلطة، بتعبير فوكو). في بلدان كثيرة متاحف للعذاب وأدواته، وكلها شاهدة على الحاجة البورنوغرافية لإعادة إنتاج العنف، والتفنن فيه.
فلنقل، ينطوي خيار القتل ركلاً بالأرجل والأقدام، ودعوة “عوام المسلمين” للمشاركة فيه، كفعلٍ من أفعال الإيمان، على دلالات مختلفة:
مثلاً، خشية الدواعش، من تناقص منسوب العنف، وتشبّع “العوام”، لذا تنشأ الحاجة لإعادة إنتاجه والتفنن فيه. ومثلاً، العلاقة العضوية بين الداعشي والكاميرا، فهي واسطته إلى “كتلته” الأكبر، وفيها ما يُحرّض على فعل التفنن في القتل، وتحويله إلى مناسبة للمشاركة الوجدانية تنخرط فيها الكتلة الأكبر، في كل مكان آخر، في تحقيق لمبدأ الفرجة، وممارسة رمزية وشعائرية للقتل من بعيد. ومثلاً، رهان الداعشي، الذي ينقسم عالمه إلى مؤمنين وكفّار، على نجاح القتل، بقدر ما يصبح قادراً على تجديد نفسه، وإعادة ابتكارها، في إخافة الكفّار، وبث الرعب في قلوبهم.
مهما يكن من أمر، الفرجة في جذر هذا كله. ولكن، للمرّة الأولى، في التاريخ، يمكن للكتلة الكبيرة الوهمية، والمُتخيّلة، أن تكون حاضرة في المكان والزمان نفسه، مثلها مثل الكتلة الصغيرة الواقعية، وأن تشاركها فعل الفرجة، نتيجة الثورة التكنولوجية الحديثة. وعلى خلفية هذا المعنى ينبغي تحليل فتنة الدواعش في أوساط الكتلة الأكبر.
وكما يعرف العالمون فإن مشاعر الافتنان، والذعر، والاشمئزاز، التي أبقت مشهد العنف المُتوّج بالقتل حياً، هي نفسها التي حرّضت على لجم طاقته التدميرية، وكانت، على مر العصور، في جذر كل فعل من أفعال الحضارة والمدنية، وهي التي تفسّر فتنة الدواعش ومقتلهم.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني