يترحم الواعظ الصوفي والخطيب الإسلامي فتح الله غولن على السلطان عبدالحميد، ويكتفي بذكر ما يشاء من «محاسنه» ولكنه لا يضع حقا في الميزان… لا الدولة العثمانية ولا السلطان!
لفتح الله غولن رأي نادراً ما سمع به أحد في السلطان العثماني، يرضي أهل السنة والشيعة على حد سواء!
يقول غولن: “عندما ارتقى عبدالحميد العرش كانت جميع أنحاء الدولة تغلي بالمشاكل. من هذا الجانب كان يشبه كثيراً بعلي بن أبي طالب الكرار، رضي الله عنه، وعهده. يقول مفكر القرن العشرين بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله “إن الفتن الكبرى التي حفل بها ذلك العهد كانت تتطلب شخصا عملاقا كعلي، رضي الله عنه، لمواجهتها وفعلا واجهها”.
ويعود غولن إلى القرن الهجري الأول مذكراً أتباعه ومستمعيه بظروف صراع الهاشميين والأمويين والخوارج، ويقارنها بالظروف التي عايشها السلطان عبدالحميد الثاني (1876-1909) خلال سنوات حكمه الـ33 عاماً: “الموقف المتصلب للأمويين والفتن التي سببها الخوارج أدت إلى اضطرابات كبيرة في المجتمع؛ لذا كان من الضروري أن يتصدى لهذه المشاكل رجل عملاق وشهم في ذروة الإخلاص والتضحية، رجل زاهد لا يقيم للدنيا وزناً… رجل مثل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لذا فقد أخر القدر علياً، رضي الله عنه، لهذا العهد المضطرب وكان الأمر نفسه بالنسبة لعبد الحميد الثاني. فهو أيضا أتى في عهد فتنة وفساد، وكان رجل دهاء وذكاء وتدبير باتفاق الجميع، وهناك مؤرخون حسبوا أن التدابير التي اتخذها دون داعٍ كانت نتيجة أوهام منه، وعدوا السلطان عبد الحميد رجلَ أوهام وتخيلات، أما الذين أفرطوا وأساؤوا الأدب فقد عدّوه شخصا جباناً”.
ما الظروف التي استلم فيها السلطان عبدالحميد العرش العثماني؟
يقول غولن: “عندما ارتقى العرش كان مَنظر الدولة العثمانية كما يأتي: تونس مضطربة وتغلي كالقدر، والفرنسيون والإيطاليون يصولون ويجولون في المغرب ويوقدون نار الفتنة فيها، وكانت مصر تترقب أحداثا جساماً، وكان الاضطراب سائدا بين العرب، أي كانت الظروف مهيأة لهزيمة الدولة العثمانية في أي حرب دولية تدخلها”.
ولكن ما الذي جعل الدولة العثمانية تتراجع وتتدهور من الداخل؟
لا يبدي الواعظ الإسلامي للأسف أي تفهم تاريخي لما أشرنا إليه من أحوال الممالك والسلالات، وعلّل تدهور الدولة العثمانية التي عايشت النهضة العلمية والصناعية العالمية، ورفضت تطوير بنيتها التحتية ومؤسساتها العلمية وحياتها السياسية وقيمها السائدة، بأن مصيرها كان كمصير القيصرية الروسية وإمبراطورية آل هانسبورغ في النمسا والمجر وألمانيا القيصرية، التي اختفت جميعا مع الدولة العثمانية كسائر الإمبراطوريات.
ويلقي غولن كل اللوم على الأرمن والسريان ويهود الدونمة والإصلاحيين عموما من سلاطين وأفراد: “كان الأرمن قد أسسوا جبهة معادية في الداخل وفي الخارج، وكان “السريان” يثارون، وبدأت بعض القوميات والعناصر التي حاربنا معاً في صف واحد وخندق واحد طوال عصور عديدة تتهيأ لضربنا من الخلف، لم يكن من السهل أبدا اتخاذ تدابير ناجعة لكل هذه المشاكل، لذا فإن نجاح عبدالحميد في إبقاء الدولة واقفة على قدميها طوال 33 عاماً يعد بحد ذاته أمراً مهما، فلو لو يقدم أي خدمات أخرى لكان نجاحه هذا فقط كافياً لبيان مدى كفاءته. كان أعداؤه قساة لا يرحمون، ولم يكن حواليه صديق أو رجل دولة كفء. لم يكن مستبداً، بل كان يريد تطبيق النظام والدقة- اللذين كانا سمة من سماته الشخصية- على المجتمع، وحاول بذلك أن يكسب كل وحدة من وحدات الحياة الاجتماعية التي بدأت بالتسيب والتشوه نظاماً يقيها من الاستمرار في الهبوط والتردي. أي إن لم يفد هذا في ترقية المجتمع فإنه على الأقل يمنع توجهه إلى الأسوأ، وكان هذا يقتضي منه أن يكون ملتزماً بالنظام”. ويشيد غولن بالسلطان عبدالحميد أيما إشادة، غافلا عن طبيعة الدولة التي ورثها السلطان، وتراكم سلبياتها، وفشل هذه الدولة في التنافس الدولي والحداثة والزراعة والصناعة!
يقول المؤرخ الأردني د. علي المحافظة: “وصدر أول دستور للدولة العثمانية عام 1876م. تضمن المساواة بين الرعايا العثمانيين وحماية حرياتهم وممتلكاتهم الشخصية، ونص على إنشاء مجلسين تشريعيين من الأعيان والنواب، وعلى إنشاء مجالس للولايات والأقضية والنواحي، وجرت انتخابات نيابية وأخرى إدارية واجتمع أول برلمان عثماني “مجلس المبعوثان” في آذار (مارس) عام 1877 ولكن السلطان عبدالحميد الثاني تآمر على الدستور فعطله، وحل البرلمان في 14 شباط (فبراير) 1878، وظل الدستور معطلاً حتى عام 1908. وعاشت الولايات العربية في الدولة العثمانية هذه التجربة، بكل ملابساتها”.
(الاتجاهات الفكرية عند العرب، بيروت 1987، ص22).
ويخص غولن القائد مصطفى كمال أتاتورك الذي أنقذ عملياً تركيا وبقايا الدولة العثمانية من ضياع حتمي، بالنقد اللاذع، ويتهمه بأنه من أصل يهودي متخفّ ومتآمر على تركيا! ويقول إن أتاتورك من “يهود الدونما”، الذين تظاهروا بالإسلام ليخدعوا الأتراك وينفذوا مآربهم، ولا ينزه البحث التاريخي أتاتورك من الانتقاد واللوم على بعض تصرفاته مع معارضيه وسلوكه الاستبدادي، ولكن عداء غولن له يمضى أبعد من ذلك، إذ يرى غولن في أتاتورك امتداداً لعبدالله بن سبأ، شماعة الإسلاميين التاريخية لمئات المؤامرات حتى الآن!
يقول: “وفي الأناضول كانت جماعة “الدونمة” في نشاط محموم. لقد غيروا أسماءهم إلى “محمد” و”علي”، ولكن نفوسهم وقلوبهم لم تتغير أبداً، ولم تهدأ أحقادهم وكان هذا الحقد والغيظ كافيين لإشعال نار الفتنة في كل مكان، وكما كان اليهود أعدى أعداء الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة، وكان ابن سبأ وجماعته أعدى أعداء الإسلام في عهد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كذلك كان الدونمة أعدى أعداء السلطان عبد الحميد. كان مدحت باشا- وهو مصلح دستوري عثماني معروف- من هؤلاء الدونمة، وكانت أوروبا وراءه وهو يقوم بإنجاز مهمته في إيقاد نار الفتنة”.
ويرى فتح الله غولن في السلطان عبدالحميد شخصية ملهمة ظلمها التاريخ ورجال الحاشية! ويقول: “لم يستطع أحد ممن كان حول السلطان فهم قيمة أفكاره المستقبلية، لذا ظهر الكثير من المشاكل وعدم التفاهم، إذ كانت خطواته محسوبة لخمسين سنة قادمة، ولكن رجال الدولة المحيطين به كانوا قصيري النظر، ولم يفهموه جيدا، ولم يتغير هذا الأمر في أيامنا الحالية، فهناك الآن رجال دولة يقدمون اقتراحات وأفكارا لعشر السنين القادمة، ولكن جهودهم تتعرقل من قبل رفقائهم”.
ويعود غولن إلى الأرمن فيحملهم وزر تلطيخ سمعة السلطان: “وكما ذكرنا في بداية الموضوع كان الفرنسيون أول من أطلقوا عليه لقب السلطان الأحمر Le sultan Ruj فقام الأرمن بنشر هذا اللقب في صحفهم؛ لذا كان على من يستعمل هذا اللقب أن يفكر بفم أي جهة يتكلم ويكرر هذا اللقب، عليه أن يفكر بهذا وأن يخجل. أجل! إنه كان سلطانا أحمر بالنسبة إلى الخفافيش المصابة بداء عمى الألوان، في حين هو بالنسبة إلينا سلطان عملاق… أسكنه الله فسيح جناته”.
(أسئلة العصر المحيرة، محمد فتح الله غولن، ص 204، 210).
وهكذا يترحم الواعظ الصوفي والخطيب الإسلامي على السلطان عبدالحميد، ويكتفي بذكر ما يشاء من “محاسنه” ولكنه لا يضع حقا في الميزان… لا الدولة العثمانية ولا السلطان!