بيروت- خاص بـ”الشفّاف- دأب الجنرال المتقاعد ميشال عون منذ بضعة أسابيع على التكلم باستمرار عن زيارته المنشودة الى سوريا، ساعيا في كل مرة الى ضخ جرعة من “المقبلات” الى اللبنانيين، تمهيدا لاجتياز الحدود على ما يبدو في نهاية الأسبوع الأول من كانون الأول المقبل. وقد حاول في الأيام الأخيرة احاطت خطوته بكم من الشعارات الطنانة، واضفاء عليها طابعا “تاريخيا”، و”رسوليا”، وربما تصبح، من يدري، أيضا “إلهية” بنتائجها، وبالتحولات التي ستحدثها في المنطقة!…
وقد دفع به “جنون العظمة”، أمس، الى تزوير التاريخ مشبها زيارته، التي ينتظرها بفارغ الصبر لمعانقة بشار الأسد، بزيارة الجنرال شارل ديغول الى المانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. الا ان كل هذا الضجيج لم ينفعه في اخفاء الارباك والاحراج اللذين يتخبط بهما، محاولا الايهام ان الزيارة جاءت تتويجا لزعامته المسيحية على الأرض، وموقعه “التفاوضي” القوي بعد أن خرج الجيش السوري من لبنان.
وآخر خبرية خبرها عون إن زيارته الى سوريا تم الاتفاق عليها في 25 أيار الماضي، خلال جلسة انتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، عندما إلتقى “صدفة” وزير الخارجية السوري وليد المعلم في أروقة المجلس النيابي اللبناني، بحسب ما إدعى الاثنان. علما ان قرار الزيارة هو جزء من فاتورة التي على عون أن يندفعها من ضمن الصفقة التي عقدها مع النظام السوري عشية عودته الى لبنان، في 7 أيار 2005، وبدأ الاعداد الجدي لها منذ أكثر من سنتين، أي بعد توقيع “ورقة التفاهم” بين “تيار الوطني الحر” و”حزب الله”، في 6 شباط 2006. ومهدت دمشق لها عبر تصريحات أكثر من مسؤول سوري أشاد فيها علنا ومرارا بـ”الخصم الشريف”. كما انه بات معلوما أيضا أن ميشال سماحه، اللبناني الجنسية والسوري الهوى، يعمل على تنسيق الزيارة والاعداد لها، كونه “يشغل” حاليا منصب مستشار الرئيس السوري بشار الأسد!
فلماذا يعيش العماد المتقاعد كل هذا الارباك؟ ولماذا يسعى منذ أسابيع لاختراع حجج شتى، وكأنه يريد اقناع نفسه، اذا كان مقتنعا فعلا بجدواها وبتوقيتها؟ أم أنه يشعر ربما باحراج كونه مضطر للالتزام بشروط الصفقة؟
ومن جهة ثانية، يحاول جاهدا إعطاء الزيارة تارة “طابعا تاريخيا”، وتارة أخرى “طابعا مسيحيا”، وثالثة “حضارية وسلمية”، ناهيك عن بعدها “المشرقي”… في محاولة منه لتعظيم نفسه! فها هو يلجأ الى تزوير التاريخ، وباسلوبه الديماغوجي المعتاد، مشبها زيارته الى سوريا بزيارة الجنرال شارل ديغول الى المانيا (!).
فهو، عدا عن أنه أولا يشبه نفسه بديغول يقوم بتشويه الحقائق محاولا الايحاء ان الرئيس الفرنسي “صفح” عن المانيا النازية، وقام بزيارتها بعد انتصار المقاومة الفرنسية وانتهاء الحرب العالمية الثانية بانتصار “الحلفاء”… وهو الآن يستعد لزيارة سوريا بعد “تحريره” لبنان من وصايتها وخروج جيشها من لبنان. والصحيح أن ديغول لم يقم بمثل هذه الزيارة قبل سقوط هتلر والنازية، وانما زاره المستشار الألماني الجديد ايدنهاور، في مقر إقامته في “كولومبي- لي دوزيغليز”، قبل أن يقوم هو بزيارة المانيا “من أجل السلام”…
ورغم تشويه الحقائق، ورغم أن المقارنة لا تصح وليست في مكانها، فهل ان النظام السوري الذي إرتكب ما إرتكب في لبنان سقط أو تغيّر؟ أو أنه أثبت بالملموس أنه لم يعد له مطامع في لبنان، أو انه غير مستمر بممارسة نفوذه فيه؟ ربما لأن العماد المتقاعد يعرف في قرارة نفسه انه ذاهب لمصالحة النظام نفسه، فلذلك لجأ الى تحايل آخر، قائلا ان الوضع في سوريا تغير بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد، في أيار 2000، وأن من كان مسؤولا عن ملف لبنان (في ذلك العهد) أمثال عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان (الذي نحره “العهد الجديد”) ليسوا اليوم في السلطة. عجيب! فهل هؤلاء كانوا “فاتحين على حسابهم”، ولم يكونوا يومها طرفا أساسيا في السلطة؟ وهذا كلام يردده اليوم معظم أتباع سوريا الحاليين، أتباعها في زمن الرئيس الراحل ومع الرئيس الحالي، والذين كانوا يتسكعون عند خدام وكنعان، ويتسكعون اليوم عند من حل محلهم…
وهل إن عون يريد تبييض صفحة الأسد الابن وتحميل مسؤولية الماضي للأسد الأب؟ على اعتبار أن بشار أطاح برفاق والده من أجل “تصحيح” العلاقة مع لبنان، وعين لنا في عنجر رستم غزالة من أجل بدأ التحضير لانسحاب طوعي لجيشه من لبنان؟ ثم يشيد، كما فعل قبل أسبوع، بدور سوريا في مكافحة الارهاب تعليقا على “فيلم اعترافات” إرهابيي “فتح الاسلام”، المفبرك، الذي بثه التلفزيون السوري منذ اسبوعين.
كما أن ما يلفت في هذا الأمر، محاولة عون اللعب على الوتر المذهبي في تركيبة السلطة في سوريا، وتصويب سهامه على رموزها السنية موحيا كأنه يقف الى الجانب العلوي المسيطر فيها، كما يفعل في لبنان محرضا من وقت الى آخر على الطائفة السنية عبر تحريضه المستمر على رئاسة الحكومة وفؤاد السنيورة ، مثل قوله مؤخرا أن رئاسة الجمهورية موجودة في السراي الحكومي!
ويذهب عون أبعد من ذلك محملا الزيارة “طابعا رسوليا”، طارحا نفسه “مخلصا” و”منقذا” لمسيحيي الشرق، كما حاول أن يفعل خلال زيارته لايران، وكلامه عن حرية المعتقد هناك (!). ولكن مماذا يريد أن يحمي المسيحيين في سوريا؟ هل أنهم يتعرضون للاضطهاد أو لأخطار ما؟ ولماذا يسعى لتوظيفهم في حساباته الخاصة؟ هل يريدهم أن يوقعوا “ورقة تفاهم” مع النظام على غرار “ورقة تفاهمه” مع “حزب الله”، كي يندفعوا في تنظيم المقاومة لتحرير الجولان؟
ان ما يتم تداوله عن برنامج الزيارة، من احتفالات شعبية ولقاءات مع الطوائف المسيحية، والمارونية على الأخص، وزيارات الى مواقع دينية وتاريخية، وسير على الطريق الذي سلكه القديس بولس الرسول (كذا)، يوحي وكأن عون يريد ان يقوم بدور الزعيم السياسي والروحي، ويريد تأليب الموارنة على البطريركية المارونية، التي رفض سيدها نصرالله صفير حتى القيام بزيارة رعوية لسوريا.
أما الزيارة الثالثة، على ما تلهج بها الألسن، بعد طهران ودمشق، فستكون الى بغداد حيث ينتظره مسيحييوها لـ”انقاذهم” من التهجير القسري الذي يتعرضون له، عبر اطلاق المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الاميركي!
s.kiwan@hotmail.com