تؤشّرُ رئاسةَ الجمهورية كما تؤشّرُ شخصيةَ الرئيس في لبنان إلى المرحلةِ السياسيةِ القادمة. لم يعرف تاريخُ لبنانَ المعاصر انتخابَ رئيسٍ للجمهورية على قاعدةِ موازينَ قوى داخلية مجرّدة عن العواملَ الإقليمية والدولية المحيطةِ بنا.
لقد حظيَ الرئيس بشارة الخوري، الماروني، بثقةِ اللبنانيين نظراً إلى دورِه الموصوف في معركة الاستقلال عن الإنتداب الفرنسي رغمَ التعاطفِ المسيحي مع الإنتداب. وفي العام 1952 لم تكن خيبةَ اللبنانيين من حكم “الدستوريين” كافيةً لوصولِ الرئيس كميل شمعون إلى القنطاري، بل حملَ الرئيس همومَ العالم العربي المتمثّلة بقضيةِ فلسطين، التي كانت ولا تزال تشكّلَ قضيةً مركزية في ضميرِ العرب. وانتُخِب الرئيس فؤاد شهاب على قاعدة التفاهمِ الأميركي مع جمال عبد الناصربعد انتكاسة “حلف بغداد” الذي راهنَ عليه الرئيس شمعون من أجل محاولته تجديد الولاية في العام 1958، وفي العام 1982 أتى انتخاب الرئيس بشير الجميل على وقعِ مشروعِ الولايات المتحدة المتمثّل بانتزاع إتفاقيات سلام منفردة بين الدول العربية وإسرائيل في ظل تعذّرِ عمليةَ السلامِ الشاملة. وبعد اغتيال الرئيس رينيه معوض، أتى الرئيسان الهراوي ولحود، على قاعدة الوصاية السورية على لبنان، فكان المعيارُ هو الولاء للسلطةِ السورية ولو على حسابِ مصلحة لبنان.
تقدمتُ بهذا العرض من أجل التشديدِ على العواملِ الخارجية لانتخاب رئيسٍ للبلاد دونَ تغييب أن للرئاسة في لبنان شروطِها الداخلية ايضاً والتي تتأثرُ حكماً بالعوامل الخارجية.
الرئيس في لبنان ماروني، وفقَ الميثاق الوطني الذي تكرّسَ في وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، والناخب لبناني (مسلم ومسيحي). أي يترشّحُ ماروني لسدّةِ الرئاسة وينتخبه نوابٌ مسلمون ومسيحيون، لأنه سيحكم لبنان وفقاً للدستور. كذلك رئيس مجلس النواب وهو من الطائفة الشيعية وينتخبُه نواب مسلمون ومسيحيون، ورئيس مجلس الوزراء السنّي يختارُه نوابٌ مسيحيون ومسلمون.
هنا تلتبسُ نظرةَ البعضِ إلى طبيعة تكوينِ السلطة في لبنان. هناك من يعتبر أن الطوائفَ تنتدبُ زعماءَها لتمثيلِها لدى الدولة اللبنانية، كما لو كانوا سفراءَ يمثلون مصالحَ طوائفهم. هذا المنطق يفرضُ على الزعيمِ أن يخوضَ معركتين: معركة اولى لحسم مسألةَ الزعامة داخل طائفته، ومعركة ثانية ضد زعماءِ الطوائف الأخرى لتحديدِ مكانتَه على المستوى الوطني.
هذه النظرة، التي اكتسَبَت بالممارسة المستدامة قوَّةَ النظرية، تنقلُ لبنان من وطنِ العيشِ المشترك بين أبنائه إلى المساكنة بين الطوائف اللبنانية التي تتعاطى مع بعضها البعض وكأنها في حربٍ باردة، وهي بالتالي تغيّبُ المواطنَ الفرد لصالحِ تثبيتِ أحجام الطوائف.
لقد أثبتت التجربة اللبنانية سوءَ هذه النظرية، وذلك من خلال الوقائع التالية:
• في مرحلة “المارونية السياسية” لم يحصّلْ المواطن المسيحي في لبنان حقوقاً تجاوزت حقوقَ المواطن المسلم، بدليل الحرمان الذي سادَ في مناطق المسيحيين خلال عقود.
• تكريسُ مبدأ المحسوبيات. إذ يغيبُ القانون وتتراجعُ الإدارة والخدمة العامة لصالح الزبائنية، بحيث أن المواطنَ المحظوظ هو الذي يُدخِل نفسه في دائرة الإستزلام المباشَر مع النافذِ في الطائفة أو زعيمِها.
• تغييبُ الحقوقَ في داخل الطوائف. إذ أثبتَت التجربة أن زعماءَ الطوائف وأحزابِها ينتصرون وحدَهم عند تحقيقِ مصالحهم الخاصة، وعندما يخسَرون تخسَر الطائفة معهم بحكم الإختزال الذي يُلغي الأصوات المعارضة داخل هذه الطوائف. والأمثلة عديدة في هذا المجال.
منذ العام 2005، دخلَ لبنان مرحلةً جديدة مع انسحاب الجيش السوري، نتيجة الإنتفاضة المشرّفة التي حققها اللبنانيون على أثرِ استشهادِ الرئيس الحريري. وفي تلك اللحظة وجدنا أنفُسنا أمام مفترقِ طرق: كيف يمكن الإنتقال بهدوء من حالة الوصاية المذِلّة واحتلال عقول اللبنانيين إلى حالةٍ من الإستقرار الوطني، كيف يمكن تبديد نظرية أن البلد ممسوك وليس متماسكاً، والتأكيد أن الوحدة الوطنية إرادةٌ وطنية أصيلة؟
حاولنا التوفيق بين حقوقِ المواطنين والضمانات التي يجب ان تُعطى للطوائف. طرحنا بعض الأفكار الإصلاحية، مثل تخفيض سن الإقتراع الى الى 18 عاماً، فكان الجواب ان الديموغرافيا تبعثُ على القلق. طالبنا بانتخابِ مجلسٍ نيابي محرّر من القيود الطائفية ومجلسِ شيوخٍ منتخبٍ على اساسٍ طائفي، تنفيذاً لإتفاق الطائف، فكان الجواب ان هذا عملٌ محفوفٌ بالمخاطر، وقد يؤدي الى اعادةِ النظر باتفاق الطائف نفسِه!
نحن نعلمُ جيداً أن الوحدة الداخلية اللبنانية ليست حصيلةَ رغبةِ اللبنانيين في العيش معاً، إنما حصيلة استحالة أن يعيشَ كلُ طرفٍ وحدَه. كما نعرفُ أيضاً أن الوحدة الداخلية ليست عملية تلفيقية لجمعِ طوائفٍ وأحزابٍ وأفرادٍ في جبهة تساكنية واحدة أنما هي – أي الوحدة الداخلية – إجتماعُ كل الوطنيين داخلَ الطائفة في وجه من يغلّب المصلحة الطائفية على المصلحة الوطنية.
وإذا عُدنا إلى واقعِ رئاسةِ الجمهورية، أسمحُ لنفسي أن أتكلّمَ بصراحة.
حمَلَ المسيحيون بشكلٍ عام والمسيحيون اللبنانيون بشكلٍ خاص، مشروعَ الحداثة في العالم العربي وساهموا في إنشاءِ أحزاباً وجمعيات، لطالما شكّلت حاجةً لعالمنا العربي الباحث عن هوية ثقافية وسياسية ووطنية في وجه السلطنة العثمانية والإنتدابين الفرنسي والبريطاني.
ولأنهم واجهوا الإنتداب، رغمَ مكاسبِه الثقافية والسياسية عليهم، تمكّنوا من أن يُصبحوا حاجةً وطنية.
رفعوا شعارَ العيشِ المشترك في العام 1920 رغم المصائبِ الكارثية التي أصابت بعضَهم، مثل الأرمن والسريان،
ورفعوا شعارَ الاستقلال في العام 1943، فاطمأن المسلمون وشعروا أن وجودهم في لبنان قد يعودُ عليهم وعلى الآخرين بالخير.
تزعّمَت لبنان مارونيتان، مارونية بشارة الخوري ومارونية إميل إدة، وقد تقاسمَتا غالبية العائلات المسيحية والإسلامية في اصطفافٍ سياسي حاد بين – “كتلة” و”دستور”. وعَبَرَ الزعيمان بمارونيتيهما كل الطوائف والمناطق.
هذا بالأمس، أما اليوم فيشكو المسيحيين في غالبيتهم أنهم منقسمون بين تيارين، يتزعَمُهُما قائدان مسلمان – سعد الحريري وحسن نصرالله – مع حفظ الألقاب، ويتألمون ويتحسّرون على الماضي، ويُلقون بالمسؤوليات على بعضهم البعض وعند الحاجة على المسلمين، متهمينهم بإرادةِ التهميشِ المتعمّد من خلال نصوصٍ دستورية أو قدراتٍ مالية أو سلاحٍ غير شرعي أو علاقاتٍ اسلامية وعربية. كما أن علاقاتهم مع الغرب تتراجع، فإذا زاروا رئيساً فرنسياً اختلفوا معَهُ حولَ نظرتِهم إلى أحداثِ المنطقة، وإذا ذهبوا إلى واشنطن، ذهبوا للبحثِ ولاستجداءِ حماياتٍ مشبوهة.
أرفض مقاربة الإستحقاق على أنه استحقاقُ مسيحي أو إختصاصُ مسيحي أو مصلحةُ مسيحية، تماماً كما أرفض أن تكون رئاسةَ مجلسِ النواب اختصاصاً شيعياً أو رئاسة مجلس الوزراء اختصاصاً سنّياً.
• رفضتُ اجتماعَ المسيحيين في بكركي في محاولتِهم إنتاجَ توافقٍ مسيحي حول إسمِ رئيسٍ يُعرضُ في مرحلةٍ لاحقة على الرأي العام اللبناني.
• ورفضتُ أيضاً إجتماعَ دار الإفتاء بعد تكليفِ الرئيس ميقاتي، والذي حاولَ نزعَ شرعيةِ التمثيل لصالح الرئيس الحريري. أي بالتالي رفض الرئيس ميقاتي على قاعدة أن تمثيلَه منقوص.
• كما أتحفَّظُ كثيراً عن إعلان المسلمين أن رئاسةَ الجمهورية شأنٌ مسيحيّ – فليتفقوا ونمشي – لأن في هذا الموقف إستقالةٌ من جوهر البلد.
وأمّا إذا أخطأت الطوائف الأخرى في مقاربتِها للرئاستين الثانية والثالثة، فإن خطأ الموارنة تحت عنوان “التعامل بالمثل” هو خطيئة بحق لبنان وبحق الموارنة كجماعة فاعلة.
إن إعلانَ الموارنة أنهم “قبيلة” سياسية تنظُرُ إلى التجربة اللبنانية وبناء الدولة وتتفاعلُ معها على قاعدة المحاصصة، يُفقدهُم الدورَ الريادي ويجعلهم محكومين بعملية تنافسية حتمية قد تكونُ نتائجُها كارثية عليهم وعلى التجربة اللبنانية.
وإذا ظنّ البعضُ أن تحالفَهم مع “جماعةٍ” يضبطُ ويخففُ من نشوةِ “جماعةٍ” أخرى، فهو مخطىء. لأن السياسة تخضع لموازينَ قوى متقلّبة وغير ثابتة وتتأثرُ بأولويات قد تتجاوز الموارنة كما هو حاصل اليوم.
إن اللبنانيين مدعوون اليوم إلى إعادة النظر في مقاربتهم للإستحقاق الرئاسي، ومن هنا ندعو:
• الكنيسة المارونية إلى دعوة “اللبنانيين” وليس المسيحيين إلى انتخابِ رئيس، لأن المسؤولية الوطنية في استكمال بناءِ الدولة هي مسؤولية المسلمين والمسيحيين معاً. إن الكنيسة تمتلكُ القدرةَ على التأثير الإيجابي على كافةِ الشرائح الوطنية خاصةً في زمن “الإسلاموفوبيا” في الغرب. إن شهادتَها عن العيش المشترك وغنى التجربة اللبنانية بين المسيحيين والمسلمين لها وَقعُها اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى. فبدلاً من إقناع أقوياء الموارنة بإنقاذ لبنان عليها دعوة اللبنانيين لإنقاذ لبنان، لأن إنقاذ لبنان اليوم، في زمن التطرف الإسلامي – السنّي الشيعي، هو إنقاذٌ للعيش معاً في باريس وبرلين ومدريد وروما وكل انحاء العالم.
• ندعو ثانياً الأحزاب المسيحية إلى تحمّلِ مسؤولياتها أمام الرأي العام. في زمنِ “قرنة شهوان” نجحنا في الشراكة مع غالبية اللبنانيين حولَ مشروعِ إخراج الجيش السوري من لبنان. في زمن عودة القادة التاريخيين وعودة الأحزابِ التاريخية، وفي زمن الكتلِ النيابية والوزارية الوازنة ومقاعدٍ حول “طاولة الحوار” تصبح المسؤولية أكبر. إن عدم تحقيقِ نتائجَ ملموسة لمصلحة لبنان قد تنعكس سلباً على تجربة أحزابنا منذ العام 2005 حتى اليوم، وطبعاً إني أقرّ أن المسؤوليات في هذا المجال غير متساوية.
• وندعو ثالثاً “حزب الله”، الذي اعتبر أن وحدة اللبنانيين في العام 2005 تشكّلُ خطراً على مشروعِه الذي يستقطب تأييداً من لونٍ واحد، والذي قادَ انتفاضةً مضادةً على انتفاضةِ الاستقلال من خلال سلسلةِ خطواتٍ أذكرُ منها: حرب تموز 2006، محاربة قيامِ المحكمة الدولية، 7 أيار وغيرها. ندعوه إلى أن يُشبِه لبنان بدلاً من أن تتشبَّه بهذا الحزب جماعاتٌ أخرى.
• وندعو السنة في لبنان إلى تثبيتِ انتسابِهم إلى التجربة الاستقلالية التي أتت في لحظةِ إجماعٍ وطني هائل اثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري من خلالِ تغليبِ منطقِ الدولة على ما سواه. فالسنّة أهلُ دولة، وليسوا عشائر ريفية تعيش في “أنبار” لبنان، وليسوا بحاجة إلى “حماياتٍ” من أحد.
• وندعو كل القوى التي تدّعي انتسابَها إلى الطابع المدني وتدّعي عبورَها للطوائف من خلال تجاوزِ الطائفية في معالجة قضايا تهم الجميع… ندعوها إلى تطويرِ موقفها وفعاليتها في الإتجاه نفسه. فالضمان الإجتماعي والمدرسة والجامعة وسلسلة الرتب ومشاكل السير تخصُ الجميع بدون استثناء فلا إمكانية لصيغة قانون سير للمسلمين وآخر للمسيحيين ولا قانون بناء للمسيحيين وآخر للمسلمين.
• أخيراً أدعو هؤلاء الشباب إلى قراءةٍ معمّقة لاتفاق الطائف ودراسة موضوعية لفكرة قيام مجلسين، واحدٌ محرر من القيود الطائفية وآخر أي مجلس شيوخ منتخب على قاعدة طائفية.
الأول – يؤمّن حقوق المواطن الفرد من ماء وكهرباء وفرص عمل وعيش كريم، والثاني – يؤمن ضمانات الطوائف التي تعيشُ اليوم حالةً من الهلع والخوف من كل شيء حتى من الأمور الإفتراضية التي تبرزُ على شاشاتِ شبكاتِ التواصل الإجتماعي.
ايها الأصدقاء، بل أيها المسيحيون،
عندما كان للمسيحيين اهتمامٌ ودورٌ بحجمِ لبنان وقضايا المنطقة، لم يكونوا بحاجة إلى استجداءِ حجمٍ في السلطة.
عودوا إلى الدور تعودوا إلى السلطة.
محاضرة الدكتور فارس سعيد
في مركز عصام فارس
22 تشرين الاول 2014