1-
طالما نحن في أجواء “المصالحة” فلنقل بعض ما ينبغي أن يُقال، لعل فيه ما يُسهم في توسيع آفاق النقاش لا بشأن ما سيعود على القضية الفلسطينية (فهذا كلام كبير، ومجرد بلاغة وإنشاء) بل على قطاع غزة (وهذا ممكن، وفي متناول اليد):
تستحق غزة استراحة المحارب، فقد دفعت الكثير، ولم تنل سوى أقل القليل. كان موعدها مع استراحة المحارب بعد الانسحاب الإسرائيلي قبل سنوات، وضاعت الفرصة. واليوم، تطل فرصة جديدة في الأفق، وإمكانية تحقيقها في يد الفلسطينيين أنفسهم.
وما معنى استراحة المحارب؟
معناها أن تتحوّل غزة، وقد تخلّصت من الاحتلال المباشر، والمستوطنات، والمستوطنين، إلى وسيلة إيضاح للتدليل على كفاءة الفلسطينيين في إدارة شؤونهم بأنفسهم، وترميم حياتهم، وبنيتهم التحتية، ومؤسساتهم التعليمية والصحية، واقتصادهم، في ظل شروط ليست مثالية تماماً، ولكنها أفضل المُتاح.
إذا نجحوا في ذلك، وأصبحت مشاكل الماء، والطاقة، والسكن، والبطالة، على رأس جدول الأعمال، سيكون سكّان غزة في طليعة الرابحين، وستربح القضية الفلسطينية بدورها. ولكن هذا كله مشروط لا بحسن النوايا، بل بخطوات عملية على الأرض، ومنها:
أولاً، تجريد الميليشيات من السلاح، وإيجاد سلطة مركزية واحدة ومُوّحدة، تحتكر العنف، وتطبق القانون، وتحمي الممتلكات العامة والخاصة، وتضمن حرية وسلامة المواطنين.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بموضوع الميليشيات والسلاح، لا كاتب هذه السطور جاء من المريخ، ولا مَنْ يقرأ هذا الكلام، جاهل بكل المرافعات السياسية والوطنية العتيدة والعنيدة والمجيدة، في هذا الشأن. ولكن هذا هو الممر الإجباري، والدواء المر (إذا شئت) لإنشاء سلطة مركزية واحدة وموّحدة تحت مظلة السلطة الوطنية الفلسطينية. وأهم العقبات التي تعترض سلطة كهذه تتمثل في الاقتصاد السياسي للميليشيات والسلاح.
هذا أمر يطول شرحه وخلاصته: هناك، دائماً، مَنْ يستفيد (مكاسب مادية ومعنوية، ووجاهة، ومقابلات وتصريحات متلفزة، ولا يندر أن يدفع حياته في حالات بعينها)، ولكن بما لا يعود، بالضرورة، على الشعب والقضية بالفائدة، والمستفيد يعرقل كل ما من شأنه الحد من الفائدة، أو تجريده من مقوّمات الحصول عليها، وغالباً ما يموّه الفائدة الذاتية، والفصائلية، بمرافعات وطنية بالغة النبل والتسامي، ويتهم خصومه ببيع الوطن والقضية.
ثانياً، لا أمل لغزة في استراحة المُحارب دون مصر. وهذا مشروط بالتعاون غير المشروط مع الدولة المصرية، بشأن كل ما يحفظ أمنها، وسلامة أراضيها، وحياة مواطنيها. وهذا يعني إغلاق الأنفاق بشكل نهائي وكامل، ووقف كافة أشكال التهريب، وتسليم كافة المطلوبين للسلطات المصرية، إذا وجدوا في غزة، وإنهاء كل صلة قائمة، أو محتملة، مع جماعات في مصر، أو الإقليم، تتبنى سياسية معادية للدولة المصرية.
مرّة أخرى، لا صاحب هذه السطور جاء من المريخ، ولا مَنْ يقرأ هذا الكلام جاهل بالمرافعات المتداولة في هذا الشأن. ولكن لا إمكانية حقيقية لإنشاء علاقة طبيعية وأخوية وقومية مع مصر دون الالتزام بشروط كهذه.
ثالثاً، لا إمكانية لإنشاء سلطة مركزية واحدة وموّحدة، ونجاحها، دون ثقة المواطنين، وتسليمهم بحقها في احتكار العنف، والسلاح، وتطبيق القانون، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وضمان الحريات الفردية والعامة.
ولا يمكن لثقة أن تتحقق، أو لتسليم أن يحدث، بعد كل ما حدث، دون برنامج للعدالة الانتقالية. فما حدث في غزة، ولغزة على مدار سنوات، أحدث جراحاً اجتماعية، وإنسانية، وسياسية كثيرة، لا يمكن علاجها بعيداً عن فكرة العدالة، وقاعات المحاكم، وسيادة القانون، بأثر رجعي. وقعت انتهاكات كثيرة من أطراف مختلفة. ولا يحق لأحد ادعاء البراءة، أو التنصل من ظلم وقع.
ومرّة ثالثة لا كاتب هذه السطور جاء من المريخ، ولا مَنْ يقرأ هذا الكلام جاهل بالمرافعات، والاتهامات. ومع ذلك، لا أمل في تضميد الجراح، وتحقيق السلم الأهلي، وكلاهما من ضمانات نجاح السلطة المركزية، ونيل ثقة المواطنين، دون علاج كهذا. وإذا قيل وماذا عن الضفة، ينبغي القول ما يصح هناك يصح هنا، أيضاً.
2-
أخيراً، كل ما تقدّم يمثل إطاراً للتفكير، ولا يمكن تحقيقه (حتى إذا توفرت النوايا) بين ليلة وضحاها، بل يحتاج إلى تفكير وتدبير في سياق مشروع يعتمد أهدافاً قريبة، ومتوسطة، وبعيدة المدى. ولهذا كله أبعاده الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والفكرية (إذا شئت).
فلا يمكن التفكير في موضوع الميليشيات والسلاح، مثلاً، دون توفر إطار معرفي عام، يشمل رؤية استراتيجية لعلاقة السلاح بالسياسة، وخصوصية غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي، والوضع الحالي للقضية الفلسطينية، ومبادئ الأمن القومي الفلسطيني (التي تأخر التفكير فيها حتى الآن).
ولعل من المفيد، في هذا المعنى، تنظيم مؤتمرات متخصصة، في رام الله، أو القاهرة، أو عمّان، لكبار المفكرين العسكريين والاستراتيجيين في العالم، لنقاش علاقة السلاح بالسياسة، وخصوصية غزة، والوضع الحالي للقضية الفلسطينية، ومبادئ الأمن القومي الفلسطيني. فلنحتكم إلى كلام خبراء مشهود لهم بالكفاءة في ميادين القتال، وكليات الحرب، والمراكز الدولية ذات الاختصاص.
فمن المُعيب، والمُخجل، أن نعتمد في تحليلنا لأشياء كهذه على اجتهادات زعيم ميليشيا محلية، أو شطارة الناطقين باسمه. السياسة والتفكير في السياسة، وصناعة القرار، أعقد وأبعد من هذا بكثير. وقد كان من مصادر فخرنا ذات يوم بأننا أكثر الشعوب تعليماً في المنطقة، فأين نحن الآن؟
لسنا، بالتأكيد، في المكان الصحيح. ومع ذلك ولذلك: نحتاج إلى التفكير والتدبير، في هذا الجانب على الأقل، إذا كانت استراحة المُحارب من حق غزة.
khaderhas1@hotmail.com