من المفهوم بداهة لكل من يعرف ألف باء السياسة أن المجال الحيوي للولايات المتحدة هو العالم بأسره. ومن هذا المفهوم فقد حرصت الولايات المتحدة أن ترث الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، خاصة في الشرق الأوسط (أو كما يسميه البعض الشرق الأدنى near east) إثر الحرب العالمية الثانية، وخلال انشغال بريطانيا وفرنسا في إعادة بناء ما تهدم من بلادها، وكان كثيراً جداً؛ وقد عملوا على إنجاز هذه المهمة بأموال أمريكية أطلق عليها إسم “مشروع مارشال”.
وقد بدا واضحاً، عمل الولايات المتحدة في وراثة النفوذ البريطاني والفرنسي في الشرق الأوسط، عندما اجتمع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت مع الملك عبد العزيز آل سعود عام 1945 على سفينة أمريكية رست في البحيرات المُرةّ التي تشكل جزءا من قناة السويس. ولم يُعرف نـَص ما دار بينهما من حديث، وإنما المفهوم مما تسرّب أن الرئيس روزفلت تحادث مع الملك عبد العزيز في نقطتين، هما إسرائيل والنفط. ويقال إن الملك عبد العزيز رفض اعتراف العرب بإسرائيل، أما عن النفط فقد انتهى الاتفاق إلى ضمان حقوق الطرفين (ويلاحظ أن هذا الحديث كان في عام 1945 بينما أقيمت دولة إسرائيل في 15/5/1948).
في عام 1946 زار الملك عبد العزيز مصر زيارة رسمية للملك فاروق. وكان الاحتفال به حارا وشديدا، رُدّدت فيه الأغاني والأناشيد، وكانت منها أغنية تقول في كلماتها ” أنتما عرشان في ظل الكتاب “، أي إن الفكر الديني اقتحم الأغاني بما لها من شعبية وتأثير، فاعتبرت عرش مصر في ظل الكتاب أي القرآن، مع أنه سقط بعد ذلك بست سنوات.
في مصر كان الملك فاروق شابا لاهيا تحيطه حاشية، قيل أنها فاسدة، ثم تبين بعد ذلك أن الفساد قرين كل حاشية. وكان الوفد بزعامة مصطفى النحاس يمثل الشعب، ويعبر عن التحررية ( الليبرالية) ومن مبادئه أن الدين لله والوطن للجميع. لكن الزعيم كان قد وهن فآوى إلى بيته عوضا عن الالتحام بالجماهير في المدن والشوارع، وصارت عائلة زوجه هي عائلته. ونتيجة لذلك فقد سيطر على الحزب بعض كبار ملاك الأراضي (ولا يُقال الإقطاعيين، لأن الإقطاع بمعناه العلمي لم يحدث في مصر أبداً). وقابل هذه السيطرة تكوين بعض شباب الوفد بقيادة المحامى عزيز فهمي لتكتل اسْموه “الطليعة الوفدية” وكان اتجاهها يساري بعض الشيء. بهذا صارت القوى الظاهرة والسائدة في العمل السياسي في مصر هي جماعة الأخوان المسلمين (التي اكتسبت قوة من دعم أحزاب الأقلية لها في الفترة من عام 1946 – 1948) والماركسيون الذين كانوا يعملون في السر، متوزعين بين عدة جماعات أظهرها جماعة “حدتـّو” وحُسبت الطليعة الوفدية ضمن الاتجاه اليساري الذي قد ينتهي إلى الماركسية.
كانت مصر بعيدة عن العالم العربي إلى أن أنشئت جامعة الدول العربية في 22 مارس 1945 فصارت مصر بطبيعة الحال (Par Excellence) قائدة لهذه الجامعة، خاصة من خلال وجود مبناها الرئيسي في القاهرة، وتعيين الأمين العام لها من أبناء مصر، وكان في أول إنشائها هو عبد الرحمان عزام (الذي لعب دورا سلبيا خطيرا في المسألة الفلسطينية، ويراجع في ذلك كتابنا صراع الأمم).
بوجود مصر في الجامعة العربية، وصيرورتها الرئيس الفعلي لها، تورطت بدخول جيشها النظامي حرب فلسطين، وهو ما أدى إلى أوخم العواقب وأسوأ المصائر.
ففي 29 نوفمبر 1947 صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى عبرية. ولم تكن الخرائط التي ألحقت بالتقسيم، بل ولا فكرة التقسيم ذاتها، مُرضية للصهيونية (وهى الحركة السياسية لليهودية المعاصرة) ولا للعرب. لكن الصهيونية أبدت الموافقة على القرار وهى تـُضمر نقضه، أما العرب فقد رفضوا القرار، فكانوا بذلك مخالفين للشرعية الدولية، وهذا أول خطأ منهم ساهم فيه أمين الجامعة العربية. وسارت المظاهرات في شوارع البلاد العربية وأولها القاهرة تنادى بالجهاد أي تدعوا إلى الحرب، والحرب أو الجهاد ليس قولاً يُقال أو شعاراً يُرفع، إنما هو جيوش مجهزة، وأسلحة مُعدة، وأموال لا تنفد، ومخابرات تجمع المعلومات وتحللها، وخطط ترسم كل كبيرة وصغيرة، وعلاقات سليمة وصحيحة بالمجتمع الدولي وخاصة الدول صاحبة النفوذ، يضاف إلى ذلك كله قاعدة شعبية واعية مرشـّدة وبـِنى تحتية (Infra Structure) متكاملة وسليمة… وهكذا. وقد قاد المظاهرات أفراد ومجموعات من الإخوان المسلمين ( التي كانت تريد الحرب لتجمع السلاح بقصد استخدامه في قلب نظام الحكم). وكانت الحكومة المصرية حتى شهر ابريل 1948 تعتزم ألا تدخل الحرب رسميا بالجيش، لكن أن تساعد الفلسطينيين بالمال والسلاح على أن يحاربوا بأنفسهم. وتدخل الملك فاروق في هذا الوقت طالبا من الحكومة أن تدخل الحرب بالجيش المصري، ولما عورض هذا الرأي في مجلس الشيوخ ( المصري) بأنه ليس لدى الجيش أسلحة ومعدات كافية قال النقراشي ( باشا) رئيس مجلس الوزراء آنذاك بأنه وعد الملك بدخول الحرب بالجيش المصري، وأن الملك تلقىّ من البريطانيين وعدا بأن تـُفتح مخازن السلاح في الإسماعيلية أمام الجيش المصري ليأخذ منها حاجته. وكانت في ذلك حماسة دون سياسة، وحماقة بغير تدبير. فكيف يدخل الجيش حربا وهو يعتمد على سلاح تقدمه قوى معادية له، وقد تكون قد وعدت بمدّه بالسلاح حتى تـُوقع به!؟
تحت تأثير مظاهرات الجهاد بغير عتاد والحماسة دون سياسة، دخل الجيش المصري الحرب ضمن خطة أن تدخل معه الجيوش العربية، لكن ما حدث أن اندفعت القوات المصرية وحدها، خلال الأراضي الفلسطينية، بسهولة وبسر فخدعها ذلك وظنت أن الحرب لعبة. ولما افتقد الجيش السلاح بعد ما أغلق البريطانيون مخازنهم اضطر إلى شراء أسلحة على عجل. وعندما انفجر مدفع واحد نتيجة سوء الاستعمال تكاتفت القوى المضادة للملك والمناوئة للحكم على الادعاء بأن الملك اشترى أسلحة فاسدة ليحصل من ذلك على عمولة لنفسه، وهو قول مرسل من أقوال الإشاعات التي تؤثر فيمن يرغب في سماعها وتصديقها، مع أنه يدحضها أن الملك فاروق بعد أن تنازل عن العرش عاش في ايطاليا على أموال ترسل إليه كل شهر من ملك عربي، كما أن شقيقتيه عملن ليحصلن على ما يسد حاجتهن، ولو كانت لديهم أموال لما عاش الملك السابق على معونة ولما عملت شقيقتيه، إحداهن عاملة في محال تجارية والثانية جليسة أطفال (Baby Sitter).
رغم البطولات الفردية لضباط وجنود القوات المسلحة فقد خذلتهم الخدع الدولية والرعونة المحلية. فعادوا إلى مصر ساخطين، وصارت مصر تغلي في انتظار التغيير. وفى عام 1951 عينت الولايات المتحدة كيميت روزفلت عميل المخابرات في مصر لقلب نظام الحكم، وظل فيها حتى عام 1955. وكانت في الجيش مجموعات سرية متعددة، لكن كيميت آثر المجموعة التي قامت بانقلاب 23 يوليو 1952. ولا شك أنه في إيثاره لهذه المجموعة كان قد وضع في تقديره أن الصاغ عبد الحكيم عامر يعمل في مكتب القائد العام للقوات المسلحة الفريق محمد حيدر. ونظراً لقرابة ( خؤولة) بينهما فقد كان عامر هو المدير الفعلي للمكتب وهو الصديق الصدوق لجمال عبد الناصر، وفى المكتب يعمل زكريا محي الدين (الذي قيل إنه هو الذي وضع خطة الانقلاب، بينما ساعده في ذلك ضباط ألمان). وفى كتابه (الآن أتكلم) ذكر خالد محي الدين أنه هو وجمال عبد الناصر حلفا يمين الولاء لجماعة الأخوان المسلمين، أمام رجل يرتدى زيا يخفيه كلية، في حي الصليبة بالقاهرة. وقد كان هو وعبد الناصر عضوين في حركة حدّتو الماركسية، بينما كان عبد الحكيم عامر، وهو الأقرب إلى عبد الناصر، بعيدا عن ذلك وذاك، بحكم قرابته للقائد العام وعمله في مكتبه، ولحماية عبد الناصر وصحبه إن لزم الأمر. والتردد بين الإخوان المسلمين، وهم أقصى اليمين، والحركات الماركسية السرية، وهى أقصى اليسار، لا يدل على وجود أفكار وآراء ومعتقدات محددة، بقدر ما يفيد التخابط والتخالط، وهو وضع كان عليه أغلب المصريين.
وقد قال لي فؤاد سراج الدين (باشا) رئيس حزب الوفد الجديد أمام عدد من كبار رجال الحزب، بعضهم ما زال على قيد الحياة، أن الفريق محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة زاره في قصره ابريل 1952 وهو غاضب أشد الغضب لأن الملك فاروق يرفض مقابلته رغم تكراره طلب المقابلة، ثم استشاط غيظا وهو يسب فاروق الملك بأقذع الألفاظ، ويتوعد بزلزلة كرسيه ( أي العرش). لكن فؤاد سراج الدين، لطبيعته، نصح حيدر بألا يُطلق لسانه بالسب المقذع ضد الملك حتى لا يصل إليه السب، لكنه لم يسأله عن سبب رفض الملك مقابلته، ولا حاول استجلاء توعّد حيدر بالانتقام من الملك بهز أو زلزلة ( أو ما في هذا المعنى) كرسي العرش. وقد نبهت فؤاد سراج الدين إلى ذلك فسكت، لكنى قلت له (أمام الحضور) ما تصورته من أن حيدر كان على علم بمجريات الانقلاب من عامر، وأنه أراد أن يضم الوفد إلى جبهته، وقد كانت للوفد آنذاك شعبية كبيرة. وربما كان سبب رفض الملك مقابلة حيدر أنه علم من أجهزة الأمن أن حركة أو تمردا ( لم يتصور أنه انقلاب ضده)يُحاك في مكتب القائد العام، لكنه لعدم حزمه لم يُقل القائد العام، وإنما اكتفى بعدم مقابلته ؛ ودفع بسبب عدم الحزم أو سوء المشورة ثمناً غالياً جداً ؛ لقد كان عاجزاً عن اتخاذ القرار المناسب والشاعر يقول (إنما العاجز من لا يستبد).
والذي يؤكد وصول أمر حركة أو تمرد إلى الملك أن الدكتور محمد هاشم ( باشا) زوج ابنة حسين سرى ( باشا) ووزير الداخلية آنذاك ذكر لي إن الملك فاروق سلـّم حسين سرى رئيس مجلس الوزراء كشفا بأسماء الانقلابيين، وطلب منه القبض عليهم، فرفض حسين سرى ذلك وقدم استقالته؛ لكن الدكتور محمد هاشم اتصل على الفور تليفونيا باللواء محمد نجيب، في حضور أركان حربه المؤرخ العسكري جمال حماد، وأخبره بأمر الملك القبض عليه وعلى الانقلابيين، ثم طلب منه الإسراع بالحركة ( التي كان الظن أنها حركة داخل الجيش أو تمرداً لبعض ضباطه) فتم تحديد يوم 23 يوليو 1952 للقيام بها.
في ليلة 22 يوليو 1952 حدث أمر عجيب، هو الذي أدى إلى نجاح الحركة. فلظروف خاصة بالقائمقام ( العقيد) يوسف صديق (وقد كان محسوبا على الماركسية) قدم موعد التحرك بقواته ساعة، خطأ منه. فلما تحركت القوات إلى مبنى قيادة القوات المسلحة كان جميع القادة منعقدين فيه لاتخاذ قرارات بشأن الحركة لإجهاضها والقبض على قادتها، فكانت غنيمة سهلة، إذ قبض عليهم يوسف صديق واستولى على مقاليد سلطاتهم. وبعد أن حدث ذلك ضبط الجنود شخصين يركبان سيارة ماركة (أوستن) صغيرة، وكان هذان الشخصان هما جمال عبد الناصر يقود السيارة، وإلى جواره عبد الحكيم عامر، وهما يرتديان أزياء مدنية، تتكون من بنطال وقميص ؛ ولما قبض عليهما الجنود دافعا عن نفسيهما بأنهما من الضباط الانقلابيين، فاقتادهما الجنود إلى مقر القيادة حيث كان المسيطر عليه هو القائمقام ( العقيد) يوسف صديق، فقال لهما يوبخهما (أنتم فين يا….) ورجع عبد الناصر وعامر إلى منزليهما وارتديا الملابس العسكرية ثم عادا إلى مجلس القيادة. وكان اللواء محمد نجيب قد اسْتدعى، فأعلنت الحركة بيانا جاء فيه أنها قامت بتطهير الجيش من الفاسدين، ودعت الشعب إلى العمل على تطهير باقي القوى. ومع الوقت سيطر على مجلس القيادة ضباط كانوا جميعاً على صلة بجماعة الإخوان المسلمين، فكانوا بذلك هم الجناح العسكري لهذه الجماعة (وكل ما حدث بينهم بعد هذا هو خلاف على السلطة)، وفصلوا يوسف صديق لأنه صادق في ماركسيته، ولأنه كان من رأيه واتفاقه مع الأخرين قبل قيام الحركة ألا يحكموا وأن يتركوا الحكم للساسة ؛ وكتب عن ذلك مقالة في مجلة روز اليوسف خلال أحداث مارس 1954.
ملحوظة – تشابك اثنان من السادة المعلقين على المقال السابق، يقول أحدهما إن الصيدلي محمود العيسوي قتل رئيس الوزراء بطرس غالى، ويرد الأخر عليه فيقول إنه ينبغي علينا أن نستنكر أي اغتيال، وأنه ربما يكون محمود العيسوي أثناء دراسته في انجلترا قد عومل معاملة سيئة أثرت على نفسيته. والصحيح أن الذي قتل رئيس الوزراء بطرس غالى ( باشا) هو ابراهيم الوردانى، أما محمود العيسوي فقد كان محاميا وهو الذي قتل احمد ماهر (باشا).
للدراسة بقية
saidalashmawy@hotmail.com