معركة القادسية في شاهنامه الفردوسي
من زمن بعيد، كنت مدركا ان الايرانيين وقد سحبوا خلفهم كل غبي يتلمظون بترديد اسم معركة بدر الكبرى حتى لكأنها معركتهم خاضوها، مقابل تركيز العرب السنة على معركتي اليرموك والقادسية، فلماذا؟
على الرغم من اهمية معركة بدر الكبرى والتي خصها الوحي بسورة “الأنفال” وشكلت رمزية كبرى ودلالة على التغير العميق الذي احدثته الدعوة في المجتمع الجاهلي، حيث نقلته من مجتمع يتقاتل على مصالح ترعاها علاقات عائلية وقرابات وتحالفات موالي لها، الى رمزية جديدة جديدة تعلن انتهاء مفهوم القرابة والدم والاسرة وتحل محله مفهوم العقيدة، وفيها قتل أمين هذه الامة أباه المشرك او سعى صديقها ابو بكر الى قتل احد ابنائها الذي كان يقاتله في معسكر المشركين، إلا ان معركة بدر الكبر كانت دائما محل “إخفاء” في السرديات السنية وخصوصا العربية منها ذلك انها في احد وجوهها كانت تؤشر الى صراع مع الأصل يقوده الابناء لا لقتل الاب، بل لإيقاف فقدانه للرشد و تناسيه لأصله التوحيدي واستخدامه اربابا من دون الله تمثل واسطة بينهم وبين الله يتقربون بها مباشرة له بدل التوجه مباشرة له. فأعداء الدعوة الجديدة هم انفسهم “الملأ من قريش” وبينهم خالد بن الوليد وابو الحكم الذي سقط اسمه ليصير ابو جهل ومعاوية ابن ابي سفيان وكبار تجار مكة ووجوهها و”النخب الثقافية فيها بتعبير اليوم. بمعنى أخر انها فتنة بين مجتمع الاهل وابناء الدم والحي والبلد الواحد.
مقابل ” بدر الكبرى” ركزت السرديات للاكثرية الاسلامية وهي بالطبع الاكثرية السنّية، وان خالطتها في دوائرها البعيدة عن مركز “الثقافة العالمة” مفاهيم افلوطنية هرمسية، ركزت على معركتي اليرموك والقادسية باعتبارهما معركتين ضد الخارج لا ضد الداخل. باعتبارهما المعركتين اللتين حسمتا الوضع النهائي لانتشار الاسلام واندفاعه الى حدود الصين شرقا والاطلسي غربا رغم توقفه على الحدود الجنوبية لأسيا الصغرى بانتظار دفع بشري جديد تمثل لاحقا في معركة ملاذكرد 450 هجرية وصولا الى فتح القسطنطينية وقلب تاريخ غربي اسيا الى الابد.
وقد تأصل هذا التوجه في مفهوم المهدي عند كل من الشيعة ومن يقول به من السنة. فالمهدي صاحب زمان الاثني عشرية مهمته حسب نصوصهم “ان يضع السيف في رقاب قريش حتى تقول قريش اف لهذا المهدي لو كان حقا ولد فاطمة لرحمنا”، و”وزراؤه من العجم الخلص لا يعرفون العربية ويحكمون بشريعة داوود”. ومكان ظهوره هو قلب أرض العرب في الجزيرة العربية يقاتل السفياني ينصره العسكر الخرساني ومعه اليماني.(منتخب الأثر في الامام الثاني عشر لآية الله كلبكاني، قم ).
أمّا المهدي عند السنّة مكان ظهوره بلاد الشام (روايات المهدي السنية تعممت زمن الحروب الصليبية). فالشام ارض الملاحم الكبرى ووظيفته قتال الروم زمن الحروب الصليبة او قتال “العلمانيين” حسب النورسي في العصر الحالي.
وبقيت اليرموك والقادسية هي الصورة الناصعة الاكثر تظهيرا في الاسلام والاكثر راحة للعرب خاصة، فهي انتصار مشرف على اعداء خارجيين تتوحد الامة كلها في قتالهم ويكون في الانتصار بها خير مزدوج لهم ولمن يقاتلوهم: “جئنا نخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس”.
لقد تمسّك الاسلام الاكثري بابتعاده عن كل ما يشير الى الفترة القلقة من تطاحن ابناء الدعوة الواحدة بمحاولة الابتعاد عن الموضوع وتوقيف اثر استمراره (تلك امة قد خلت، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ولا تسألون عمّ كانوا يفعلون)، بل ذهب بتحميل المسؤولية الى عنصر خارجي، “الغريب” بمفهوم اليوم، عبدالله بن سبأ . وقد واصلت السردية الاسلامية الكبرى التعبير عن رفضها الفتنة والاقتتال الداخلي حتى ان “كتاب الفتن” والتحذير منها والدعاء لتجنبها يعتبر نقطة مركزية في الفكر الاسلامي. ووصل الاسلام الاكثري الى حد التأصيل لمفهوم سياسي يقوم على الفصل بين المسلمين والسلطان، فالفتنة دائما نائمة ولا تموت ولعن الله من ايقظها. وليس امتع عند هذه السردية الاسلامية الكبرى من موضوع “تصويب البوصلة باتجاه العدو الخارجي”.
مذ مئتي سنة ومع بدء “دخول الخيل الازهر” ونجاح الغرب في فرض وكلائه من عسكر محمد على الى تعيين اقلياته في الولايات العثمانية الشمالية، إلى ادخال عدو جديد كان بعد يثرب حليفا رافقنا من الاندلس الى المشاركة معنا كمستشارين ابان غزوات الفرنجة (موسى بن ميمون مستشار صلاح الدين) ووقوع النكبة الاولى، نكبة فلسطين، فإنّ السردية العربية – الاسلامية الكبرى توجهت باتجاه اليرموك، دون ان تنسى القادسية باعتبار رضا بهلوي وارتباطه بالغرب وتقاربه مع نوري السعيد وحلف بغداد في خمسينيات القرن الماضي.
في الحرب التي استأنفتها ايران الخمينية ضد عراق صدام حسين بتاريخ 12 تموز 1982 (نلاحظ انه نفس التاريخ الذي قام فيه حزب الله اللبناني بحرب 2005، تحت شعار “نصرة غزة”) عاد موضوع القادسية ياخذ بعده مجددا بوصفه سردية ضد الخارج.
في تلك الفترة انشأت ايران “منظمة بدر”، وهم شيعة عراقيون عرب، وانشأت حزب الله، وهم شيعة عرب ايضا، وانشأت “فيلق القدس” للمزايدة بانها هي التي تمثل “اليرموك”. الاسمان الاوليان (بدر وحزب الله)، يحيلان في الباطن و”تقية” الى الصراع الداخلي. الملاحظ ان ايران غطت محاولات المس بهما بنفس العنوان الذي كانت تتمسك به السردية الاسلامية الكبرى “الفتنة “.
تطورت منظمة بدر الى “فيلق بدر” بعد تعاون ايران مع امريكا في احتلال العراق. وها هو فيلق بدر بقيادة “العامري” الذراع العسكري لايران، لا في العراق، بل في اعادة انهاء مفاعيل “معركة القادسية”.
من سنوات، كنت اعتبر كل عملية اطلاق صاروخ “مجهول الهوية” من الجنوب اللبناني نحو اسرائيل تحت مسمى اي مجموعة تتخذ من “بدر” اسما لها، اعلانا يفهمه الاسرائيليون على انه رسالة ايرانية.
في الختام، ليست “بدر” الايرانية والتلمظ بها سوى عنوان لمشروع يقوم به من خرج عن الكل الذي ينتمي اليه واتخاذه آخر يناصبه العداء.
لقد عاد ابليس الى احضان معلمه الشيطان الأكبر. وفتحت معركة تستمر لعقود. لكن في النهاية سينتصر فيها الفكر الاكثري صاحب السردية الكبرى لأنه لو لم يكن الاقدر على التجاوز، لما تمكن تاريخيا من ان يكون الاكثرية.
لا اخاف من تنظيمات يصفونها اليوم بـ”خوارج” او “ارهابيين” او “تكفيريين”، ذاك انه لا بيئة حاضنة لها من اصحاب السردية الكبرى الا في حالة شعور حملة هذه السردية بانهم في حالة خطر وجودي.
عروش كثيرة قد وصلت الى نهاياتها. و كل سايكس – بيكو دخل في الربع الاخير من عمره.
إنها إعادة رسم السرديات لكن السردية الكبرى تثبت بالدم، بدمها وبدم اصحاب السرديات الأقلوية التي ستفتك بها بلا رحمة، هذه المرة . هذا هو تاريخ المنطقة خلال المئة سنة قادمة. ونهايته ولادة جديدة لحياة مستأنفة باساليب مبتكرة.
عن “بدر” الايرانية مقابل اليرموك والقادسية العربية الاسلامية
مقال عميق جدا.
للأسف و لنكن صرحاء، فالسنة أغبياء.
كل هذه الدماء من أجل أن يعرفوا الأعداء من الأصدقاء؟!