هناك فراغ في اليمن. هذا الفراغ ناجم، بكلّ بساطة، عن سقوط نظام استمرّ في السلطة ثلاثة وثلاثين عاما، من 1978 الى 2011. لم يوجد من يملأ الفراغ الناجم عن محاولة الاخوان المسلمين وراثة علي عبدالله صالح.
كانت النتيجة ان خروج الرجل من السلطة استجابة للمبادرة الخليجية وبعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في حزيران ـ يونيو 2011 ادّيا الى خلط كلّ الاوراق في البلد وصولا الى استيلاء الحوثيين (انصار الله) المدعومين من ايران على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول ـ سبتمبر 2014 وبدء “عاصفة الحزم” قبل عامين تقريبا.
من بين الأسباب الرئيسية للفراغ في اليمن فشل “الشرعية” الممثلة برئيس موقت، كان مفترضا ان لا يبقى في موقعه اكثر من سنتين، وذلك منذ تولّى مقاليد الرئاسة في شباط ـ فبراير 2012. كان هذا الفشل على كلّ المستويات. لم يستطع الرئيس الموقت ان يكون بديلا من علي عبدالله صالح. هذا عائد الى أسباب عدّة في مقدّمها ان تركيبته لا علاقة لها من قريب او بعيد بتركيبة الرئيس السابق من جهة والى انّ الظروف في اليمن تغيّرت كلّيا من جهة أخرى.
لم يعد في الإمكان التصرّف بالطريقة التي كان يتصرّف بها علي عبدالله صالح في ظلّ ظروف وأوضاع مختلفة كلّيا تفرض اوّل ما تفرض تأقلما معها، خصوصا بعدما اضطرّ الرئيس الانتقالي، الذي لا يزال يعتقد الى الآن انّ في استطاعته ارتداء بذلة سلفه، الى الهرب من صنعاء الذي احتجزه الحوثيون فيها بعد وضع يدهم عليها.
تظلّ “عاصفة الحزم” التي بدأت في آذار ـ مارس 2015 التطوّر الأهم على صعيد اليمن والمنطقة المحيطة به نظرا الى انّ هذه العملية العسكرية المستمرّة منذ ثلاثة وعشرين شهرا لا يمكن ان تتوقف ما دام اليمن لم يجد بعد صيغة يستقرّ عليها. الاهمّ من ذلك، ان هذه العملية جاء ردّا على الفراغ القائم في اليمن الذي استغلّته ايران التي لم يتردد المسؤولون فيها في الإعلان عن ان طهران باتت تتحكّم بأربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. حدث ذلك فور سيطرة “انصار الله” على العاصمة اليمنية نتيجة أخطاء كثيرة بعضها ارتكبه الرئيس الموقت.
لم يعد جائزا ترك اليمن لقمة سائغة لايران، خصوصا بسبب الموقع الاستراتيجي للبلد الذي يتحكّم بمضيق باب المندب. حققت “عاصفة الحزم” نجاحات كبيرة كان آخرها ابعاد “انصار الله” عن ميناء المخا الذي يمكن استخدامه للتحكّم بباب المندب الذي يشكل مدخلا الى البحر الأحمر ومنه الى قناة السويس. قبل ذلك، جرى تحرير عدن ثمّ المكلا، عاصمة حضرموت. بذلت قوات التحالف العربي على رأسها القوات الاماراتية جهودا كبيرة لتحقيق هذه الانجازات العسكرية التي أدت الى افشال المشروع الايراني في اليمن. قدّمت تضحيات كبيرة من اجل تحقيق ما تحقّق ومنع ايران من ان تكون في عدن والمخا وتقليص وجود “القاعدة” و”داعش” في حضرموت وابين وشبوه وحتّى في عدن نفسها.
كان طبيعيا ان تتفهّم “الشرعية” في اليمن معنى الذي يجري وابعاده وذلك في وقت انحسر الوجود الحوثي في شمال الشمال وفي مناطق جبلية في الوسط من بينها جزء من تعز. تكمن المشكلة في ان هذه “الشرعية” لم ترتفع الى مستوى الحدث والى مستوى الانجازات التي تحققت.
لم تستوعب “الشرعية” ان “عاصفة الحزم” التي قادتها المملكة العربية السعودية لم تحرر المناطق الجنوبية وقسما من الوسط وجزء من مأرب فحسب، بل ترافق ذلك ايضا مع توفير حماية لمطار عدن وميناء المدينة، الذي كان في مرحلة معيّنة احد اهمّ ثلاثة موانئ عالمية.
ما يجري في اليمن ليس إحلال نظام مكان نظام آخر، كي يمارس انصار عبد ربه منصور هادي ما كان يمارسه بعض المحسوبين على علي عبدالله صالح في مطار عدن. ثمّة حاجة الى اخذ العلم بان المطار يشكلّ حلقة مهمّة، بل محورية في حماية امن الجنوب اليمني والوجود العسكري للتحالف العربي… في انتظار اليوم الذي يجد فيه اليمن صيغة تحدّد مستقبله. الأكيد ان الصيغة المستقبلية لليمن ستكون بعيدة عن وهم العودة الى الدولة المركزية التي انهارت في اليوم الذي دارت فيه الاشتباكات داخل اسوار صنعاء بين مؤيدي علي عبدالله صالح وخصومه، على رأسهم الاخوان المسلمون.
هناك شبكة امنية مرتبطة ببعضها البعض في المنطقة المحيطة بعدن وفي القرن الافريقي. ليس مطار عدن مجرّد مطار يدخله مسافرون ويخرجون منه. انّه منفذ مهمّ للتحالف العربي، خصوصا انّ فيه قاعدة عسكرية أيضا على ارتباط مباشر بجيبوتي وغير جيبوتي.
بكلام أوضح، هذا ليس وقت المماحكات وتصفية الحسابات الصغيرة والبحث عن خوّات ومواقع نفوذ لا في مطار عدن ولا في اماكن أخرى مثل ميناء المخا او ميناء المكلا. هناك حرب حقيقية تدور في اليمن. لهذه الحرب ابعاد إقليمية نظرا الى انها تشمل القرن الافريقي أيضا. ليس صدفة انّ جهودا بذلت كي لا يعود ميناءا مصوع وعصب في اريتريا مركزين لتهريب الاسلحة الآتية من ايران الى الحوثيين والمتحالفين معهم. ليس صدفة أيضا ان الوجود العسكري الاماراتي توسّع ليشمل جيبوتي وميناء بربرة في “ارض الصومال”. من يعود الى سبعينات القرن الماضي وثمانيناته يتذكر حدّة الصراع الاميركي ـ السوفياتي على موانئ تلك المنطقة وكيف استطاع الاميركيون تحويل بربرة الى قاعدة لهم بعدما انقلب الرئيس الصومالي محمّد سيّاد برّى على السوفيات الذين خذلوه في حرب اوغادين. خاض سيّاد برّي حرب اوغادين مع اثيوبيا التي كانت لا تزال تسيطر على اريتريا وقتذاك. فضّل السوفيات، الذين كانوا يسيطرون، الى حدّ كبير، على اليمن الجنوبي، دعم اديس ابابا على الرضوخ للرئيس الصومالي ومطالبه غير المعقولة…
لا مكان لما يدور في اليمن وحول اليمن للاعبين صغار لديهم همومهم المحليّة. ما على المحكّ كبير، بل كبير جدّا، ولذلك كان التعامل مع سعي عبد ربّه منصور والقوى المحلّية المتحالفة معه الى السيطرة على مطار عدن بجدّية ليس بعدها جدّية.
ما لا يمكن تجاهله انّ أرواح العسكريين الامارتيين عزيزة على قيادة البلد اوّلا. كذلك لا يمكن في أي شكل الاستخفاف بما تعنيه ان تملأ قوة معادية الفراغ اليمني، خصوصا في عدن والمواقع التي تتحكّم بباب المندب. لم يخرج السوفيات من تلك المنطقة ليحل مكانهم الايرانيون. هناك قوة كبرى في المنطقة هي الولايات المتحدة وهناك قوى أخرى ذات وزن فيها مثل فرنسا وهناك اهتمام صيني قوي باثيوبيا التي لم تعد تمتلك منذ استقلال اريتريا منفذا بحريا، فاصبحت تحت رحمة جيبوتي ولا احد غيرها.
من اجل إعطاء فكرة اهمّية اليمن الجنوبي الذي خرج من السيطرة الايرانية والذي لا تزال تهدده قوى متطرّفة وارهابية، لم تستطع “الشرعية” التعاطي معها بالطرق المناسبة، يمكن العودة الى واقعة حصلت مع الرئيس ليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمّد. كان علي ناصر وزيرا للدفاع في “جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية” في العام 1973 عندما اندلعت حرب أكتوبر بين مصر وإسرائيل. أراد علي ناصر التهويل باغلاق باب المندب امام الملاحة دعما لمصر. جاءه اتصال من وزير الدفاع السوفياتي يبلغه فيه انّ مثل هذا التهويل غير مسموح به نظرا الى ان باب المندب “مضيق دولي”. فهم وزير الدفاع اليمني الجنوبي الرسالة في حينه ونسي ما كان قاله عن المضيق.
مطار عدن هذه الايّام ليس مجرّد مطار عادي. انّه اكثر من مطار. هل من يريد ان يسمع ويفهم ويستوعب ويرتفع الى مستوى ما يدور على صعيد البلد والمنطقة؟
في عزّ الحرب الباردة، عندما كان اليمن الجنوبي جرما يدور في فلكه، لم يستطع الاتحاد السوفياتي ملء الفراغ الناجم عن الانسحاب العسكري البريطاني من منطقة الخليج العربي. الأكيد ان ايران ستفشل حيث فشل الاتحاد السوفياتي، السعيد الذكر، خصوصا ان هناك قوى إقليمية تمتلك شبكة علاقات دولية ليست على استعداد للتساهل في هذا الموضوع بايّ شكل من الاشكال.