لا يمضي يومٌ على جريمة ذبح المطربة سوزان تميم، حتى تتسع رقعة من يتهمون الملياردير هشام طلعت مصطفى، الاقوى بين اقوياء مصر. «قوته» تعيده الى بلاده عملا بعرف جديد قوامه: من يرتكب جريمة خارج الاراضي المصرية، يعود اليها. ومن يرتكبها داخل البلاد، يخرج منها. واقتضت «الحماية» ايضاً، في حالتنا هذه، حظر تناول المشتبه به في الصحافة، مقابل استضافته في برامج الاقنية الحكومية الذائعة، مثل «البيت بيتك» و«صباح الخير يا مصر». وإغراق مسلسلات رمضان بحملات إعلانية عن «منتوجات» شركته: مجمعات سكنية وسياحية «راقية» في الصحراء… والغرض من الاستضافة والحملة غسل سمعته وإنقاذ رأس ماله من الضياع. رأس مال بسيط: 20 مليار جنيه مصري، اي 5 مليار دولار تقريباً.
ولكن تأجيل التهمة لا يطول. تحقيقات الشرطة الامارتية بالتعاون مع «الانتربول» تبلغ السلطات المصرية ادلتها الموصوفة لأنها دامغة. والاتفاقات الامنية بين البلدين لا تسمح بغير التصرف بناء على هذه الادّلة. فيكون اعتقال الملياردير بتهمة تكليف ضابط شرطة سابق، اسمه محسن السكّري، بقتل سوزان تميم، بوحشية، وأينما وُجدت؛ مقابل مليوني دولار. والملياردير بدوره نائب معّين في مجلس الشورى. وعضو لجنة الاسكان (؟) في المجلس نفسه، وعضو لجنة السياسات، القيادة العملية للحزب الوطني الحاكم. وُجب اذاً رفع الحصانة عنه قبل اعتقاله بأمر من النائب العام، واخضاعه للتحقيق؛ في سجنه الذهبي، حيث يصله طعام «الإفطار» من فندق «الفور سيزون»…
المعنى الأول. ولا اوضح. الزواج الشهير الذي لا ينفك المصريون يشيرون اليه بمرارة، بين المال والسلطة. ويتجلى هذا هنا بالديناميكية التي اطلقتها الجريمة. كان يجب ان تقع الجريمة وان يكون منفذها غبيا (بسبب شراسته ربما…) لتتجلى المواقف، او تتكرر. فلا ننسى ان النظام حمى اشهر المتهمين من بين اصحاب المال (مالك «عبارة الموت» التي اغرقت المئات في البحر الاحمر؛ ممدوح اسماعيل، المتهم بالدم الملوث الذي اصاب الآلاف بالكبد الوبائي، هاني سرور…). لكن النظام يضطر للتراجع عن حمايته… ليشير بذلك الى معاني هذا الزواج: زواج حميم غير متكافىء بين المؤسسة الهرمة، وبين اغنى الطبقات واقواها صلات مع سوقها الخارجي، الأكثر تعولما. رجال اعمال العصر…
ما هو نمط انتاج هؤلاء الرجال؟ التسويق والعلاقات العامة في البدء، ثم شراء اراضي الدولة باثمان بخسة، نظرا لحاجتها الى السيولة. وبناء المدن والمنتجعات الفاخرة في الصحراء، المخصصة لنخبة معينة، هاربة من فوضى القاهرة وعشوائياتها. ليس انتاجا صناعيا او زراعيا او خدميا. ولا هو تنموي. انه بالاحرى عبارة عن حركة إثراء سريعة جدا قائمة على مخالفات قانونية. سلوكياتها واخلاقها تحاكي نمط انتاجها: الشراسة والتطرف، انعدام الذوق والتفلّت من القانون.
محسن سكري، منفذ الجريمة؛ تجسيد آخر لقيم واخلاقيات ابن طبقة اخرى: الطبقة الوسطى، العاملة في الادارة الحكومية. في توقه نحو حياة «أفضل»، لا يجد اسهل واسرع من خدمة رجال اعمال العصر. يخرج من سلك الشرطة حيث يخدم ويقاتل الارهاب التسعيني، ويعمل مع نجيب ساويرس؛ وهو قوي آخر من الاقوياء. وبعد عملية احتيال عليه يتكسّب منها مئات الآلاف من الدولارات، ينتقل الى خدمة هشام مصطفى؛ عارضاً عضلاته للخدمة، لا عقله. العرض عند محسن والطلب من قبل هشام. انه حراك طبقي، من النوع الذي يجسد طبيعة العلاقة بين الادارة الرسمية والمال الخاص. حراك يندثر معه إعتدال الطبقة الوسطى في سلوكياتها واخلاقها. وتنجرّ الى تطرف اخلاق قصوى، اخلاق الطبقة القصوى، المتطرفة. بفضل الجريمة، بلغ المعنى هنا مرتبة اخرى من الوضوح.
هذه الشراسة لا تخفي الازدواجية الصارخة للمتهم الملياردير. الصورة التي يحرص على تسويقها في الاعلام: التقي، الصائم، الحاج، المعتمر، الذي ينشىء «بنك العفاف» لمساعدة الشباب المحتاجين على الزواج، «صونا لعفّتهم». اما في حياته الواقعية فتغّول: زيجات ونَزَوات، شجع ومخالفات واستباحة حياة. إزدواجية اخلاقية، ركيزتها إزدواجية اخرى: بين سِعَة «الانفتاح الاقتصادي» غير المقنّن بقانون، مقابل ضيق الانغلاق على الهوية الدينية، والمفتونة بالمزيد من الانغلاق. روتين هذه الازدواجية ينكسر عند بلوغه احد حدوده القصوى. والجريمة واحدة من هذه الحدود.
لكن الزواج بين البزنس والسلطة يغفل زواج البزنس مع «فن» الفيديو كليب و«فناناته»، اللبنانيات خصوصاً. ولا نحتاج الى احصاء مطول لنلاحظ المعنى الحرفي لهذه المقولة: بان رجال اعمال مرموقين او مغمورين يقترنون او يحلمون بالاقتران… من لبنانيات هن من أهل الفيديو كليب. واذا ارتفعوا درجة عن نظرائهم، سعوا الى «النجمات» من بين اولئك «الفنانات».
«فنانات» الكليب هن الآن الاكثر حضورا اعلاميا. الاكثر تعرضا للنظر والاستماع. هن الاكثر ثراء، الاسرع ثراء، الاسهل ثراء. البعض من نجماته الاكثر لمعاناً، هن «رائدات» وممثلات لمواطناتهن في الثقافة والاجتماع العربيَين. سرهن «العربي» ان العيون العربية متعطشة الى العري. العيون هذه ملّت العباءة والنقاب. نظرها يختار الكليب تصطاد بها اللذة والفريسة. وتستنفر غريزة الامتلاك. والبقية معروفة…
وحالة سوزان تميم هي الحالة القصوى من بين حالات البصْبصة الجماعية هذه: 250 مليون دولار هو الارث الذي تركته. فمن اين لتميم هذه الثروة؟ وهي التي لم «تنتج» طوال الاثني عشر عاما من عمرها «الفني»، غير شريط واحد وثلاث حفلات؟
سوزان تميم قليلة الحظ في الحياة وفي السعي. ليست سوى النموذج الاقصى الذي بلغنا بالجريمة حين قتلها غولٌ حول الانفتاح الى إستباحة.
صورة سوزان تميم في الجرائد، وصورة هشام مصطفى كذلك، لا تشيان بغير هذا…
dalal.elbizri@gmail.com