بدايات أي شيء تحكم مساراته وتحدد إتجاهاته، بحيث يكون من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – بغير دراسات علمية ومبادرات اجتماعية واجتهادات شخصية، أن يخرج الاتجاه العام أو أن يحيد الجهد الفردي عن هذه البدايات. ومن ذلك، فإن على من يريد أن يتفهم كنه الأدب العربي ويتعرف خصائصه ويتتبع مؤثراته، على الجماعة وعلى الفرد، أن يشق التاريخ عودة إلى الماضي البعيد، حين نشأت اللغة العربية، وعندما بدأت خطواتها الأولى على وجه الزمان وفى عقل الإنسان.
اللغة العربية ليست هي الآرامية، كما قد يقال خطأ، وليست امتدادا لهذه اللغة أو فرعا منها، فالآرامية لغة القبائل الآرامية التي كانت تنتقل في الصحراء المتاخمة لمنطقة ما بين النهرين: نهرى دجلة والفرات، منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ثم نزح قسم من هذه القبائل إلى بلاد الشام واستقر في مناطق مجاورة للمناطق التي كان يقيم فيها الكنعانيون، واشتبكت لغتهم مع لغة الكنعانيين فكتب لها النّصر، كما كُتبت لها الغلبة في المشرق على اللغة الأكادية، فلم ينتصف القرن الرابع ق.م حتى كانت الآرامية قد تملكت جميع الألسنة.
وبهذا ورثت الآرامية جميع اللغات الشرقية والشمالية وأصبحت هي اللغة السائدة في التخاطب في كل بلاد العراق من جهة وفى بلاد الشام، سوريا وفلسطين وما إليها، من جهة أخرى. ووصلت اللغة الآرامية إلى أقصى درجات الإنتشار في الفترة ما بين 300 ق.م – 650 م، وصارت إلى حد كبير لغة دولية، فجاوزت حدودها إلى مناطق اللغة العربية، وصارت تستخدم كلغة كتابة في بعض المناطق منها، كما أنها تركت آثارا ظاهرة في اللهجات العربية البائدة.
أما اللغة العربية فليست من شعبة اللغة الآرامية – التي كانت سائدة في عهد السيد المسيح وتكلم بها – لكن تلك اللغة (العربية) تؤلف من اللغة اليمنية القديمة واللغات الحبشية السامية شعبة لغوية واحدة يُطلق عليها اسم الشعبة السامية الجنوبية. وما يُعرف من آثار اللغة العربية يدل على نشأة حديثة لها، بالنسبة إلى اللغة الأكادية (2000 ق.م) واللغة العبرية (1100ق.م) واللغة الفينيقية (1000ق.م)؛ اللغة الآرامية (9000ق.م)؛ ذلك أن أقدم ما وصل إلى البشرية من آثار العربية الباقية لا يكاد يتجاوز القرن الخامس بعد الميلاد. وقد كانت ثم لغة عربية بائدة يظهر أنها لأمم (جماعات) تأثرت بالآرامية. أما العربية الباقية، والتي هي اللغة العربية حالا (حاليا)، فأمر نشأتها وتطورها خاف غير معروف، ولم تظهر واضحة إلا من خلال الشعر الجاهلي الذي يرجع أقدمه إلى القرن الخامس بعد الميلاد، وهو شعر لم يجمع ويدون إلا في عصر التدوين الإسلامي، بدءاً من القرن الثالث هجري.
ومن العربية البائدة عُثر على بضعة آثار أهمها قبرية أمرؤ القيس بن عمرو، وتاريخها سنة 328م. وفى هذه القبرية التي عُثر عليها في أطلال النمارة في حوران، كتابة عربية بالخط النبطي يقرأ فيها:
تى نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التاج. عكدى هلك سنة 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده.
وهى حين تترجم إلى العربية الحالية تقرأ:
هذا قبر امرؤ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي تقلد التاج إلى يوم توفى سنة 223 أيلول (سبتمبر) وفـّق بنوه للسعادة.
وإذ كان أهل الشام وحوران وما يليهما يؤرخون في ذلك العهد بالتقويم البصروى، نسبة إلى بصرى عاصمة حوران، وهو يبدأ بدخولها في حوزة الروم سنة 105 ميلادية، فإن إضافة 105 إلى 223 تجعل العدد 328، وهى السنة التي توفى فيها ذلك الملك (امرؤ القيس بن عمرو).
مفاد ما سلف، أنه وفقا للمنهج العقلي وتبعا للأسلوب العلمي، فإن اللغة العربية ليست هي اللغة الآرامية، كما أنها لم تتفرع عن هذه، بل إن كلا منها من شعبة لغوية تختلف عن شعبة الأخرى. غاية ما حدث، من علاقة بينهما، أن اللغة العربية البائدة تأثرت باللغة الآرامية، مع تغاير الشّعب وتباين الأصول، فأخذت عنها كثيرا من الألفاظ. والثابت أن اللغة العربية الحالية، وهى تختلف عن اللغة العربية البائدة، قد اكتملت بعد تطور حتى ظهرت في القرن الخامس الميلادي (أي قبل أقل من قرن واحد من ميلاد النبي صلعم) في صورة الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا، بعد أن تم تدوينه، في عصر التدوين الإسلامي، خلال القرن الثالث الهجري أي الثامن الميلادي.
متى كان الأمر كذلك، فإنه لا يكون ثمة صارف عن الاتجاه إلى الشعر الجاهلي لاستبانة بداياته وأسلوب نشأته، لتفهم طبيعة اللغة العربية، وأثر ذلك، على الذين يستعملونها، في الفكر أو القول.
مستقر الأمر أن الشعر والغناء من أصل واحد، عند جميع الأمم، وفى كل الجماعات البشرية. فإذا كان الحال كذلك، فإن الشعر وُضع ابتداء للتغني به وإنشاده في أحوال العبادة أو في مديح الحكام. ومن معنى اختلاط الشعر بالغناء ما يقوله اليونان والرومان من أن الفرد “غنى شعرا” (لا نظم شعرا أو وضع شعرا). والعرب تقول: انشد شعرا أو أنشد الشعر أي غناه. وكان بعض الشعراء يغنون شعرهم، كما كان الأعشى يفعل، ومن ثم قيل إنه صناجة العرب. فإذا لم يكن الشاعر قادرا على الغناء أنشد شعره. وفى بعض الحالات، ولدى بعض الناس (مثل هارون الرشيد) كان الإنشاد (أو الترتيل) أكثر فاعلية وأشد تأثيرا من الغناء.
ومن المقرر أنه قبل أن يبدأ الشعر، بأوزانه وقوافيه، بدأ السجع بلا وزن، كما هو الحال في سجع الكهان الذين كانوا ينشدون أقوالهم، أو يرتلونها. ومما سُجل من هذا السجع العربي في ربط النجوم والبروج بأحوال الجو من برد وحر ما قيل في ذلك (إذا طلع السرطان استوى الزمان وحضرت الأوطان وتهادت الجيران. إذا طلع النجم – أي الثريا – فالحر في حدم والشعب في حُطم وهكذا).
أما النظم التي يقوم على الوزن والقافية فأبسطه الرجز،، وهو أقدم أوزان الشعر، كل بيت فيه ينفرد بقافيه خاصة، فهو كالسجع إلا أنه تقدم عنه فصار موزونا. وتقول العرب : إن الرجز قديم عندهم وإن أول من قاله شحص يدعى مضر بن نزار.
والرأي الغالب أن وزن الكلام بما صار يسمى شعرا، مأخوذ في الأصل من توقيع سير الجمال في الصحراء، وتقطيعه – في تفاعيل – توافق وقع خطاها. يتأيد ذلك بأن أول استعمال للرجز هو ما استخدمه العرب لسوق الجمال، وهو يسمى “الحداء”.، وكأنما قد وضع لهذا الغرض ؛ ذلك أن العربي القديم كان يقضى أكثر وقته في معاشرة النوق والجمال، ويستعملها في سفره الطويل عبر الفيافي والقفار، فينشد الرجز وهو راكب عليها، يقطع به الوقت ويغذها على السير الطويل والسفر البعيد، في الهجر القائط أو في البرد الشديد.
فإذا صارت الجمال الهوينا، أخذ الحداء أو الرجز وزنا معينا يسمى المشطور، ومثاله:
دع المطايا تتسم الجنوبا
إن لها لنبأ عجيبا
حنينها وما اشتكت لغوبا
يشهد أن قد فارقت حبيبا
ما عملت إلا فتى كئيبا
إن الغريب يُسعد الغرييا
أما إذا أراد الحادي أن تـُسرع الجمال في السير، حدا لها بما يسمى الرجز المنهوك ومثاله:
أعطيته ما سألا
حكمته لو عدلا
قلبي به في شغل
لا مل ذاك الشغلا
قيده الحب كما
قيد راع جملا
وقد صار هذا الرجز يسمى في موازين الشعر (بحر الخبت) لأنه يوافق في توقيعه خبت (أي ركض) الفرس، ومن مثاله:
أبكيت على طلل طربا
فشجاك وأحزنك الطلل
الرجز – إذن – أول بحور الشعر. وقد كان الشاعر يقول منه البيتين أو الثلاثة، ثم صاروا يطيلون النظم فيه. ويقال أن أول من أطاله هو الأغلب العجلى، على عهد النبي صلعم، ثم رؤبة إبن عجاج ؛ أي إن إطالة الرجز أمر قريب نسبيا، مع أن الرجز نفسه بدأ قبل ذلك بفترة طويلة، فواكب ظهوره نشوء اللغة العربية الحديثة (الحالية) ذاتها. أما الشعر، في بحوره الأخرى، فيما عدا الرجز، فكان يُنظم في مقاطع صغيرة، وأول من أطالها هو المهلهل حين رثى أخاه كليب وطلب ثأره، إذ كان أول من بلغت قصائده ثلاثين بيتا. بعد ذلك تعددت أوزان الشعر وتنوعت أغراضه، لكنه ظل مرتبطا بالغناء والألحان إلى حد كبير، فكان للرثاء وزن وللحماسة وزن آخر وهكذا ؛ كما كانت الألحان محددة بالغرض منها، مثال ذلك أن النصب كان غناء الركبان والفتيان، ويقال عنه الجنابى نسبة لاسم من وضع اللحن (الذي يخرج من أصل الطويل في العروض) ؛ أما الّسناد فهو الغناء ذو الترجيع الكثير النغمات، والهزج هو الغناء الخفيف الذي يحدث الرقص عليه.
وعندما استوت القصيدة وانتشرت، قامت أساسا على الشعر العمودي، وهو بيت من الشعر يليه بيت آخر ثم بيت ثالث فرابع وهكذا، على ميزان واحد، وقافية واحدة. وأخذت القصيدة شكلا واحدا، يبدأ بالنسيب (الغزل) ثم بالبكاء على الأطلال حتى تصل إلى الموضوع الأصلي سواء كان مدحا أم ذما أم فخرا أم ما سوى ذلك. وفى هذا المعنى يقول الشاعر:
إذا كان مدحا فالنسيب المقدّم
أكلُّ من قال شعرا متيم؟
أي إنه إذا كان الموضوع هو المدح فإن الغزل هو المبتدأ في القصيدة، مع أنه ليس كل شاعر مغرما أو متيما.
بداية الشعر العربي بخاصة، والأدب العربي بعامة، هو الرجز أساسا ؛ وهو إيقاع يرتله الراكب على ظهر الجمل أثناء يعبر به الصحارى البعيدة أو يقطع به الأودية الطويلة، فيرتل بيتا وراء بيت بعد بيت إثر بيت، والجمل يسير سيرا حثيثا في الغالب، بلا أدنى شعور بالزمان ؛ إذ ليس للوقت حساب في حالات كهذه. فما جدوى اليوم بله الساعة والدقيقة في حال وتيرية نمطية مستطيلة، أساسها السير المتواصل المستمر الرتيب، الذي لا يصل إلى الهدف إلا بعد لأي، ولا يحط على نهاية إلا بعد جهد. من ذلك الوضع وتلك البداية، صار الأساس في الثقافة العربية ترتيل جمل من الرجز أو ما أشبه، في استمرارية بلا نهاية، ليس فيها عنصر الزمنية، ولا يدخلها عامل الوقتية.
ظل الحال على هذا النحو حتى العصر الحديث. وفى قمة نجاح الشاعر أحمد شوقي تصدت له مدرسة الديوان (عباس العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري) وكانت ثقافتهم أنجلو سكسونية، أي قوامها اللغة الإنجليزية، في حين كانت ثقافة شوقي لاتينية، قوامها اللغة الفرنسية، ورغم اطـّلاع الجانبين على نماذج وأساليب الشعر الإنجليزي والشعر الفرنسي فإنهم ظلوا أسارى الأساس الذي ابتنى عليه الشعر العربي، ولم يحاولوا تغيير هذا الأساس أو وضع معايير جديدة لتحديثه، ولو عن طريق آخرين غيرهم. وحملت مدرسة الديوان على شعر شوقي أساسا بِقالـَةِ أنه غير مترابط وليس مسلسلا، وإنما هو جملة من الأبيات المستقلة المتراصة، التي يمكن تغيير نظامها وتبديل ترتيبها، بوضع أبيات من أول القصيدة في آخرها، أو نقل أبيات من منتصفها إلى مبتدئها، وهكذا، دون أن يضطرب المعنى أو يختل السياق. ونظرا لأن عباس العقاد قدم شعْرا له بحسبان أنه يتفادى هذا العيب الجسيم، فإن أحد النقاد أعاد ترتيب قصيدة له، على نحو ما فعل هو مع شعر شوقي، فلم يحدث أي اضطراب في المعنى أو خلل في السياق، مما يُعد أكبر دليل على أنه لم يقع من شوقي خطأ ولا قصور، وإنما الخطأ في بنية الثقافة العربية ذاتها، والقصور في أثر هذه الثقافة على العقل العربي الذي انحبس داخل أسلوب الرجز، وقبض على ملكاته نهج الالتفات عن التركيبية والانفلات من الزمانية.
الشعر العربي، بالرجز كبداية، والشعر العمودي كنهاية، ناتج خاص، ابن لمكان معين وأثر لزمان مبّين، وهو بلا شك قد تكرر لدى شعوب كان مجالها متـّصلا، كما كان بيانها مرتبطا، بصحراء شاسعة ؛ يترامى فيها البصر فلا يرى بداية ولا يرى نهاية، ويتوافق معها الحديث فيصير مرسلا بلا تركيب، كما يتعادل معها الفعل فيصبح عفويا دون بنيان. والخطأ الحقيقي والقصور الشديد هو في اعتبار البداية نهاية، وعدم التحرك مع الوقت، أو التغير مع الأجيال، أو التطور من خلال الجهد الإنساني الواعي.
وحتى يمكن إجراء مقارنة يحسن تقديم نماذج من الشعر الإنجليزي، التي لا ريب أن مدرسة الديوان اطلعت عليه وحاولت تأثر أسلوبه، كما أنه مما لا شك فيه أن شوقي وجد مثله في الشعر الفرنسي، وهو كثير، ومع أن النماذج لا تحصى، فإن الاختيار يقع على مقطوعة لبايرون (1788 – 1824) وأخرى لشكسبير (1564 – 1616)، وجزء من الأنشودة الرائعة الملاح القديم ancient Mariner للناقد الشاعر كوليردج (1772 – 1834).
يقول بايرون في مقطوعته when we two parted أي عندما افترقنا : when we two parted, in silence and tears, half broken-hearted, to sever for years;
وهو ما يمكن ترجمة الجزء الأول والأخير منها (المقطوعة) على النحو التالي (مع تغيير كلمة واحدة): عندما افترقنا في سكون ودموع، وقد حطم الفراق قلبينا، لنفترق دهورا، شحب خدّاك واعترتهما برودة، أشد من برودة (همساتك). في السر تقابلنا، وفى صمت أتألم، لأن قلبك استطاع أن ينسى، وروحك قدرت على الغش. إذا ما قابلتك ثانية، بعد وقت طويل، كيف أحييك إذن ؟ في صمت ودموع.
أما مقطوعة شكسبير “الحب الأعمى” ففيها يقول:
Omei what eyes hath love put in my head, which haue ni corres pondnce with frue sight:
Or if theghaue, where is mg judgment fled, that censures falsely what see aright?
وهو ما يمكن ترجمة أولها وآخرها على النحو التالي : يا لنفسي! ما هي العيون التي وضعها الحب في رأسي، فلا صلة لها بالرؤية الصحيحة، وإذا رأت العيون الصواب، فأين ذهب تقديري، الذي ينتقد خطأ ما هو صحيح ؟ الشمس نفسها لا ترى إلا بعدما تتبدد السحب، أيها الحب الماكر ! إنك بالدموع تجعلني أعمى (لا أرى الحقيقة)، مخافة أن ترى عيناى العيوب المخادعة التي يجب أن أراها.
أما قصيدة كوليردج، الملاح القديم، فهي أنشودة ذات موضوع شبه صوفي، وتقع في 625 بيتا، يمكن ترجمة فقرتين من نهايتها على النحو التالي : وداعا وداعا، هذا ما أقوله، له وهو ضيف العُرس : إنّه يصلىّ جيدا، من يحبّ جيدا، (يحب) الإنسان والطائر والحيوان، يصلى أفضل من يحب أحسن، كل الأشياء الكبيرة والصغيرة، لأن الله العزيز الذي يحبنا جميعا، صنع الكل وأحب الكل.
تلك أمثلة فحسب، وغيرها كثيرة، في أغلب الآداب التي نمت وتطورت، ولم تقف عند بداياتها الفجة، أو تنحصر داخل صورتها البدائية، يظهر منها بجلاء اتجاه عام للبناء construction, وتكوين compose وحدة متجانسة، تنمو ببساطة وسهولة من الداخل وتسير في وضوح وسلاسة نحو النهاية، فتكون الزمانية خاصية فيها، وتكون البنائية أساسية لها : وهذا الاتجاه التكويني compensative والبناء constructive كان هدف المجتمع ثم صار قوامه، في كل علم أو أدب أو فن، بل في الاتجاهات الشخصية والمسالك الذاتية، وهو ما يُحدث التقدم والتحضر، ويمكنّ من التـّفوق والتسيّد.
بدايات الأدب العربي من ثم هي الرجز والجداء، وقد أدى ذلك إلى أن تحديد بنيته وتلوين صبغته، بمضمون الرجز ومفعول الحداء، فأصبح الشعر والأدب أقوالا مرسلة بغير بنيان وألفاظا متراصة دون تكوين. قوام القصيدة بيت من الشعر، بل نصْف بيت (هو بذاته جوهر الرجز)، يليه بيت فبيت فبيت، إلى أن تنتهي القصيدة، دون وجود تماسك بين الأبيات أو ترابط بين الشّطور (جمع شَطـْر). آية ذلك أنه يمكن في أحوال كثيرة أن يتم الاستشهاد بشطر بيت، دون أن يظهر من هذا أي قصور أو يبدو خلل أو تلح حاجة إلى استكمال الشطر بباقي البيت، مثال ذلك : (وكثير من السؤال اشتياق)، (لكل شيء إذا ما تم نقصان)، (أضاعوني وأي فتى أضاعوا)، (وللموت ما تلد الوالدة) وهكذا.
وقد ظل الأدب العربي في غالبه مقصورا على المقامات والرسائل، وما كُتب من كتب كان مجموعات من المقالات. ولم تظهر الأبنية الفكرية إلا في نطاق الفلسفة، أو ما اتخذ سمتها، وهو أمر يراه كثير من العرب غريبا عن صميم الثقافة العربية، ويأملون في استبعاده من دائرتها تماما.
وطبع ذلك الطابع أسلوب الغناء والموسيقى، فصارت جملة واحدة تـُزاد وتعاد بنهج الحداء، أو جملا متراصة يوضع بعضها بجوار بعض، كالأبيات في القصيدة الشعرية، لا تفاعل فيها ولا تحاور بينها ولا تطور بداخلها.
والتساؤل الذي يلح في هذا الصدد هو السبب في أن ينحبس العرب في بدايات الأدب وأن ينغلقوا في فجاجات الشعر، لا يريدون منها انفلاتا ولا يعملون فيها تغييرا، في حين تفعل أمم أخرى غير ذلك تماما، فتطوّر من أساليبها الأدبية وتعدل في مناهجها الفكرية. فهل يعود ذلك إلى مواصفات اجتماعية أو إلى مواضعات اعتبارية أو إلى غير هذا مما يحول دون التجديد، ويقف أمام التعديل، ويمنع أي ابتداع، ويرفض أي تطوير؟
إن أثر الشعر العربي على الشخصية العربية قوى وبعيد، فإن هذه الشخصية أصبحت بذاتها رجزا في قول أو شطرا من بيت ؛ تميل إلى التصرف الانفرادى، ولا تقبل العمل في مجموعات team أو تستطيع التعاون مع الغير ؛ مع أن العمل الفعّال – وخاصة في العصر الحالي – هو عمل المجموعات team work)) والتعاون مع الجميع. هذا بالإضافة إلى أن من أهم خصائص الشخصية العربية هو عدم تدفقها مع الزمن وعدم جريانها مع الأحداث وعدم سيلانها في التاريخ، وهو أمر لابد من الالتفات إليه بوعى والتصدى له بالعلم والاتجاه إلى تغييره بسلام؛ خاصة أنه يدفع العقل إلى أنه لا يقبل بسهولة ولا يقدر بيسر على تقبـّل أسلوب البناء ومنهاج التركيب، فلا يكون علمىَّ في صميمه ولا يكون حضاريا في بنيته.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة
عن الأدب العربي
المعلق كتب عن دراسته للأدب العربى والأدب الإنجليزى لكنه لم يذكر تأثير القرآن الكريم على الشخصية العربية
عن الأدب العربي الأدب المكتوب باللغة العربية له أعلامه ومشاهيره منذ وصل الإسلام إلى موريطانيا والمغرب والأندلس والجزائر وتونس وليبيا واليمن والأردن ولبنان وفلسطين والسودان وتركيا وإيران والصومال والسينغال … إلخ لذلك فأنت لم تحدثنا عن أدب عربي. لو اتخذت عنوانا دقيقا لمقالك مثل “الأدب الشرق أوسطي” لما ثار المشكل، ولكن القصور يطغى على مقالك، فلم تتجاوز رقعة جغرافية معلومة، واعتبرت ما سواها “خارج التغطية”، ولي اليقين أنك من المتذرعين بعبارات مثل: “ده مش من اختصاصي” أو ” المجال ضيق ولا يسمح باستعراض كل شيء” … ولكن ذلك لا يشفع لك إزاء عنوان فضفاض “عن الأدب العربي”. اللهم إلا كنت… قراءة المزيد ..
عن الأدب العربي
عفوا :
نسيت إضافة نقطة :
الأستاذ المعلق يصف أمثال عقليتي بأنهم يهلعون عند المقارنة مع الآخرين لأنهم يقدسون نصوصهم ، أحب أن أقول إنني أكدت في تعليقي موافقتنا للآخرين وليس اختلافنا عنهم 🙂
عن الأدب العربي أخي الذي لم يشر إلى اسمه … شرفني حديثك ونقاشك : 1ـ أعتقد أن النقطة التي طرحتُها جوهرية في صلب المسألة ؛ لأن الأستاذ العشماوي استدل بتفكك العقل العربي بتفكك الشعر العربي ، وأنا أرى أن استدلاله في غير محله (لاحظ أني أعترض على الاستدلال ولا أعترض على النتيجة وليس لي رأي حيالها البتة) وأشير مؤكدا إلى أني ذكرت نوعين من الشعر تكون فيهما الوحدة هما المسرحي والقصصي ( وليس المسرحي فقط كما أشرت أنت يا عزيزي ) أما الشعر الغنائي فلازلت مصرا على رأيي وأنا لا أعرف من أين اقتبس الأستاذ العشماوي هذين النصين أهما من… قراءة المزيد ..
عن الأدب العربي صار يشوقني الحوار مع الأخ إبراهيم عبر تعليقاته علي ما ينشره الكتــّاب بهذا الموقع المثير ، المتفجر بالحيوية .. فالأخ إبراهيم بالذات نموذج للعقل العربي في تكوينه الدوجمائي المؤسس علي تقديس النص ، ومن ثم يغدو من العسير عليه قبول أية فكرة منطلقها الإبداع ! وعليه تراه يرفض بحث الأستاذ العشماوي- بتهذيب يحمد له – من زاوية تجريح أمثلة الكاتب ، وليس من جانب رؤية فلسفية لها قوامها ونسقها الخاص ( الخصوصية ليست من السمات التي يعترف بها العقل العربي )ولذا يأتي الرفض اتكاء ً علي المنتوج بالجملة ذي النسق سابق التجهيز . ومن هنا يأتي الهلع… قراءة المزيد ..
عن الأدب العربي
تحية:
أظن أن “شروط” كتابة مقالة، كانت وراء القفز على محطات كنا ننتظر من الأستاذ أن يدلي بالمستجدات في شأنها – إن وجدت – .
المرحلة المقصودة تتعلق بغالب الشعر الجاهلي. فالمنطق يقتضي التدرج، بالانتقال من النشأة، إلى التمكن، فالتطور، وأخيرا “درجة” الإبداع بمختلف أنواعه.
ولا يمكن الانتقال إلى مستوى معين من الإبداع بطفرة “غامضة” تنطلق من “الحداء” المرتجز … للوصول إلى شعر “متكامل” مثل المعلقات.
الحلقة المفقودة لم يبث فيها القدماء، وأشهرهم الجاحظ. فهل من جديد في الموضوع؟
عن الأدب العربي أستاذي محمد عشماوي تحية طيبة ،،، اعذرني في مخالفتك ….. جوهر مقالتك هو أن الشعر العربي دون سائر أشعار الأمم الحديثة ليس ذا بناء متماسك متراص بل هو مفكك البنية تستطيع اقتباس ما شئت منه لأن كل شطر أو بيت بنية مستقلة وحدها ….. وهو بالتالي دال عندك على تفكك الفكر والإنسان العربي …. : : : هذه المسألة بحثتها وأقول : إن الشعر العربي والشعر الانجليزي خاصة متشابهان في هذه المسألة لأن أشعارهم العاطفية على نفس المنوال الذي أسميته التفكك ، أما أشعارهم التي تحدثت عنها ووصفتها بالترابط والبنية المتماسكة فهي أشعار قصصية ومسرحية ، والشعر… قراءة المزيد ..