دون أدنى شك ان “إعلان دمشق”-المعارض في سورية – الذي يضم أطرافا كردية أساسية وشرعية (إلى جانب قوى وشخصيات عربية) يشكل إطارا مهما للملمّة المعارضة السورية، ومدخلا مهماً لبلورة المفهوم الوطني الجامع بين سائر الأطراف التي تختلف عن بعضها في الرؤى والأفكار. والحق لولا بيان الملحق –عرف بالبيان التوضيحي- والذي صدر لـ”إزالة الضبابية والغشاوة عن بعض بنود الإعلان” لكان صيغة وطنية مهمة لم تشهد مثلها المعارضة السورية منذ خمسينات القرن المنصرم. فكل الصيغ التحاورية والتجمعّية التي شهدتها المعارضة كانت تصل اغلبها الى الفشل. وإذا استثنينا “الجبهة الوطنية التقدمية “-التي تأسست في بداية السبعينات من القرن المنصرم وضمت أحزابا قومية مثل البعثيين والناصريين إضافة الى الحزب الشيوعي في ذاك الوقت بقيادة الشيوعي السوري العريق الراحل خالد بكداش وتشكل اليوم إطارا- غطاءا سياسيا للحكم في سورية، لم تستطع هذه المعارضة الوصول الى اتفاق على برنامج حد الأدنى بينها، بالرغم من وجود تعددية مفرطة في التنظيمات وعدد من التنظيمات المعبّرة عن القوميات (العرب والأكراد والسريان والآشوريين) والدينية مثل “الإخوان المسلمين”، والشيوعية مثل حزب الشيوعي السياسي المكتب السياسي وشيوعيين آخرون. بيد ان “إعلان دمشق” نفسه لم يستطع الوصول الى صيغة واضحة بأهدافها المرحلية. فهو ما زال يتراوح بين فكرتي التغيير الديمقراطي التدرجي او إصلاح النظام الحالي، أما الكرد فهم يسعون الى التغيير في وضعهم السياسي والمجتمعي بالنسبة للنظام العام في سورية لتنتقل سورية الى مرحلة ديمقراطية حقة تحفظ حقوق المواطنة وتتمتع بدولة المؤسسات.
والحال ان الصيغ التجميعية التي وصلت إليها الأحزاب السورية ما بعد الاستقلال هي:
1- “الجبهة الوطنية التقدمية” وهي إطار أمطرت عليه انتقادات لاذعة من قبل القوى السياسية المعارضة كونها انطوت على نفسها ولم تلعب دورا وطنياً فاعلاً ولساناً لحال للفئات المجتمعية، والاهم لم تلعب هذه “الجبهة ” بالرغم من دعمها من قبل السلطات(التنفيذية والتشريعية) دورا محوريا وطنيا او إطارا تشاورياً للبحث في مصير الوطن والمواطنة او لتصبح ملجأ للمغبونين، وفاقدي الحقوق. بمعنى آخر ان صيغة الجبهة الوطنية التقدمية لم تقدم أي شيء ليكون مدخلا لإجراء الحوار الوطني الجامع. وحتى الأمس القريب،اشتكت بعض أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية من الاضطهاد التي يمارسه الحزب الحاكم ضد الآخرين ضمن الجبهة. ففي حين يحق للبعث النشاط ضمن الجيش والجامعة، فإن ذلك لا يحق للآخرين. كما انه ما كان من حق الشيوعيين والناصريين في الجبهة توزيع صحفهم وبياناتهم علنا.2
– تحالف اليساريين والإسلاميين(جماعة رياض الترك والأخوان المسلمين) وهو إطار وجد على الأرض في بداية الثمانينات، واصطدم بمعوقات ولم يحظَ بدعم جماهيري وسياسي. وعلى عكس ذلك، لم تكن الظروف ناضجة في تلك الوقت حتى يقام أي التحالف بين “الأخوان” واليسار او أي من الأحزاب الأخرى، خصوصا وان “الإخوان المسلمين ” اتهموا منذ اليوم الأول بأنهم تنظيم يسعى الى السلطة وهو حزب انقلابي /غير ثوري يريد السيطرة على السلطة من طريق الطائفية. هذا فضلا انه إطار انعكس وجوده على واقع اليسار. فنتيجة لهذا التحالف الذي ولد ميتا انشقت صفوف الشيوعيين، وكان الصدام مع السلطة سيد الموقف في تلك المرحلة.
3- “إعلان دمشق ” للتغيير الديمقراطي هذا الإطار الوحيد الذي جمع القوى السورية العربية مع الأكراد. لأول مرة يرى الأكراد بأنهم يشاركون ويتقاسمون الشؤون والشجون مع القوى الوطنية العربية. لذلك يرى البعض بأن صيغة اليوم هي الأسمى تبعا للصيغ السابقة، حيث استطاع هذا التجمع السوري الوطني ان يجنب نفسه المتاهات السياسية والانزلاقات سواء مع السلطة التي تغض النظر عن نشاطه او مع التنظيمات والشخصيات التي كانت من المفترض ان تكون جزءا منه. بمعنى آخر، ان ” إعلان دمشق” استطاع ان يبقى صامداً، وان يقرأ المرحلة بروية وبعين ثاقبة. لذلك نراه يتجاوز المنعطفات السياسية دون خسائر بروح وبنفس جريئة (في مواقفها وتجاه ذاتها) لكي يبقى صيغة وطنية جامعة ودائمة.. لم تصطدم مع السلطة التي حاولت إفشالها خفية، واتخذت موقفا جريئا عند إعلان جبهة “الخلاص الوطني”- إطار يجمع خدام مع الأخوان المسلمين وبعض القيادات الكردية الفاقدة الشرعية في الوسط الكردي – ولا مع نفسها. لم تتعرض الى الانشقاقات مع ان الظروف كانت مهيأة جدا للاختراقات وبالتالي الإنشقاقات. وما ان أعلن مكتب أمانة العامة في بيروت على أساس انه يمثل “إعلان دمشق” حتى اتخذت إدارة “الإعلان” موقفا أكثر جرأة منوهة بأن مجموعة “الأمانة العامة ” في بيروت لا تمثله!
والحال ان “الإعلان” يبقى صيغة مهمة في الحياة السياسية السورية المعارضة. وكما قلنا، لولا ملحق “البيان التوضيحي” (الذي “عماها” بدل ان “يكحّل عماه”) لكان الصيغة الأهم في الحياة السوريين. ولعل المآخذ على الملحق(البيان التوضيحي) هو انه كبّل نشاط “الإعلان” وبيّن في وقت نفسه عدم نضوج صيغة الوطني الجامع لدى القوى الموقعة على الإعلان او في ذهنيات القوى المنضوية. فما كنّا بحاجة الى تحديد فقرتي: الدين والقومية في البيان التوضيحي الذي صدر بعد منه بأقل من شهرين. أي ان الإصرار على تبيان الهوية السورية من الناحية القومية والدينية أدى الى ابتعاد “الإعلان” عن موقعه. إذ ان البلد معروفة هويته في الحالة الطبيعية. فالتأكيد على ان الدين الرسمي للدولة السورية هو الإسلام او: “إننا نستفيد من قيم الإسلام وهي القيم التي ما زالت تشكل نواة صالحة لبلورة الصيغ والأفكار”- مقتبس من البيان التوضيحي- هو المأخذ أكثر روجا في الوسط السياسي المعارض في سورية. كذلك، فالخوف من القوميين(أكرادا او عربا) أظهر بان القوى المنضوية في الإعلان ما زالت تعيش تحت رهبة وهيمنة القوتين: الاسلامين والقوميين .فلو كان الاعتماد فقط على المشروع الأولي لخرجنا بصيغة مهمة وهي صيغة والحق إنها تشكل أرضية صلبة لتجمع كل الأطراف السياسية والمجتمعية. فبلد مثل سورية وكونه متعددة الاثنيات والأديان والطوائف تجوز المناداة بالصيغة العلمانية فيه، حيث هي الوحيدة القادرة على الحفاظ على التوازن بين الفكرتين السائدتين: القومية والإسلام.
بقي القول ان إعلان دمشق، وهو دخل في عامه الثالث، كان منبرا مهما للمعارضة الوطنية السورية خصوصا في داخل البلد، حيث استطاع ان يبلور المعاناة المحلية الى المعاناة الوطنية عامة. وبفضل هذا الإطار الذي يحظى باحترام من قبل المثقفين والفاعلين في الشأن العام، وبالرغم من وجود ثغرات ونواقص، أصبح كل هم مناطقي وفئوي هاما يخص كل السوريين. ففي حين كان ينظر الى حال الأكراد على إنها قضية إشكالية بين الأكراد والسلطة، صار ينظر إليها على أنها قضية وطنية (مثل قضية الأكراد المجرّدين من الجنسية، وغيرها من القضايا مثل السجناء السياسيين ومسائل أخرى). فالإعلان، ومهما يكن شكله والإنتقادات الموجهة إليه، يبقى صيغة المعارضة الوطنية الجامعة ويضم الأكراد الذين يختلفون على بنوده، وكذلك بعض العرب الذي ينتقدون الإلتقاء مع الأكراد “لأن الأكراد يسعون الى تمزيق الدولة وإلصاقه بدولة أجنبية”، والآشوريين والشخصيات الفاعلة في حقلي المجتمع المدني والحقوقي.