لم أعرف هذا النوع من البلادة الذي اعتراني لحظة اتصل بي أيمن شروف وأخبرني بوفاتك، لم أعرف هذا النوع من البلادة مع خبر وفاة شخص أحبه وأحترمه بهذا القدر.. بلادتي غير عادية وتشبه أن يقول لك أحد ما أن تستكمل حياتك كأن لم يكن هناك نصير الأسعد وكأنه لم يمت.
السادسة صباحاً هي لحظة الهجوم على الجريدة والركض مع قاسم الى غرفتك وصراخنا لك أن تقم من النوم يا نصير، السادسة صباحاً هي قذيفة تنفجر خارج الغرفة وتدمر كل شيء حتى صور الشهداء، ورصاص يخترق الباب الخشبي وأنت تبتسم لي وقاسم يقول انك الاسرع في التحضر للفرار.
هل كمية “الادرينالين” في تلك اللحظة ذهبت بك لتسير في مرمى القناص محاولاً اختراق المكان من دون الاحساس بالخوف، أو اللعب مع الموت كأنه أمر عادي نلتقيه كل يوم؟ بلادتي هذا الصباح لا تفهم كيف يمكنك أن تنتقل بسرعة من نصير الذي يتواجه مع الموت كأنه أمر نلتقيه كل يوم إلى نصير الذي مات بعد أسبوع من مواجهة أمراض القلب.
خلال ساعات النهار انتبهت قليلاً قليلاً أن الأمر أكثر من رحيل نصير من مكتب الى آخر، ولا الانتقال من مبنى الجريدة في “الرملة البيضاء” الى مبنى أبيض في “شارع سبيرز”، عرفت اني افقد بضعة من هواء أتنفسه وأسراراً صغيرة قيلت في كثير من سهرات كتابة “المانشيت” في الطابق الثالث، في الغرفة نفسها التي تفجرت قذيفة صاروخية خارجها.
في الغرفة نفسها أجلس، صوت قدميك تعبران بهدوء، يفتح باب الغرفة ويغلق، الأبواب لا تتغير الا اذا قررنا ذلك، ولكن باب غرفتك هو ذاته، كأنك هنا تطل من خلفه، تاركاً دخان السجائر يخرج حتى يمكن دخول الغرفة والنقاش فيها سياسة وتاريخ المنطقة من الحركة الطلابية في الجامعة اللبنانية إلى انقسام الحزب الاشتراكي اليمني في عدن عام 1986 واغتيال عبد الفتاح اسماعيل برصاص رفاقه ابناء العشائر، وقبلها قرار اطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وأسرار انتفاضة الاستقلال عام 2005.
في البيت التقيت الصديقين السيد هاني فحص وسعود المولى كأنهما ينتظران شرب فنجان قهوة معك، تكلمت قليلا مع نور، الابنة الجميلة التي كانت تحكي لي عنك كأنها أمك أو شقيقتك الكبرى. الهدوء في المنزل يوحي كأنك نائم في الغرفة الثانية أو تتابع نشرة أخبار المساء، أو تستمع إلى حكايا الابنة الصغيرة.
عمّي البيك، لا أتذكرك إلا مبتسماً وقد يكون ذلك بتأثير من فكرة نحملها عن أحبائنا الموتى.. نتذكرهم بالاشياء الجميلة، ولكنها الحقيقة، فأنا لا أتذكرك إلا الرجل الأكثر اطلاعاً ومعرفة وتحليلاً.
عمّي البيك، في طريقك الى الموت كان هناك في قرية “الحولة” في سوريا مئات يسبقونك في الرحيل، وبينهم عشرات الأطفال، سبقوك إلى موتهم مع انهم صغار جداَ على معرفة صوت الرصاص من قرقعة باب خشبي، قد يكون جميلاً لهم أن تخبرهم أننا هنا على الأرض نستمع الى أخبارهم ونسجل مواقفنا الاعتراضية بوجه القاتل، ونعتصم في الطرق، وقل لهم أيضاً إن من تبقى في قريتهم حياً، ما زال محاصراً هناك، وواسِهم بمن سيلحق بهم من ضحايا، فالطفل الذي سبق والدته الى الموت سيجدها بقربه بعد ايام.
oharkous@gmail.com
كاتب لبناني