رغم ما يرد في تحقيق جريدة “لوموند” الفرنسية الذي يعرضه “الشفاف” أدناه، فإن بعض قيادات “الشعبة الثانية” الشهابية كانت دائماً تنظر بسخرية إلى تقارير تفجير مقر المارينز (ومقر “دراكار” الفرنسي، استطراداً) بواسطة شاحنة صغيرة هجمت على المبنى، مؤكّدة أن الإرهابيين كان لهم موطئ قدم داخل المبنى بفضل تهريب المخدرات للجنود الأميركيين إلى داخل المبنى، مما يعني أن التفجير الهائل حصل من الداخل.
وهذه فرضية قابلة للنقاش!
الشفاف
*
في صبيحة يوم الأحد، ٣٢ أكتوبر ١٩٨٣، تعرّض مبنى “دراكار” في بيروت لتفجير إرهابي نجم عنه مقتل
٥٨ مظلي فرنسي وعائلة حارس المبنى اللبناني. ويظل ذلك اليوم الدامي ذكرىً مؤلمة للجيش الفرنسي. إن انقضاء ثلاثين عاماً لم يكن كافياً لتخفيف آلام الناجين أو لتعزية عائلاتهم.
وحتى بعد مرور ٣٠ عاماً، فإن كثيرين تساورهم شكوك في كيفية حصول التفجير. وفي تحقيق نشرته اليوم، تشير جريدة “لوموند”، بقلم مراسلها “بونوا اوبكان” إلى أن الرواية الرسمية الفرنسية ترد في تقرير من فئة “سري دفاع”. وحسب التقرير، فإن شاحنة صغيرة محملة بالمتفجرات اقتحمت، قبل دقائق، مقرّ المارينز قرب مطار بيروت الدولي مما أدى إلى مقتل ٢٤١ جندي أميركي. “وبعد لحظات، ورغم طلقات التحذير التي أطلقها أحد (أو بعض) الحرّاس، فقد اصطدمت شاحنة صغيرة أخرى بمبنى “دراكار” الذي كان يشغله فوج من لواء المظليين الفرنسي الأول في غرب بيروت، على مقربة من حي شيعي.
وخلصت لجنة التحقيق اللبنانية إلى أن التفجيرين كانا متطابقين من حيث التنفيذ، كما توصلت لجنة التحقيق الفرنسية إلى خلاصات متشابهة.”
ولكن هذا المحضر الموجز، وهو الوحيد الذي يمكن العثور عليه في الأرشيفات الرسمية للجيش الفرنسي، يُقابل بالتشكيك من جانب الجنود الذين نجوا من الحادث والذين تحدّثت معهم “لوموند”.
لا طلقات تحذيرية ولا.. شاحنة!
إن “روبير غيميت”، الذي كان حارساً على سطح مبنى “دراكار” ساعة الحادث، يؤكد أنه لم يشاهد ولم يسمع أية رمايات تحذيرية. وذلك ما يؤكده كذلك الجنديان “دانييل تاماغني” و”إريك محمد” اللذين كانا على الشرفة المقابلة للمدخل الذي وصلت إليه الشاحنة الصغيرة المحملة بالمتفجرات.
وكان “أومير ماري-ماغديلين” رقيب الوحدة. وكان مكلّفاً بحماية المبنى. وفي صبيحة الحادث نفسه، وقبل الإنفجار بدقائق، قام هذا الرقيب بتفقّد إجراءات الحماية التي كانت تتألف من ٦ أسلحة مضادة للدبابات ومدفعين رشاشين عيار ١٢،٧ ملم. “كان المبنى محاطاً بحائط وكانت تحميه تلال ترابية صغيرة. وكان الشارع المؤدي للمبنى مقفلاً من الجهتين. كما كان المبنى محمياً بحواجز وأسلاك شائكة. ولم تكن هنالك أية إمكانية لمرور شاحنة صغيرة من غير أن يلاحظها أحد”!
وكان هنالك عسكريون فرنسيون آخرون في مبنى مجاور، أطلقوا عليه تسمية “كاتامارون”، ويقع على أقل من ١٠٠ متر. وقد ركض الجنود الموجودون فيه إلى الشرفات بعد انفجار مبنى المارينز الأميركي. وبعد دقيقتين، انفجر مبنى “دراكار” الذي يقع في نفس خط البصر باتجاه مبنى المارينز. ولم يشاهد أي منهم شاحنة صغيرة تتجه نحو “دراكار”.
والأغرب هو أن المحققين الفرنسيين لم يسمعوا شهادات أولئك الشهود المباشرين للحادث. كما فرض الجيش العزلة على الناجين من الحادث، وحظر عليهم الحديث في الموضوع مع أحد.
كما يقدّم الناجون حججاً فنّية. فلم يتم العثور على أية شاحنة في ركام المبنى. كما أن المدخل الذي يُفتَرَض أن الشاحنة الصغيرة اقتحمته هو مدخل جانبي، ولم يكن مفترضاً أن ينهار المبنى على نفسه كما حصل. وهذا عدا أن بعض الصور تُظهر لَهَباً يتصاعد من تحت المبنى الذي ارتفع في الهواء قبل أن ينهار.
قُتِل حراس مبنى “دراكار” جميعاً باستثناء حارسٍ واحد يظل فاقداً للذاكرة حتى الآن. أما مخطط العملية، “عماد مغنية”، فقد قُتِل هو الآخر، في العام ٢٠٠٨، بتفجير سيارته في عملية يُعتقد أن الإسرائيليين قاموا بها.
وعدا إيجاز التقرير الفرنسي الرسمي، فإنه يشتمل على تباينات. فحسب وثيقة أعدها “المكتب الوطني للمحاربين القدامى”، فإن الشاحنة “ارتفعت في الهواء ثم سقطت على مسافة ٧ أمتار. ولم يُتَح للحراس الوقت للقيام بأي رد فعل”. أي أن هذا التقرير لا يتحدث عن طلقات تحذيرية، ويؤكد وجود شاحنة لم يتم العثور على أثر لها.
الشاحنة ضد المارينز قادها إيراني
أظهرت محكمة أميركية فيدرالية، في العام ٢٠٠٣، كيفية وقوع الهجوم على مبنى المارينز بوضوح تام. وتم العثور على الشاحنة الصغيرة، كما تم كشف إسم سائقها وهو إيراني يدعى “اسماعيل عسكري”. بالمقابل، فالمعلومات الفرنسية تظل غامضة وجزئية. وقد طلب أعضاء في البرلمان الفرنسي، في ١٩٨٩، تشكيل “لجنة تحقيق حول العملية الإرهابية”. ولكن، لم يتم تشكيل لجنة تحقيق برلمانية، ولم يقدّم أحد إجابات على تساؤلات عائلات الضحايا وبينهم الملازم “أنطوان دو باتي”.
علاقات وثيقة بين المخابرات الفرنسية والسورية!!
ونتيجة لهذا الغموض، يقدّم الناجون فرضية أخرى مفادها أن المبنى كان ملغّماً. فقبل وصول الفرنسيين كان المبنى مقرّاً للمخابرات السورية. وفي تلك الفترة، كانت أجهزة المخابرات الفرنسية تقيم علاقات وثيقة مع الأجهزة السورية التي كانت تلعب دور الوسيط مع إيران. هل يُستَنتَج من ذلك أن الدولة الفرنسية أرادت أن تبرّئ السوريين لأسباب سياسية، كما يزعم بعض الناجين؟ يقول “أومير ماري-ماغدولين” ساخراً: “لنطرح السؤال على رفعت الأسد. إنه يعيش في باريس. وأفترض أننا قادرون على طرح السؤال عليه”!
وتردّ وزارة الدفاع الفرنسية بأن فرضية تلغيم المبنى “تشتمل على مظاهر مصداقية ولكن أي عنصر من عناصر التحقيق لم يؤكد هذه الفرضية”. وتلفت وزارة الدفاع الفرنسية إلى أنه الفرق الهندسية وفرق كشف الألغام قامت بالكشف على المبنى وعلى المجاري قبل إشغاله، وأن حجم المتفجرة التي دمّرت المبنى (١،٤ طن) يجعلها غير قابلة للإخفاء، وأن محاولة حفر أنفاق تحت المبنى أثناء وجود الجنود الفرنسيين كانت ستنكشف حتماً. وتخلص الوزارة إلى أن تحقيقاً قامت به قيادة الجيش، وتحقيقاً آخر قامت به المفتشية العام للجيش خلص إلى أن التفجير تم بواسطة شاحنة صغيرة مفخخة.
علاوة على ما سبق، يقال أن أن أجهزة المخابرات اللبنانية سجّلت دخول شاحنتين مشبوهتين إلى بيروت في يوم ٢١ أكتوبر عبر نفس المسار. وكانت واحدة من الشاحنيتين هي التي استخدمت ضد مركز المارينز.
وتوافق وزارة الدفاع الفرنسية الآن على أن بقاء نقاط غامضة حول تفجير “دراكار” الإرهابي لا يمكن سوى أن “يزيد من آلام الضحايا”!