كثُر الحديث عن هزيمة التيار الوطني في انتخابات مجلس الأمة الكويتي. ففي حين ربط كثيرون أسباب ذلك بمواقفه السياسية، وكيف أنها كانت “غير حازمة” تجاه الكثير من القضايا والمسائل المحلية، ما ساهم في تراجع شعبيته، اعتبر البعض السبب الحركي المتمثّل في تفرّق التجمعات الممثلة للتيار، والعائد إلى الخلافات الفكرية، بأنه أحد العوامل الأساسية في الهزيمة. لكن قليلين أشاروا إلى عامل مهم آخر في الهزيمة، والمتمثّل في عدم ارتكاز التيار بشكل واضح وصريح على هويته الفكرية، وهي العلمانية، سواء في أهدافه وفي نشاطه، أم في صراعاته مع معارضيه من غير العلمانيين.
فعدم وضوح علمانية التيار، وعدم حسمه لمسألة رفض تدخل الدين بالدولة، خاصة تخبّطه في الموافقة على تدخل الدين في شأن معين (كموافقته على استمرار وجود المادة الثانية) ورفض التدخل في شأن آخر، سهّل هجوم الآخرين عليه، وبالذات التيار الديني، ما جعله عرضة لاتهامات اللعب على وتر الدين أينما وكيفما اقتضت المصلحة. إلى جانب ذلك، أدى فقدان التيار لبوصلة العلمانية إلى خشيته من المبادرة المحلية وفقدانها، فركّز نشاطه على ما فات من قضايا ومسائل، مما أدى به إلى تجاهل التطورات الراهنة، وهو ما سهّل على التيار الديني اختطاف المبادرة المحلية، وهذا كان جليا في رؤى الإصلاح السياسي التي تبناها الحراك الشبابي وافتقدت لمشاركة فعّالة من التيار الوطني. ففقدان البوصلة العلمانية، وعدم الوضوح في رفض أسلمة القوانين، ساهما في ضياع الزخم السياسي والحركي للتيار الوطني، وأدى ذلك إلى تراجع مصداقيته واهتزاز الثقة بشعاراته وبرامجه، وهو ما أثر في شعبيته. فبينما نجد أن التيار الديني واضح في طرحه وفي الدفاع عن شعاراته وبرامجه، وفي ربط ذلك بمطالبه السياسية، نجد التيار الوطني على العكس من ذلك في طرحه، حيث كان حذرا جدا في الدفاع عن رؤاه السياسية والاجتماعية التي هي رؤى علمانية واضحة، وفضّل خلط الشعار العلماني بالدين وبالعادات والتقاليد، لخشيته من الواقع الاجتماعي الكويتي المتّصف بالدينية المحافظة، ولخوفه من أن يتّهمه التيار الديني بمعاداة الدين.
فإذا كان الكويتيون اختاروا غالبية النواب من التيارات الدينية والمحافظة، فإن أحد أسباب ذلك هو إخفاق التيار الوطني في إقناع المجتمع بمزايا العلمنة، وفي الدفاع عن علمانية الدولة. ففي حين يعتقد البعض أن البيئة الكويتية بيئة طاردة للعلمانية، ومتقبلة للطرح الديني والمحافظ، لكن ذلك يعكس فشل التيار الوطني في خلق البيئة العلمانية، إذ تقع على عاتقه مسؤولية خلق تلك البيئة بجهود ترتكز على العامل الثقافي والفكري، وهذه جهود متوفرة بصورة خجولة جدا. فشخص مثل الداعية فؤاد الرفاعي – صاحب مركز وذكّر – قادر على مهاجمة العلمانية والديمقراطية بكل جرأة ووضوح، لكن التيار الوطني غير قادر على الإشارة – على سبيل المثال – إلى ضرر الفقه الديني على الديمقراطية، أو تأكيد عدم مواءمة الأصول التي تستند إليها الشريعة الدينية مع المعايير التي تنظم الحياة الإنسانية الراهنة، والتي هي معايير نابعة من العلمانية. وعلى الرغم من اعتقاد البعض بأن لغة الرفاعي الدينية الهجومية ضد منجز العلمانية مستساغة في المجتمع الكويتي، إلا أن ذلك لا يبدو صحيحا عند الغالبية. مع ذلك، فالرفاعي واضح في لغته، مثلما هناك نائب واضح في لغته التي لا يتردّد من خلالها في إظهار دفاعه عن الإرهابي أسامة بن لادن. في مقابل ذلك، لا نجد نائبا أو مرشحا منتميا للتيار الوطني قادراً على طرح رؤية علمانية واضحة تعارض بكل جرأة الفقه الديني التاريخي وترفض استغلال الشريعة في لعبة الديموقراطية.
باعتقادي، هناك فرصة سانحة لإعادة الزخم الفكري والسياسي للتيار الوطني، من خلال التأكيد الواضح والصريح، ومن دون أي خوف، على مصداقية علمانية التيار، في ظل ربط ذلك بالمنجزات الدستورية الوفيرة المحسوبة للفكر العلماني، وكذلك في إطار التطور الحداثي العالمي المحسوب على العلمانية. فتلك المنجزات والتطورات من شأنها أن تدعم أي تصور لترتيب النشاط السياسي والحركي والفكري للتيار عبر التأكيد على علمانيته الشفافة. لذلك، تبدو أبرز الشروط اللازمة للعمل في هذا الإطار، خاصة في المرحلة المقبلة، هي الجرأة في الطرح العلماني، والوضوح في الدفاع عنه. فمنجز العلمانية المحلي اختطفه التيار الديني ونسبه إلى فكره ونشاطه ووظفه لصالح تقوية شعبيته، رغم علمه بأن مشروعه الديني لا يحمل مقومات الحياة الراهنة، ومن ثَمّ فلن يستطيع تحقيق أي منجز خارج إطار العلمانية.
وفي حين أن الكثير من المنتمين إلى التيار الوطني لم يحسموا علمانيتهم بوضوح وصراحة في إطار ما تقتضيه الحداثة الفكرية، في ظل عدم تعارض ذلك مع الحريات الثقافية ومن ضمنها الحرية الدينية، فقد باتوا في حرج من القيام بذلك لأسباب تتعلق – كما قلنا – بالخشية من فقدان مكتسبات سياسية واجتماعية، على الرغم من أن المرحلة الراهنة تستند إلى صراع الثقافات قبل صراع السياسات. فأي شفافية ثقافية علمانية قد ينتج عنها خسائر، وبالذات على المدى القريب، لكنها ستكشف عن نهج حداثي واضح وصريح على المدى البعيد متوافق مع الحياة وتطوراتها، مما يستتبع معه تحقيق نتائج جريئة تلائم ذلك التطور. ومن شأن تلك النتائج أن تساهم في زرع مزيد من الرؤى العلمانية في التربة الدينية أيضا، وبالذات في تربتها المعرفية التي ستجعلها معرفة دينية حديثة. هذا الأمر سيكون مؤثرا في عملية تحديث النهج السياسي الديني وفي تأسيس رؤى دينية حداثية (بدلا من الرؤى التاريخية) في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع. إن وضوح العامل العلماني وجرأته ضروريان للتيار الوطني، كما أن تأثيرهما إيجابي على مخرجات التيار الديني. لذا في تقديري يحتاج التيار الوطني، من جهة أخرى، إلى خطاب علماني متصالح مع الدين، بدلا من أي خطاب آخر معاد للدين. وهذا التصالح ليس بمعنى خلط الأوراق، أو تداخل التشريعات، أو تنازل العلماني للديني خشية من عواقبه، بل يعني القدرة على التعايش بين الاثنين بحيث تتوضح حدود كل جهة، حتى لا تفقد العلمانية دورها المركزي في تنظيم الحياة، ولكي لا يفقد الدين بريقه الروحي وتأثيره الإيماني ويتحول إلى شأن وصائي استبدادي ينهل من التاريخ دون مراعاة لتطور الحاضر وتغيّره. أما إذا ما أراد الدين أن ينهل من الحاضر، فإن الحاضر هو الآن في عهدة المدرسة العلمانية بجميع تفرعاتها وتخصاصاتها، فإما أن يصبح الدين ذا فهم حديث ليكون صالحا للزمان ويصبح أحد العناصر المنتمية للمدرسة العلمانية، وإما أن يقبل بالرؤية العلمانية التي لا تسعى بتاتا لمعاداة الدين بل تسعى لتحريره من هيمنة العقلية التاريخية الوصائية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com