العصر الذي نعيش فيه أصبح يعرف بعصر حقوق الإنسان، بمعنى أن الدفاع عن هذه الحقوق بات أصلا من أصول حياتنا الراهنة.
ووصول الإنسان الحديث إلى هذه المرحلة من التطور في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، جاء بعد أن اجتاز مرحلة قديمة سميت بمرحلة التكليف. فالإنسان غير الحديث كان إنسانا مكلفا، بمعنى أنه كان يسأل دائما عن الأوامر والتكاليف المنوطة به والتي عليه أن ينفذها في حياته، وكانت هذه التكاليف تأتي من طرف الأمراء والملوك أو من طرف رجال الدين وحتى من طرف الفلاسفة والمفكرين. وهذا لا يعني أن الحقوق لم تكن موجودة في تلك الحياة، إنما كانت تعتبر مسألة ثانوية غير مهمة وتأتي في مرتبة لاحقة بعد التكاليف.
وقد كانت الحياة التكليفية القديمة متوافقة مع طبيعة الأديان، ومنها الدين الإسلامي، حيث كانت طبيعة الأديان تكليفية متماشية مع عادات وثقافة الحياة القديمة.
غير أن الإنسان استطاع أن يتجاوز هذه المرحلة ويشكّل الحياة الحديثة بوضعه ملف الدفاع عن حقوقه على سلم أولوياته، تلك الحقوق التي لم تكن جزءا أساسيا من مسؤولياته في الحياة القديمة، فيما ظل الدين على وضعه مدافعا عن الحياة التكليفية، وهذا ما جعل نهج التكليف الديني (النهج القديم) يتصادم مع نهج الدفاع عن حقوق الإنسان (النهج الجديد)، أي التصادم بين النهج التاريخي والنهج الحداثي، وهو ما جعل الكثير من المفكرين يسلطون الضوء على نتيجة محورية مفادها أن الدين في ظل فهمه القديم القائم على التكليف، غير قادر على التعايش بصورة سلسة مع الحياة الحديثة المستندة إلى الدفاع عن الحقوق، وبالذات الحقوق الفردية (الليبرالية).
ومن دون تغيير الفهم الديني القديم، أي الفهم القائم على التكليف، فإن المصالحة بين الدين والحياة الحديثة تصبح صعبة جدا، وسيكون الفهم الديني حجر عثرة أمام تطبيق مفاهيم الحداثة، كالحرية والتعددية والمساواة. فعلى سبيل المثال لا تستطيع الحرية الفردية المدافعة عن تعددية الفهم الديني وتنوع التديّن وتغيّر القناعات الدينية، أن تتعايش مع التكليف الديني الذي يهدد المسلم بعقوبات دنيوية وأخروية إذا ما غير قناعاته الدينية. بمعنى أن الخطاب الديني التكليفي الذي جاء به النص القرآني، هو خطاب ذو صبغة ثقافية واجتماعية معينة، ويأتي ضمن أسس تلك الصبغة الجانب التكليفي، لكنه – أي الخطاب نفسه – لا يمكنه أن يتعايش مع الصبغة الثقافية والاجتماعية الراهنة، وبالتالي لابد من إعادة فهم النص وإعادة تفسير الخطاب لكي يستطيع التعايش مع الحداثة، أي التعايش مع الحياة التي تجعل من الدفاع عن الحقوق في رأس أولوياتها.
وتعتبر الليبرالية من المدارس الفكرية الرئيسية التي ساهمت في انتقال البشرية من الحياة القديمة إلى الحديثة. فهي المولّدة لحياة الدفاع عن حقوق الإنسان، التي وضعت حدا لهيمنة حياة التكليف. فلولاها لما استطاع الإنسان أن يحقق طموحاته المتعلقة بالحريات في مختلف الجوانب، ولما استطاع أن يحقق المساواة، ولما كان قادرا على تطبيق التعددية بمختلف أشكالها. فقبل ظهور الليبرالية كان الإنسان يعتبر التكاليف على رأس المسؤوليات المكلف أن ينفذها، وبعد ظهورها أصبحت الحقوق على رأس أولويات الإنسان. أي أن الغلبة بعد ظهور الليبرالية كانت لحقوق الإنسان، فيما كانت للتكاليف قبل ظهورها.
لكننا نجد أن الخطاب الديني الراهن لا يزال يراهن على غلبة منهج التكليف على منهج الحقوق، لأنه يضمن له القوة ويحقق له الاستمرار في الحياة، لكن في المقابل يجعله غير قادر على الدفاع عن مفاهيم الحرية الفردية والتعددية والمساواة. فحياة الإنسان الذي يتبني نهج الحقوق، تختلف عن حياة الإنسان الذي يتبنى نهج التكليف، في مختلف الجوانب: في السياسة والاقتصاد والأخلاق والفلسفة والفن. بمعنى أنه يوجد لدينا نوعان من الفهم البشري تجاه مختلف قضايا الحياة، وهذان النوعان يعكسان نهجين مختلفين لحياة الإنسان، وهذا من شأنه أن يطرح نوعين من البشر: الأول يدافع عن حقوق الإنسان ويعتبر ذلك أولوية في حياته، والثاني يدافع عن التكاليف المناطة به ويعتبرها أهم من حقوقه، وخاصة التكاليف الدينية.
إن الإيمان القائم على التكاليف الدينية التاريخية المرتبطة أساسا بثقافة المجتمع الذي نزل فيه الدين، لابد أن يختلف عن الإيمان المتصالح مع أسس وثقافة الحياة الحديثة. فالتكاليف الدينية التاريخية لا يمكن أن تحقق الإيمان القائم على حق الإنسان في أن يؤمن أو لا يؤمن، إنما تطالبه بأن يكون مؤمنا غصبا، وأن عليه أن ينفذ التكاليف حتى لو كانت ضد قناعاته الفكرية الداخلية وضد ظروفه الحياتية وضد تغيّرات الحياة في مختلف المجالات. فللإنسان الحديث الحق في أن يؤمن وأن لا يؤمن، بل له الحق في أن يغيّر دينه إذا أراد، وفي أن لا يؤمن بأي دين، فيما الإنسان المكلف ليست له أي من تلك الحقوق، بل عليه أن ينصاع للتكاليف أيا كانت وإلا واجه مختلف التهديدات والعقوبات، والنتيجة المتوخاة من ذلك أن نهج التكليف يصبح غير قادر على أن يصنع إنسانا مقتنعا بالإيمان انطلاقا من دواعي الحرية الفكرية والثقافية التي يعيش في إطارها، بل يصنع إنسانا ينفذ تكاليفه الدينية خوفا من العقوبات الدنيوية والأخروية لا حبا واقتناعا في الإيمان. بمعنى أن الإيمان القائم على التكليف دائما ما ينتج إنسانا بحياة ملؤها الخوف والرهبة من عواقب الدنيا والآخرة، كارها الآخر غير المؤمن، رغم استناد الإيمان إلى الحب والعشق لا إلى الكراهية. في حين أن الإيمان المستند إلى الحرية، حرية الاختيار، تطرح إنسانا مغايرا، إنسانا منطلقا نحو الإيمان حبا في الدفاع عن الحرية لا حبا في وأدها. وهذا لا يعني أن الإيمان المنطلق من التكليف الديني ليس له أساس في الدين، إنما يعني أن هذا النوع من الإيمان كان يتماشى مع ثقافة الإنسان القديم لكنه لا يتماشى مع أسس الحياة الحديثة وثقافة العصر الجديد القائمة على الدفاع عن الحقوق.
إن الأديان، ومنها الدين الإسلامي، تعتبر أحد مكونات العالم القديم. فالإسلام بآياته ونصوصه وبرامجه متوافق مع الحياة القديمة، حتى اعتبر أحد عناصر تلك الحياة بعدما أثّر في مختلف مسائلها وشؤونها وساهم في إنشاء منظومتها السياسية والاجتماعية. فهو لم يسع فحسب ليكون شريكا رئيسيا معها، بل قامت الحياة القديمة بمد يد التعايش إليه حتى أصبح الاثنان شريكين واعتبرا شيئا واحدا. بمعنى أن الحياة في الماضي، في العالم القديم، كانت حياة دينية كاملة، والمسلمون لم يروا أنفسهم غريبين فيها، وعلاقتهم بها كانت علاقة توافقية تقوم على الشراكة والتعاون استنادا إلى الدين، أي كانوا ينشئون حياتهم وينظمونها وفق المقياس الديني. فالدين الإسلامي كان مقياس جميع الأمور في الماضي، لذلك كانت حياة المسلمين تسير بصورة طبيعية لا تعكرها شوائب أساسية. لكن مع تحوّل الحياة وتغيّرها ودخولنا في العصر الجديد، عصر الحداثة، ظهرت المؤشرات على وجود علاقة غريبة للمسلمين مع الحياة الجديدة في ظل استمرار النمط التاريخي للدين الإسلامي، ومن ضمن هذا النمط النهج التكليفي.
إن الحرية من شأنها أن تساهم في التأثير في تغيير الفهم الديني وكذلك في ممارسة صور جديدة من التديّن أيضا. فإحساس الإنسان الحديث بأن الدين بمفهومه التاريخي لا ينسجم مع حياته الجديدة ولا مع الحداثة وعناصرها، يحفّز فيه مسعى تغيير المفهوم الماضوي بآخر حداثي. لذلك لابد من إيجاد فهم ديني يتوافق مع الحياة الحديثة ومع العقلانية الجديدة وينسجم معهما.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن للقانون المناهض لحرية الفكر والتعبير أن يتعايش مع الإيمان، أو أن يتدخل في تحديد شكل المناجاة، إذ سيؤدي ذلك إلى فرش البساط أمام الإكراه لبسط نفوذه وممارسة دوره الإلغائي، ومحصلة ذلك هي إجبار المناجي على استخدام صور طقوسية محددة غير متنوعة، وهو ما يعتبر أقرب إلى التلقي منه إلى ممارسة الإيمان بحرية والتفكّر باشتياق. فالإيمان سيكون إيمانا إذا سبقته الحرية. ومن شأن أي مجتمع أن يوصف بالمتديّن إذا ما استند إلى هذا النوع من الإيمان. فمن الخطأ بمكان أن تقوم فتاوى الكراهية الصادرة عن المدرسة الدينية التقليدية بالتضييق على الإيمان وعلى الحرية الدينية بذريعة محاربة “البدع”. فشكل الإيمان يتنوع بتنوع الشخصيات المؤمنة، ويتغير بتغير الأزمنة. فهو نوع من الفن الإنساني للوصول إلى حالة من الارتباط القلبي. لذا هو عرضة للتنوّع والتغيّر والتطوّر. وفقه ما مرتبط بمذهب ما قد يشرح من خلال تكاليفه الدينية سبل ممارسة الطقوس الدينية ويوضحها لأتباعه، لكنه في نفس الوقت قد يساهم في عرقلة ممارسة تلك الطقوس لعدد آخر من الناس ممن لا ينتمون إلى مذهبه. والأمثلة على ذلك كثيرة في البلدان الإسلامية بطوائفها ومذاهبها وحتى في فئاتها الدينية الضيقة. فأنصار الصوفية من السنة أو الشيعة يتعرضون لمضايقات كثيرة من قبل المدارس الأصولية أثناء ممارستهم لطقوسهم، لأن الفقه السني أو الشيعي الأصولي لا يعترف بتعددية وتنوع الممارسات الطقوسية الإيمانية، وفي معظم الأحيان يعتبر طقوس الصوفية بِدعا يجب وقفها عند حدها ومنعها ولو بالعنف.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي