صورة المقال: لوحة فارسية، أو من آسيا الوسطى، للنبي محمد معلّماً للصحابة
لا نزال في إطار إلقاء الضوء على فرضية المفكر الإيراني الدكتور عبد الكريم سروش الواردة في بحثه “محمد (ص) راوي الرؤى النبوية”**، والتي ترتكز فكرتها على آلية ظهور الوحي، أو “مكانيزم” الوحي، وأسماها بـ”الرؤى النبوية”. إذ يعتقد سروش بأنه كانت لنبي الإسلام رؤى وَحْيَوِيّة، وكان هو “يروي” تلك الرؤى للناس. وهو يسعى إلى أن تكون فرضيته بديلا عن التفسير التقليدي لفهم الوحي. وسوف نشير هنا إلى مبحث آخر في هذا الإطار يحمل عنوان “المفارقات في القرآن” أو ما يسميه هو بـ”مقص التناقض الحاد”.
يبدأ سروش مبحثه هذا بالتأكيد على التالي، أن أفق الرؤى التي تحدث للإنسان في المنام أوسع بكثير من أفق الاستيقاظ في حياته الطبيعية. إذ توجد في أفق الرؤى الكثير من الأسرار والعديد من الأحداث التي لا يمكن وقوعها أو استضافتها في حالة الاستيقاظ، وأن كسر تسلسل السببية والجمع بين الظروف المتناقضة والخصائص المتضادة واتساع الوقت ثم ضيقه وتحقيق المثل العليا التي لا يمكن تحقيقها في الواقع، هي مسائل معروفة في عالم الخيال وفي عالم المنام، وذلك هو الذي يدعو إلى إيجاد تفسير للرؤى. ويشير إلى اللغة أثناء الرؤيا التي عادة ما تكون حائرة، وتلك الحيرة بالنسبة إليه هي إشارة إلى حيرة العقل، فكلّما كانت لغة القرآن رُؤْيَوِيّة أكثر، تصبح نبويّة أكثر، وتصبح تناقضاتها مرئية أكثر.
يطرح سروش أمثلة على ذلك ويشير إلى مَشاهِد في سورة التكوير المكيّة. فيوم الحساب كما ذُكر في السورة يصاحبه كسوف الشمس وتناثر النجوم وإطلاق الجِمال واختلاط الدواب والطير والوحوش واحتراق البحر. وفي تصوّره، مهما كان حضور الجِمال الحوامل بجانب الحيوانات المفترسة في يوم المحشر مفاجئا ومستغربا فهو ليس أكثر استغرابا من احتراق البحر، كما أن مفارقة احتراق الماء ليست هي وحدها التي تجعل مَشهد يوم القيامة رُؤْيَوِيّا وخياليا، إنّما نمو العشب في النار مع أزهاره التي تكون على هيئة رأس الشيطان، يتجاوز كل الصور العقلية وجميع تفسيرات الأحلام. بل إن الخطاب الموجّه إلى نبي الإسلام “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى” (سورة الأنفال – الآية 17)، والذي يشير في وقت واحد إلى نفي الرمي وإثبات الرمي من جانب النبي، يجب وضعه على رأس الأمور المستغربة. إضافة إلى آيات عديدة تؤكد – حسب سروش – على الرُؤْيَوِيَة كـ”يطوف عليهم ولدان مخلدون” (سورة الواقعة – الآية 17) و”لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان” (سورة الرحمن – الآية 56) و”بأكواب وأباريق وكأس من معين، لا يصدّعون عنها ولا ينزفون” (سورة الواقعة – الآية 18، 19) و”وأنهار من لبن لم يتغير طعمه” (سورة محمد – الآية 15). واستغراب سروش يتصاعد أكثر حينما يطرح الآية التالية: “هو الأول والآخر والظاهر والباطن” (سورة الحديد – الآية 3)، معتقدا بأن اجتماع اللاتوافق هذا لا يمكن أن يحدث في ذهن الإنسان ولا في منامه، مؤكدا بأن ذلك مؤشر على عمق التجربة الإيمانية للنبي حيث مزّق النطق وكسر رتابة المنطق. لذلك، يعتقد سروش بأنه لم يكن أمام مدارس التفسير التقليدية من منفذ لمقابلة هذه الآيات وفهمها وتفسيرها إلا اللجوء للتفسير المتكلّف، حيث غيّر المفسرّون معاني الكلمات، واعتبروا أن الظاهر هو بمعنى الغالب لكي يتخلصوا من التناقض الوارد في “الظاهر والباطن”، أو اعتبروا كلمة الظاهر ليست إشارة إلى ذات الله بل إلى مخلوقات الله استنادا إلى الفكرة القائلة بأن الصانع مخفي والمصنوع ظاهر.
يمرّ سروش سريعا على التناقضات السابقة ليصل إلى آيات يعتقد بأنها ساهمت في إغراق القرآن بالتناقض. من هذه الآيات، الآية 165 من سورة النساء: “رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزا حكيما”، الآية 172 من سورة الأعراف: “وإن أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين”، الآية 16 من سورة الفرقان: “كان على ربك وعدا مسئولا”، الآية 23 من سورة الأنبياء: “لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون”، الآية 8 من سورة التحريم: “يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا”، الآية 21 من سورة النور: “يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان”، الآية 100 من سورة يونس: “وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله”، الآية 31 من سورة المدثر: “يضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء”، الآية 29 من سورة التكوير: “وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين”. هذه التناقضات الكبيرة كانت – حسب سروش – مصدرا لنزاع وخصومة بين مدرستين كلاميّتين هما المعتزلة والأشاعرة حيث نار الخصومة لا تزال مشتعلة، فالمعتزلة القائلين بالاختيار والأشاعرة القائلين بالجبر يستندان إلى القرآن ويستمدان مواقفهما من آياته. لذا، تفسير وتأويل آيات القرآن لآلاف المرات، واللجوء إلى المجاز والكناية والتمثيل والاستعارة، والخروج من ذلك بنتائج جديدة، وتفضيل الجبر على الاختيار أو الاختيار على الجبر، لم يحقق أي غرض ولم يزيل الخصومة بين الفريقين، بل كان لا بد من رؤية جديدة للغة النص من أجل إزالة الغموض عنه.
يعتقد سروش بأن التناقضات السابقة هي لازمة من لوازم عالم النوم والخيال وأحد شروط لغة الرؤيا. فما لا يمكن تحقيقه في عالم الاستيقاظ ويبدو متعارضا معه، هو غير ذلك في عالم الأحلام والرؤى، ولا شيء يبدو أوضح في عالم اللاتحقيق من أن الإنسان يجد نفسه في حالتي الحرية والأسر معا، وفي الماء وفي النار معا، مرتديا وعاريا، شابّا ومسنّا، لكن حين تتحدث لغة الاستيقاظ عن مختلف صور اللاتحقيق تلك ستصاب بالتلعثم والحيرة وستعتبر تلك الصور غير متناسبة وغير متسقة. فعبارة الإنسان الحر وفي نفس اللحظة هو غير حر، مثلما وردت في القرآن، لا تختلف عن عبارات أخرى فيه تتحدث عن نبات النار والماء المحترق وجلوس النار على الشجرة والعادل الجبار والهادي المضل، فتلك العبارات يستضيفها مضيف واحد وتسكن في مسكن واحد، حسب تعبير سروش، وجميعها، وبمعنى حقيقي لا إستعاري، تحتاج إلى إعادة قراءة وإلى تشريح.
يعرّج سروش نحو آيتين مجاورتين لبعضهما تعكسان حسب تعبيره التناقض الحاد في المعنى والتعبير، معتقدا بأن تجاورهما لم يكن دون سبب، وهما (الآية 78 و79 من سورة النساء) “… وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلٌ من عند الله فمالِ هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا. ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك…”. ويشير إلى ضرورة أن يطلّع القارئ على تفسير مفاتيح الغيب للإمام الفخر الرازي وعلى تفسير الميزان للعلاّمة محمد حسين الطباطبائي لكي يلاحظ حيرة هذين المفسرين الكبيرين في معالجة التناقض الموجود في الآيتين. فالطباطبائي لا يقرّ بأن الحسنات والسيئات جميعها من عند الله ويقول بأن الحسنات هي أمر وجودي والسيئات هي عين العدم ثم يصل إلى نتيجة مؤداها أن الله لم يخلق السيئات. في حين أن الرازي في سعيه لرفع التناقض بين الآيتين يقول بأن الحسنات والسيئات والإيمان والكفر كل ذلك من عند الله، وأنه من باب الأدب مع الله ألاّ ننسب السيئات والمسائل التي يفوح منها رائحة الكفر إلى الله، وهذا يشابه قولنا في الدعاء بأن الله هو مدبّر السماوات والأرض ولا نقول بأن الله هو مدبّر الحشرات، لأننا لا نستطيع استخدام كلمات غير مؤدبة حين الحديث عن الوجود الإلهي، ثم يقول بأن هذا الرأي هو خلاصة ما يوجد في ذهنه بشأن تفسير الآيتين، وأن الله “أعلم بأسرار كلامه”.
يفترض سروش بأنه لو كانت لغة القرآن لغة استيقاظ لما دخل تحت إطارها هذا الكم من التناقضات، لذا لا يمكن إلا أن نقرّ بأن القرآن يخاطبنا بلغة المنام والرؤيا والتي تقتضي أن تكون لغته لغة متناقضة، فيما إذا كان القرآن من تأليف الحكماء ومبني على أسس منطقية لما احتوى على تلك التناقضات غير العقلانية التي تشوه الصورة المنطقية للنص ولما أتعب القرآن المفسرين وجعلهم يختارون التفسير المتكلّف لوضع حل لهذه التناقضات. ويشير سروش إلى الآية 82 من سورة النساء: “أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا“، فيقول إن معنى الآية واضح جدا، فلا يوجد أي تناقض أو تعارض في “الرؤى” النبوية بالنسبة لهذه الآية، مضيفا بأنه لو أخرجنا جميع الآيات من “فرن الخيال” ووضعناها في “بِركة مياه الاستيقاظ الباردة” ستتفكك العبارات وستسيطر عليها التناقضات وستقف في الضد من بعضها البعض.
يشير سروش كذلك إلى الآية 40 من سورة النحل: “إنما قولنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كُن فيكون”، ويؤكد أن القول ببدء الخلق بكلمة كُن يعكس تناقضا كبيرا، فإذا تم خلق كل شيء بكلمة كُن، فكيف تم خلق كلمة كُن نفسها؟ ويجيب: بالتأكيد من خلال كلمة كُن أخرى. فمشكلة هذا النوع من التفسير، حسب سروش، أنه سيستمر إلى ما لا نهاية. ثم يذكر أن كلمتي السبب والعلة لم توردا في القرآن، فهما ليستا من الكلمات القرآنية، بينما “الخلق” هي كلمة أصيلة في القرآن، فالله هو الخالق والباري والمصوّر، لكن لم يورد بأنه علّة العلل أو واجب الوجود. ثم يعرّج سروش نحو صاحب “الميزان” فيقول بأن الطباطبائي بذل جهدا لكي يبيّن بأن القرآن يؤيد قاعدة العليّة، لكن كان ذلك مجرد افتراض، فيما الشواهد القرآنية التي طرحها لا تثبت هذا الشيء.
إن ما جاء عن النصوص الدينية من نقل النبي سليمان لعرش ملكة سبأ بلقيس عبر الجن، وتعلّم النبي سليمان منطق الطير والحيوانات والحشرات، وإنذار النبي هود لقوم عاد وإرسال الله ريحا عاتية عليهم، وقيام الملائكة بإهلاك قوم لوط وبقلب قريتهم عليهم، وكيف أن الله أمات النبي عزير مائة عام ثم بعثه إلى بني إسرائيل، وجعل امرأة عاقر الذي كان زوجها كبيرا في السن حاملا (النبي زكريا وزوجته)، وانقلاب عصا النبي موسى إلى حيّة، وإهلاك قوم النبي صالح لأنهم مسّوا ناقته، وانشقاق القمر على النبي محمد، وتحوّل النار إلى برد وسلام على النبي إبراهيم، وكيف شاهد الناس صلب النبي عيسى لكنه لم يصلب بل رفع إلى السماء، كل ذلك، حسب سروش، لا يحتمل أن ينتمي إلى جملة الحوادث التي يمكن أن تخضع للعلة والمعلول وللاختبار، بل جميع ما جاء في تلك النصوص ينتمي إلى عالم الرؤيا والمنام، ومن الطبيعي انتماء هذه الصور إلى عالم المنام، ففي هذا العالم يقطع الإنسان المسافات الطويلة في لحظات، وينتصر على عدوّه بسهولة، ويقفز نحو السماء، ويتحدث مع الوحوش، وغير ذلك.
على هذا الأساس يعتقد سروش بأنه لا ينبغي أن نسير في مسلك نجيب فيه على سؤال هل عاش النبي نوح 950 عاما أم لم يعش، ففي الرؤى لا يمكن تحديد الزمان والمكان لأنهما غير واقعيَّين، ومن ثم لا مانع أن يكون عمر أي نبي أكبر من ذلك، وعلى نفس المنوال لا يجب أن نبحث عن علاقة سببية وعملية بين الذنوب وبين الكوارث الطبيعية كالزلازل، وأن أي علاقة سببية في الرؤى النبوية ستبقى مجرد رؤى، ومسؤولية المفسرين تكمن في تفسير هذه الرؤى لا تحويلها إلى واقع وليس اعتبار السبب المجازي المرتبط بالرؤى بأنه عين السبب الواقعي الطبيعي. وقد جاء في سورة المعارج بأن الأرواح والملائكة تصعد نحو عرش الله يوم القيامة، وأن هذا الصعود يستغرق50 ألف عام “تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة” (سورة المعارج، الآية 4) وهنا يتفق الزمخشري صاحب “الكشّاف” والفخر الرازي صاحب “مفاتيح الغيب” في تفسيرهما للآية بأن المذنبين وبسبب شدة ذنوبهم يحسّون بأن الصعود نحو عرش الله يستغرق 50 ألف عام بينما لا يستغرق صعود المؤمنين إلاّ الفترة من الظهر إلى العصر، في حين يستخدم الطباطبائي صاحب “الميزان” عبارة “كما يقولون” للإشارة إلى أن كلمة “يوم” الواردة في الآية تعادل 50 ألف يوم من أيامنا، في تجاوز واضح لنهجه الفلسفي في التفسير. إلا أن سروش يجد في هذه الآية وفي آيات أخرى تشير إلى اليوم الطبيعي واختلافه عن طبيعة اليوم الإلهي المذكور في الآيات “وإنّ يوما عند ربك كألف سنة مما تعدّون” (سورة الحج، الآية 47) دليلا على أن اليوم الإلهي هو مجرد رؤى يراها النبي محمد على هذه الشاكلة، بمعنى أنه ليس تعبيرا عن يوم مادي ملموس بل قد يكون إشارة إلى حالة رؤيوية معينة تحتاج إلى توضيح وتفسير من مفسّر الرؤى.
fakher_alsultan@hotmail.com
*كاتب وباحث من الكويت
**بحث فرضية “الرؤى النبوية” كُتب باللغة الفارسية، ويوجد في الموقع الرسمي الالكتروني للدكتور عبدالكريم سروش www.drsoroush.com