على طريق النهوض بالإعلام المصري، كان عبدالله كمال من بين اولئك الذين يمكن الإعتماد عليهم. كان صحافيا مصريا مختلفا. كان عبدالله كمال الذي غاب يوم الجمعة الماضي عن تسعة وأربعين عاما، بعد تعرّضه لأزمة قلبية حادة، بين الإعلاميين القلائل في مصر الذين جمعوا بين المهنية والصدق والإحتراف، فضلا عن الوفاء والذكاء والحسّ السياسي المرهف.
كان صحافيا بكلّ معنى الكلمة وكان في الوقت ذاته مخلصا لكلّ المبادئ التي آمن بها رافضا أيّ نوع من المساومات، حتّى في أصعب الظروف، حتّى عندما كان الخطر يتهدّده.
كان صحافيا وسياسيا في آن، فقد كان رئيسا للتحرير لـ”روز اليوسف” وعضوا في مجلس الشورى المصري. وهذا لم يمنعه من أن يكون له موقف من التعيينات الصحافية في السنوات الأخيرة من عهد حسني مبارك. هذه التعيينات لم تكن موفقة في أي شكل ودون المستوى المطلوب. دفع ذلك عبدالله كمال إلى توجيه انتقادات شديدة إلى القيمين على الأعلام. وقد فعل ذلك علنا من دون خوف أو وجل، على الرغم من أن ذلك كان يمكن أن يكلّفه غاليا.
وعندما بدأت “ثورة الخامس والعشرين من يناير”، لم يتردد عبدالله كمال في الدفاع عن حسني مبارك. كان بين الأصوات القليلة التي حافظت على الحد الأدنى من الأخلاق رافضة ادارة ظهرها لرجل مثل مبارك كان عبدالله كمال يعتقد أن لديه حسنات كثيرة. لم يفعل ما فعله الإنتهازيون الآخرون…وما أكثرهم، بل بقي منصفا لمبارك وعائلته مع تركيز خاص وبالإسم على الدور السلبي الذي لعبه عدد من المحيطين به الذين كان يوجّه إليهم لوما مباشرا ويحمّلهم مسؤولية تدهور الوضع المصري في السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس السابق.
كنت على اتصال دائم معه، ليس بسبب زمالتنا الطويلة في مؤسسة “الراي” الكويتية فحسب، بل بسبب دعوته لي أيضا إلى الكتابة في “روز اليوسف” التي صارت تصدر صحيفة يومية أيضا. وسعى عبدالله كمال إلى ايجاد مكان للصحيفة في السوق المصرية. نجح في ذلك إلى حدّ كبير إلى أن ازيح من موقعه بعد الثورة مطلع السنة ٢٠١١. وقد تعرّض في تلك المرحلة لكل انواع الإتهامات التي بقيت اتّهامات، إذ ثبت أنّها كانت باطلة ولا اساس لها.
الأهمّ من ذلك أنّ عبدالله كمال كان من بين الذين كانوا يعترفون صراحة بأنّ مصر في حاجة إلى اعلام مختلف. كان يعتقد أن في استطاعتها بلوغ هذا الهدف بدل الإكتفاء بالتغني بالماضي تفاديا للقيام بأي جهد من أي نوع يصبّ في تطوير هذا القطاع الحيوي.
لم يكن يؤمن بصحيفة القارئ الواحد التي أسسها محمد حسنين هيكل احد الذين نظّروا لهزيمة ١٩٦٧. كان يؤمن بأن للصحيفة دورا في صنع الرأي العام الواعي بدل الإكتفاء بنيل رضا “الريّس” صباح كلّ يوم عبر مانشيت عريضة بالخط الأحمر تشيد بمواقفه أو عبر التلاعب بصورة من أجل وضعه في واجهة الأحداث كما حصل في إحدى المرّات في “الإهرام”. كانت الصورة تلك، التي جرى فيها تقديم مبارك على رؤساء آخرين في “الفوتو شوب”، فضيحة لمصر التي رفضت أن يكون عبدالله كمال من المشرفين الفعليين على الإعلام فيها.
كان يؤمن صراحة بأنّ للصحيفة وللإعلام عموما دورا في توعية المواطن إلى خطورة الآراء التي يبثها المتطرفون على شاكلة الإخوان المسلمين الذين كانت السلطة تحاربهم علنا وتسترضيهم في الخفاء عبر وضع بعض اعلامها في تصرّفهم.
خاض عبدالله كمال حربه على الأخوان. لم يهادنهم يوما ولم يداهن كما فعل غيره. كان الموقع الذي أسّسه قبل أشهر قليلة وهو” دوت مصر” نموذجا لما يمكن أن يكون عليه الإعلام المصري الحديث. كان يتصوّر أن مصر تغيّرت وأن الإعلام يجب أن يرافق هذا التغيّر، بل أن يقوده عن طريق قول ما يجب قوله للحاكم من دون مواربة، ولكن من دون الرضوخ للإخوان المسلمين أو مهادنتهم في أيّ وقت من الأوقات وفي أي ظرف من الظروف.
في موقعه الجديد، استعان عبدالله كمال بطاقات صحافية من بلدان مختلفة. كان يراهن على صحافيين من خارج مصر، من لبنان تحديدا، يعرفون مدى خطورة ميليشيا مذهبية مسلّحة مثل ميليشيا “حزب الله” على المجتمع العربي عموما والمجتمع اللبناني على نحو خاص. لم تنطل شعارات “حزب الله” يوما على عبدالله كمال حتّى عندما صدّق بعض السذّج في مصر أن الحزب انتصر على اسرائيل في حرب صيف العام ٢٠٠٦، في حين أن انتصاره كان على لبنان واللبنانيين.
أعترف بأنّي من الذين سيفتقدون عبدالله كمال، وذلك ليس لأنّه كان صديقا حقيقيا فحسب، بل لأنّي كنت استعين بخبرته ومعلوماته الدقيقة كلّما كتبت مقالا عن مصر. كان خير معين لي في مهمّة اصلاح أي خطأ يمكن أن أقع فيه. كانت بوصلته المصرية لا تخطئ. كان بين الأوائل الذين راهنوا على مصر وعلى الشعب المصري وعلى أن هذا الشعب لا يمكن في نهاية المطاف الرضوخ لحكم الإخوان المسلمين.
كان عبدالله كمال مصريا في العمق. كان يؤمن بالدولة المصرية العميقة ومؤسساتها القديمة. الأكيد أنّه لم يكن يتوقّع سقوط مبارك بالطريقة التي سقط بها. كنت شاهدا على ذلك عن قرب. لكنّ الأكيد أيضا أنّه لم يلتحق على الفور، كما فعل كثيرون بالذين لعبوا دورا في اسقاط الرجل وفي اختطاف “ثورة الخامس والعشرين من يناير” لاحقا.
حافظ عبدالله كمال على صدقيته. رفض المساومة. لم يشمت بمبارك. كان صادقا مع نفسه. احترم نفسه كصحافي وكمواطن مصري يعشق مصر أوّلا. احترم مصر. كان في الحقيقة صادقا مع مصر التي ساهم، بكلّ تواضع، في تحسين الإداء الإعلامي فيها. لم يغب في أي وقت عن باله أن مصر تمتلك طاقات كثيرة وكبيرة وأن ليس في الإمكان قطع الأمل بمستقبل أفضل لمصر ما دام هناك بين العرب الشرفاء من يقف إلى جانبها.
يظلّ عبدالله كمال خسارة كبيرة. ليس فقط خسارة لعائلته وأصدقائه والذين عملوا معه ورافقوه في مسيرته أكان ذلك في القاهرة أو في الكويت. إنّه خسارة لمصر وللإعلام المصري الذي كان عبدالله يراهن على تطويره وعلى اعادة وهجه على الصعيد العربي…بدل ترك الساحة للتخلّف والمتخلّفين الذين يقبلون بالرضوخ لإرهاب الأحزاب الدينية والمذهبية التي تتاجر بالإسلام وتستثمره في السياسة.
امتلك عبدالله كمال على الأقلّ ما يكفي من الشجاعة لتسمية الأشياء باسمائها في عصر عربي عزّ فيه الرجال الذين يتجرّأون على مواجهة المتاجرين بالدين والشعارات الطنانة.